الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خطيبهم كان يلثغ الراء فأسقطه من كلامه

خطيبهم كان يلثغ الراء فأسقطه من كلامه
18 نوفمبر 2009 22:24
انقسم الناس بعد فترة صدر الإسلام منذ 41 هـ، أي بانتهاء حكم الخلفاء الراشدين إلى فئتين وهما: فئة جبرية وأخرى قدرية. أما الجبرية فهم القائلون بالجبر وهو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته الى الله تعالى وهو مذهب بعض خلفاء بني أمية الذين كانوا يوهمون الناس بأن الأمويين لا حيلة لهم في شيء، إنما هو قدر من الله وجبر فعليهم الطاعة والاستسلام. أما القدرية فهم جماعة من التابعين رأوا أن الأمر ليس كما يراه بعض خلفاء بني أمية من المجبرة، فآثروا العزلة وتجنبوا الفتن السياسية وعاشوا للعلم والدين والزهد وقالوا بحرية الإنسان واختياره. بعد أن خرج الخوارج الذين أعلنوا مبدأهم “تكفير فاعل الكبيرة” كان لابد أن تظهر مسألة ماهية الإيمان والكفر والعلاقة بين العمل والإيمان، وهل العمل جزء من الإيمان، أم أنهما يعنيان شيئين مختلفين، وما بين المؤمن بالعمل كجزء من الأيمان وما بين “لا يضر مع الإيمان معصية” ظهر المعتزلة الذين قالوا برأي ثالث وهو “المنزلة بين المنزلتين”. حرية الإنسان تأثر المعتزلة بالقدرية الذين قالوا بالاختيار وحرية الإنسان، وتأثروا بالمجبرة في مسألة خلق القرآن ونفي الرؤية، وتأثروا بالذين لم يروا في مرتكب الكبيرة كافراً. ومن هنا خاض المعتزلة في مسألة الجبر والقدر وفي علم الكلام وتبحروا فيها، وهذه الأمور لم يعرفها الناس من قبل. أما اسمهم “المعتزلة” فقد ظل لغزاً وربما كان بسبب اعتزالهم حرب الجمل ولم يشهروا سيوفهم في موقعة “صفين”، وربما بسبب عدم تبيان الحق من الباطل في الصراع آنذاك، أي عدم مناصرة أحد الفريقين المتنازعين وعلى الوقوف موقف الحياد” كما يقول “النوبختي”. حمل المعتزلة ألقاباً منها “العدلية” لقولهم بالعدل و”الموحدة” لقولهم لا قديم مع الله و”القدرية” لأنهم وافقوا مَن قبلهم في القول بحرية العبد وقدرته واختياره، و”المعطلة” لأنهم يقولون بنفي صفات المعاني فيقولون: “الله عالم بذاته قادر بذاته”. حاولنا في هذه المقدمة أن نوضح مبادئ المعتزلة كما جاءت في كتاب “البلاغة عند المعتزلة” للدكتور محمد هيثم غرة والذي أصدرته دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث حديثاً ضمن سلسلتها بمناسبة مئوية الشيخ زايد الأول “زايد الكبير” الذي تحتفي بذكراه أبوظبي هذا العام. علم الكلام نشأ علم الكلام في أحضان المعتزلة، ونما وترعرع بين أيديهم، فمسألة مثل “المنزلة بين المنزلتين” كانت رأس علم الكلام، والأصل الذي دارت حوله سائر الأصول الأخرى، إلى جانب مسألة أخرى ومهمة وهي “كلام الله هل هو قديم أو مخلوق”، وبحث في ذلك الأمر جل علمائهم ابتداء من واصل بن عطاء (ت 131 هـ) الذي كان أول من فتق الحديث في علم الكلام، ومن ثم عمرو بن عبيد (ت 144 هـ) أحد مؤسسي مذهب الاعتزال، حتى أصبحت كلمة “متكلم” توازي “معتزلي”. ظهر الاعتزال عند انشقاق واصل بن عطاء وجماعته عن مجلس الحسن البصري (ت 110 هـ) وذلك في البصرة أوائل القرن الهجري الثاني، ثارت هذه المجموعة على الجمود والخمول في الفكر ودعت إلى البحث والتمحيص وإعمال العقل في كل مسائل الدين والحياة واللغة. بمعنى آخر كانوا عقليين في إثبات العقائد، وقد استعانوا بالقرآن الكريم يستمدون منه ما يؤيد آراءهم وامتازوا باللسن