الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفلام الوباء.. قصائد مكتوبة بالضوء

أفلام الوباء.. قصائد مكتوبة بالضوء
18 نوفمبر 2009 22:24
بعضها بريء من العمى.. وبعضها موبوء بـ "داء التسطيح" أفلام الوباء.. قصائد بصرية مكتوبة بالضوء شهيـرة أحـمد عكست "أفلام الوباء" رؤى جمالية وفلسفية مختلفة، ارتفعت وانخفضت في مستواها الفني والجمالي تبعاً لاختلاف زوايا النظر لدى مخرجيها، وهدفهم من توظيف الوباء سينمائياً، ففي الوقت الذي جاءت فيه بعض الأفلام أشبه بقصائد بصرية ساحرة ومبصرة ومكتوبة بلغة الضوء، جاءت أفلام أخرى "موبوءة"، أصابها "وباء التسطيح" على صعيد معالجتها الفكرية والفنية، والتناول الفج لموضوع يستحق أن يضاء بضوء مغاير ومسؤول. الباحث المتقصي لآثار الوباء على أرض السينما يجد بين يديه بعض الأفلام التي ارتقت في خطابها الإنساني والفني وهي تتناول الوباء أو توظفه دلالياً، أو تصور الزوايا المعتمة إنسانياً متقصية مباهج الروح الخفية، وتوتراتها وعزلتها ووحدتها وهيجان أحزانها، أو ترسل برسالة تحذير أو جرس إنذار يدق معلناً خطورة الحال التي وصلت إليها الحضارة الحالية في نزوعها العدواني، وتعصبها الأعمى للأعراق والألوان والجغرافيات الضيقة، وتقسيمها العالم إلى شمال وجنوب، ومتقدم ونامٍ، ومتمدن ومتخلف، وغيرها من المفاعيل والأبعاد الصراعية التي تنطوي عليها والتي تجعلها قابلة للتدمير الذاتي. صورة.. إنما سينما بعيداً عن الجدل الذي يثور عادة عندما تجري المقارنة بين الرواية المكتوبة ونسختها السينمائية، والذي ينصب غالباً لصالح الرواية لاعتبارات كثيرة أهمها ما يمكن تسميته “قتل الخيال” الذي تمارسه السينما حين ترسم صورة بعينها للرواية، وتختزل آلاف الصور والخيالات والأفلام الشخصية، إن جازت العبارة، التي يمكن أن يحققها كل قارئ على حدة. بعيداً عن كل هذا، ومهما كانت الانتقادات التي توجه لمثل هذا الزواج بين السينما والرواية، فثمة محاولات زواج ناجحة جداً على هذا الصعيد، ومن المؤكد أن الرواية في هكذا زيجات أغنت السينما فيما جسدت الثانية كل ما حملته الرواية من روعة عبر فن مدهش، يمتلك إمكانيات تأثيرية هائلة وجماليات بصرية لا تشبع العين من ارتشافها. فيلم “الموت في البندقية” أو “الموت في فينيسيا” المأخوذ عن رواية الكاتب توماس مان، واحد من الزيجات الناجحة، بل الخلاقة والمبدعة على هذا الصعيد، وفيه يجسد المخرج لوتشينو فيسكونتي ببلاغة بصرية ساحرة مقولات الرواية، حتى لكأن الحروف تكاد تبرق على حواف المشهد من دون أن يلغي هذا الالتزام شبه الحرفي بهدف الرواية قدرات المخرج الإبداعية في ترجمتها إلى صورة بصرية ذات سوية فنية استثنائية، بل إن من يشاهد هذا الفيلم يظل حتى وقت طويل مشبعاً بجرعته الجمالية، ومشهدياته الساحرة التي تدير الرأس. فيسكونتي رائد الواقعيّة الجديدة في السينما وصاحب فيلم “الأرض تهتزّ” لا يبدو أن أي شيء (لا الأرض ولا غيرها) يهتز تحته وهو يخرج هذا الفيلم الفاتن، بل يتضح بجلاء كيف أحب هذا الرجل السينما وحملها كل هواجسه الجماليّة والوجوديّة وانعطافات المرحلة التاريخية التي يعلن موتها، ويكتب نعيها الأخير في مشهد بالغ الفتنة على شاطئ مدينة تغرق في الوباء. والفيلم كما الرواية ينعى عصراً كاملاً ويبشر بعصر أوروبي جديد هو عصر الآلة الذي طالت آثاره ملامح الحياة كلها، اقتصاداً واجتماعاً وفناً وأدباً وفكراً، ويختار من بين هذه التجليات مناقشة