والبيان والفصاحة. في بداية الأمر كان الاعتزال مسألة اجتهادية، ثم تحول إلى عقيدة، نشأ الاعتزال في البصرة وسرعان ما انتشر في العراق كله وبلاد الشام من بعده، فاعتنق مذهبهم بعض من حكام بني أمية مثل يزيد بن الوليد ومروان بن محمد. مدرستا الاعتزال في العصر العباسي استفحل أمرهم حتى صار للاعتزال مدرستان وهما مدرسة البصرة وشيخها واصل بن عطاء، ومدرسة بغداد وشيخها بشر بن المعتمر (ت 210 هـ) فكان العصر العباسي بحق عصر الاعتزال حتى نجح المعتزلة في جذب بعض خلفاء بني العباس كالمنصور العباسي (ت 158 هـ) الذي كان يجل المعتزلي عمر بن عبيد حيث قال في رثائه: صلّى الإله عليك من متوسّد قبراً مررت به على مُرّان قبراً تضمن مؤمناً متخشعاً عبد الإله ودان بالقرآن ولو أن هذا الدهر أبقى صالحاً أبقى لنا عَمرْاً أباعثمان وضعف الاعتزال في زمن المهدي (ت 169 هـ) وفي زمن الرشيد (ت 193 هـ) لكنه أصبح قوياً في زمن المأمون (ت 218 هـ) حيث كان يقرب العلماء ومن بينهم شيخ المعتزلة “أبو اسحق النظام” (ت 231 هـ) وأبو الهذيل العلاف (ت 235 هـ) والقاضي أحمد بن داود (ت 240 هـ) وكأنني أقول إن المأمون قد اعتنق الاعتزال حيث صار الاعتزال سياسيا. اسماء الفرق تشتتت المعتزلة فيما بعد إلى فرق عقلية وكلامية بحسب قادتها فمنها “الواصلية” نسبة الى واصل بن عطاء، زعيم مدرسة البصرة، و”الهذيلية” نسبة إلى محمد بن الهذيل العلاف و”النظامية” نسبة إلى أبي اسحاق النظام وكان أهم قادتها إبراهيم بن سيار و”الخابطية” نسبة الى أحمد بن خابط و”البشرية” نسبة الى بشر بن المعتمر و”المعمرية” و”المردارية” و”الثمامية” و”الجاحظية” نسبة الى أبي عثمان الجاحظ و”الحياطية” و”الكعبية” وغيرها الكثير. تأثر الاعتزال بالفلسفة اليونانية وبثقافات الأمم الأخرى، وقد ترجمت كتب أرسطو في عهد المأمون، ومن هنا أخذ المعتزلة يدرسون المنطق ويبحثون في الفلسفة، وأقبل شيوخهم على مناظرة الفلاسفة، ولكن اتجاههم للفلسفة ليس لتبنيها وإنما لاستخدام أدواتها ضد الخصوم حتى أن الهذيل العلاف اتهم بالتأثر بأرسطو. قال أرسطو: “إن البارئ علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله”. قال أبو الهذيل العلاف: “علمه هو هو وقدرته هي هو”. أخذ المعتزلة من السفسطائيين علم الكلام ومنطقه وصحته وبلاغته، فغاية الكلام الغلبة حيث قال العتابي معرفاً البلاغة “إظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق”. ولا يعني هذا أن الفلسفة مقبولة عند جميع علماء المعتزلة، فالزمخشري كان يكره الفلسفة لأنها تجر الى الغواية. أما مبادئ المعتزلة فهي خمسة “التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بي المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هذا مع تحكيم العقل في كل جانب منها. لله در العقل من رائد وصاحبٍ في العسر واليسر وحاكم يقضي على غائب قضيةَ الشاهدِ للأمر وتفصيل هذه المبادئ يوردها كتاب “البلاغة عند المعتزلة” تفصيلاً مقبولا واحدا بعد الآخر. بلاغيون معتزلة تبحر المعتزلة في شتى العلوم ودرسوا اللغة العربية وشغفوا بفنونها وأرادوا تعلم كل شيء حتى قال الجاحظ فيهم “والمتكلمون يريدون أن يعلموا كل شيء ويأبى الله ذلك”. وقال بشر المعتمر يصفهم: سهرت عيونهم وأنت عن الذي قاسوه نائمْ لولا مقامهمُ رأيت الدينَ مضطربَ الدعائمْ وكان من المعتزلة النقاد والأدباء واللغويون والبلاغيون والخطباء ومن شعرائهم كلثوم العتابي (ت 220 هـ) وصفوان الأنصاري الذي عاصر بشار بن برد الذي قال كفراً في بيته الزرادشتي: الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار فرد عليه صفوان: زعمت بأن النار أكرم عنصراً وفي الأرض تحيا بالحجارة والزندِ وتخلق في أرحامها وأرومها أعجايبُ لا تحصى بخط ولا عقدِ فيا بن حليف الطين واللوم والعمى وابعد خلق الله من طرف الرشد وهي قصيدة طويلة تدل على عمق ثقافة المعتزلة في الاحتجاج والرد على الخصوم. ومن علماء الاعتزال في البلاغة المرزياني والجرجاني والصاحب بن عباد وأبو حيان التوحيدي واللغوي قطرب وأبوسعيد السيرافي وابن جني والرماني وابن سنان الخفاجي والزمخشري. البلاغة سمتهم الغالبة التي تميزوا بها والخطابة لسانهم والفصاحة لهجتهم فاعتنوا بها وجودوها قولاً وتأليفاً، وكان خطيبهم الأول واصل بن عطاء وللغرابة أنه كان ألثغ قبيح اللثغة بالراء مما سبب له حرجاً فجهد فاستطاع أن يخلص كلامه من حرف الراء كما قال الجاحظ، فانتظم على ما أراد واتسق له ما أمل. ولم يفطن أي سامع له لهذا الأمر فقال فيه أبو الطروق الظبي: عليم بإبدال الحروف وقامع لكل خطيب يغلب الحق باطله وقال فيه أيضاً: ويجعل البّر قمحاً في تصرفه وجانب الراءَ حتى احتال للشعر ولم يطق مطراً والقولُ يعجلهُ فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطرِ مسائل البلاغة ويبحر كتاب “البلاغة عند المعتزلة” بحثاً في موضوع المعتزلة وبيان القرآن متناولاً في هذا الحقل المعتزلة والإعجاز والمعتزلة والمجاز. لقد فسر المعتزلة القرآن بالعقل وكانوا يستجيبون لمبدأ إعمال العقل والاجتهاد والاستنباط، وردوا على شطحات ابن الراوندي وبخاصة أبو علي الجبائي المعتزلي الفقيه وكان لهم أقوال في الإعجاز. أما رأيهم بالمجاز فهي آلتهم التي كانوا يستخدمونها في تفسير القرآن الكريم. فأولوا آياته تأويلاً يخدمهم مذهبهم الفكري وعقيدتهم الاعتزالية، واللغة عندهم مواضعة واصطلاح وليس إلهاماً أو توقيفاً من الله تعالى كما يرى مخالفوهم. تناولوا موضوعة اللغة بين الحقيقة والمجاز وقسموا الحقيقة الى لفظية ولغوية وشرعية وعرفية، أما المجاز فهو بابهم العظيم إذ هي لديهم عناصر حياة اللغة أي التأويل وبذا تنبهوا الى المجاز القرآني الرائع فبرعوا في قراءته، كونه “المجاز” كاشفاً عن غطاء المعنى الذي لا يظهر من خلال دلالة اللفظ الحقيقي. لقد وجه المعتزلة في مجازات القرآن ما يثير تأملهم العقلي واجتهادهم النظري. يدرس كتاب “البلاغة عند المعتزلة” موضوعة مهمة ألا وهي علاقة المعتزلة بعلم البيان وعلم المعاني والبديع. ويرى كثيرون أن أول من أطلق مصطلح البيان هو المعتزلي ثمامة بين أشرس عندما عّرف البيان أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك، وكأنه قال ما البلاغة؟ واعتنى المعتزلة بالاستعارة وقسموها من حيث المحسوس والمعقول ومن حيث أنواعها بحسب طرفيها “تصريحية” و”مكنية”. ومن حيث ما يلائم المشبه أو المشبه به الى “مطلقة وتجريدية وتشريحية” ومن الالتقاء والتضاد “وفاقية” و”عنادية”. ومن حيث اللفظ المستعار جامداً أكان أم مشتقاً وهي الاستعارة الأصلية والتبعية. لقد حول المعتزلة مسائل البلاغة من استعارة وكناية وتشبيه الى شيء جميل فني يؤثر في النفس بحثاً عن السر البلاغي. وقد مزج بعضهم بين البلاغة والمنطق فحاولوا استخدام كل ثقافتهم في الدرس البلاغي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©