مفهوم الفن والجمال. ولا يبدو آشنباخ، الموسيقي الذي يعيش عقماً إبداعياً جاء يبحث عن حل له في البندقية في اختياره البقاء في المدينة التي ضربها الطاعون، سوى التجسيد الحي لطبقة كاملة تتهاوى، وعالم يتداعى بكل مفرداته وأفكاره ومؤسساته المفاهيمية والفكرية. نحن في هذا الفيلم أمام قصيدة بصرية تتعدد فيها مستويات النشيد وأدواته وترتقي إلى ذرى شعرية لا يتحصل عليها إلا قلة من المخرجين المبدعين الذين عرفهم تاريخ السينما. ناهيك عن الإخلاص الواضح من قبل الفيلم للرواية وفلسفتها والذي يترجمه المخرج عملياً في كادرات الصورة، وزوايا المشهد، والغنى البصري الهائل في أماكن الأحداث ومجرياتها ليصل إلى الفحوى التي تتضمنها السطور المكتوبة. علاوة على أن التغيير الأساسي الوحيد الذي أجراه فيسكونتي على بطل توماس مان هو استبدال الكاتب الذي يعيش أزمة كتابة بموسيقي لامع يعاني من السقوط الفني الذي سرعان ما يتحول إلى سقوط فكري وانهيار على مستوى الشخصية التي تظهر في آخر الفيلم أشبه بالمهرج، وهو تغيير لم يضر بفحوى الشخصية ولا الترميزات الكامنة وراء خطوطها المرسومة بدقة، فلا السقوط المروع تغير ولا المعنى المجازي تضرر، ولا وقع المخرج في إغواء علاقة جنسية تنحرف بالرواية عن مقصدها الرئيسي بل جاء اختياره للبطل الموسيقار واحداً من المداميك التي ساهمت في الثراء البصري للفيلم. ويقدم فيلم “عماء” للمخرج البرازيلي فرناندو ميراليس، المأخوذ عن رواية ساراماغو نموذجاً ثانياً على نجاح هذا الاقتران السينمائي الروائي، فالفيلم لا يقل جمالاً وإبداعاً عن الرواية، بل يضاهي في قدرته على تفجير الخيال على مستوى الصورة ما فعله ساراماغو في الرواية من تفجير للخيال. ربما بدت غرائبية الرواية أكثر شفافية في غلالة الكلمات لكنها لم تكن سيئة بالمرة في المشهد السينمائي، بل امتلأت المشاهد المتواترة لإصابات العمى الأبيض بالانثيالات الفكرية والحمولات الفلسفية التي يبدو أن المخرج هضمها تماماً. ربما يفسر ذلك أن ميراليس استغرق ما يقارب 11 عاماً (منذ 1997) ليقنع ساراماغو بتحويل روايته إلى فيلم، وظل يرفض معتبراً أن تجسيد العمى سينمائياً “سيكون أمراً بالغ السوء”، كما يورد صلاح هاشم، ثم وافق الروائي بعد مشاهدته أفلام ميراليس معتبراً أن “بإمكان هذا المخرج الخروج بفيلم جيد من روايته”. يبدأ فيلم “عماء” أو “بلايدنس” من الإشارة الضوئية، من سائق يهبط عليه العمى من حيث لا يدري، وأحد المارة يساعده على قيادة سيارته ومن ثم يسرقها، ثم يتفشى الوباء في المدينة كما حدث في الرواية التي حرص الفيلم على تجسيدها بكل جمالياتها؛ العمى الأبيض، تجهيل أسماء الممثلين والشخصيات، عنابر الحجر الصحي، الأنانية، الجشع، اختلال المعايير كلها ظهرت في أداء الممثلين وحركاتهم وملامح وجوههم وتعبيراتهم الجسدية. أما “الحب في زمن الكوليرا” الذي أخرجه الأيرلندي مايك نيوويل، فهو النموذج الثالث في هذه النوعية الرائعة من الأفلام، وهو يقدم نموذجاً إضافياً على نجاح الاقتران السينمائي الروائي وإن بشكل أقل من سابقيه، ومع التضحية قليلاً بالخيال المحلق لماركيز وغير قليل من سحريته ومناخاته التي يصعب التعبير عنها بأي لغة غير لغته، وهي في الحق واحدة من المرات النادرة، بل والنادرة جداً، التي تتفوق فيها اللغة المكتوبة على لغة السينما بكل ما فيها من عذوبة وسحر وإمكانيات تأثيرية وبصرية هائلة. ربما لهذا السبب وجد الفيلم من يؤيده ومن يعارضه أو يرى فيه “ترجمة غير موفقة” لرائعة ماركيز الروائية، أما فيما يخص توظيف الوباء فقد سبق الحديث عن الرواية وكيفية توظيفها للوباء وهو الأمر الذي لا يفترق فيه الفيلم عن الرواية إلا على مستوى الطرح الجمالي. ومن بين الزيجات السينمائية الروائية الناجحة أيضاً، فيلم المخرج الأرجنتيني العالمي لويس بوينزو المأخوذ من رواية أبير كامو الشهيرة “الطاعون”، أما الفيلم فيحمل اسم الرواية ويترجمها إلى صورة بصرية صادقة لا تقل صدقاً في تصويرها للواقع عن الرواية، وأما المخرج فهو واحد من الذين دخلوا تاريخ السينما بجدارة لا سيما في فيلمه “التاريخ الرسمي” على الرغم من قلة إنتاجه (حقق ستة أفلام فقط) من أهمها فيلمه الطاعون. صورة.. إنما مرعبة في المقابل، وأمام هذا الغنى الجمالي في المضمون والشكل، ثمة صورة أخرى مرعبة، فقيرة في الغالب على مستوى الفكرة وتجسيدها البصري، تلك هي إخفاقات أفلام الخيال العلمي أو الآكشن، سواء كانت مأخوذة عن روايات أم لا، وتلك هي الزيجات الفاشلة بالثلاثة بين السينما والرواية، والتي غالباً ما تكون خساراتها فادحة للروائي والمخرج والجمهور. مبانٍ مدمرة. هواتف معطلة. مدن خربة تنعق فيها الغربان السوداء أو تزعق فيها الخفافيش. قرى خاوية على عروشها. بشر خائفون، عيونهم تنضح رعباً، وجوههم مدماة، شفاههم مشققة من العطش، يدورون حول المكان وحول أنفسهم، تائهون، حائرون، يركضون هنا وهناك في فوضى فاقدين القدرة على التركيز، يتخطفهم الموت من كل جانب فيما هم يصارعون بكل ما أوتوا من قوة للصمود والبقاء على قيد الحياة. والسبب “وباء مجهول” ضرب البشرية وأوقعها في “حيص بيص” من العيار الثقيل. هذه هي الخلطة أو التوليفة التي تقوم عليها أفلام الخيال العلمي والرعب والآكشن، التي لم تر في الوباء إلا فعله الظاهري. وتتوفر على الكثير من مشاهد العنف والدماء المسفوحة بدون خطيئة ولا ذنب، سوى فرضية جهنمية دارت في عقل المخرج أو كاتب السيناريو أو الروائي إذا كان الفيلم مأخوذاً عن رواية. هذا في العموم أما في التخصيص فإن هذا القدر الهائل من العنف والدم المسال بفعل الموبوئين والمرضى والبنادق والرشاشات، وهي مفردات لا مناص منها، يتم استغلاله تحت عنوان معلن هو “إنقاذ البشرية” فيما الهدف الحقيقي هو إشباع نوازع العنف الكامنة في نفوس المشاهدين لا سيما المراهقين، ولعل مكمن الخطورة في هذه النوعية من الأفلام أنها “تطبِّع” العنف وتجعله عادياً بل ومبرراً في أحيان كثيرة. وتحت هذه النوعية تندرج أفلام ما بعد النبوءة (Post Apocalyptic)، والنبوءة المقصودة هنا ليست نبوءة الأنبياء ولا المرسلين، بل نبوءة راجت في التنظير السينمائي من قبل بعض صناع الأفلام وكتاب السيناريوهات، وهي أن البشرية سوف تنتهي بحرب نووية، أو لعنة إلهية، أو وباء فتّاك يقضي على البشر وحضارتهم. Zombies و Down of the Dead و Land of the Dead، و Resident Evil و 28 Days Later و weeks later 28 و I am Legend وغيرها كثير لا يمكن حصره، ليست سوى نماذج لهذه العينة التي تمتلئ بمشاهد الدماء والقتل والخراب بدءاً من عناوينها ومروراً بأحداثها وانتهاء بخاتمتها التي تبشر بانتصار “الجندي الأميركي” أو “الهيرو والبطل الخارق”، وهي رسالة تمر بسهولة في خلطة التسلية، إلى حد أن فيلم “أنا الأسطورة” الذي انتهى أولاً بموت البطل أعيد تصويره مرة أخرى تحت إلحاح من الجمهور لينتهي نهاية سعيدة. وهنا يتضح إلى أي حد استطاعت السينما أن تكرس هذه الصورة النمطية للبطل الأميركي حتى إن كسرها ولو من داخل هوليوود لم يعد ممكنا. لقد استوطنت داخل قلوب وعقول المشاهدين فباتوا يرفضون أي نهاية أخرى غير النهاية التقليدية. قلّ أن نعثر في هذه النوعية من الأفلام على وظيفة للوباء، باستثناء الإرعاب والتسلية (إن كان ثمة من يجد في مشاهد الرعب تسلية ما)، وفي مرات محدودة جداً وفي أحسن الأحوال، برز الوباء وكأنه تعليق سياسي على أوضاع العالم الراهن كما عند خوان كارلوس فريسناديللو في فيلم “بعد 28 أسبوعاً” أو على غرار ما فعله جورج روميرو في فيلم “أرض الموتى”. صورة.. إنما شجاعة النوعية الثالثة من هذه الأفلام هي أفلام الوعي، وتحتها تندرج قلة قليلة من الأفلام تعاطت مع الوباء بوصفه مشكلة اجتماعية، وأبرزت آثاره وما يمكن أن ينجم عنه في محاولة للتوعية وتنوير المشاهد بخصوص الوباء وكيفية التعامل معه، وهي في الغالب أفلام ذات بعد إنساني يركز على الآلام الشخصية التي يعيشها المريض الموبوء أو يسلط الضوء على المناطق المعتمة في المجتمعات الموبوءة. المخرجة الهندية ميرا نير مثال جيد على هذه النوعية المسؤولة من الأفلام، حيث وضعت رسالة “مكافحة الإيدز” على شاشة السينما مغلفة إياها بثوب فني وجمالي، وبثتها عبر عدد من نجوم السينما الهندية وأبطالها في فيلمها “الهجرة” الذي طرقت فيه موضوع الفيروس كعامل مشترك يربط بين الطبقات العليا والعاملة والعمالة المهاجرة وسكان المناطق الحضرية والريف. ولم تكتف بالفيلم بل تبنت حملة لإنتاج سلسلة أفلام بالتعاون مع مصورّي الأفلام الهنود وبتمويل مؤسسة بيل وميليندا جيتس الخيرية. والمخرجة التي تدرك أهمية السينما أرادت بعملها هذا أن تسخر “التأثير الهائل” للسينما الهندية لتوعية الناس بشأن الإيدز. وقد اطلقت على مشروعها اسم “جاغو” ومعناها بالهندية “استيقظ”، وشارك به أربعة مخرجين يقدم كل منهم رواية دراماتيكية طولها 15 دقيقة”، أحدهم المخرج فيشال باردواج الذي صوّر “أخوة الدم” ليحكي عن الآثار النفسية لعدوى مرض نقص المناعة المكتسب، وكيفية التعايش معه بصورة إيجابية. فيما ركز سانتوش سيفان وهو مخرج من جنوب الهند على العار الذي يكتنف الإيدز. ويروي قصة فتى صغير منع من الالتحاق بالمدرسة لأن والديه كانا مصابين بالفيروس. صورة .. إنما عربية! باستثناء فيلم الراحل يوسف شاهين “اليوم السابع” المأخوذ عن رواية الكاتبة أندريه شديد (سبق وعرضنا له في الحديث عن الوباء والرواية)، وفيلم “صراع الأبطال” للمخرج المصري توفيق صالح الذي أنتجه في العام 1962 يصعب القول إن السينما العربية عالجت أو وظفت أو استلهمت أو استوحت الوباء في أعمال سينمائية راقية، بل على العكس تماماً، تبدو صورة السينما العربية في هذا الموضوع قاتمة وبائسة. وفي الحالات التي حدثت فيها إشارة للوباء لم يأت في سياق إبداعي أو فكري بقدر ما كان مجرد إشارات سريعة تناثرت هنا وهناك. وفي فيلمه المشغول بلغة سينمائية جميلة، يستعرض توفيق صالح في “صراع الأبطال” آثار الاحتلال البريطاني لإحدى القرى المصرية التي ضربتها الكوليرا بسبب الآثار التي تركها جنود الاحتلال داخل مخلفاتهم الحربية، من دون أن ينسى التصريح والتلميح بأن “الجهل وقلة الوعي” ليس هما السبب الحقيقي وراء ما حدث. ومؤخراً، تناقلت وسائل الأنباء خبر فوز فيلم تسجيلي يحمل عنوان “المستعمرة” بالجائزة الأولى في المهرجان القومي للسينما المصرية، وذكرت أن الفيلم يتناول مستعمرة الجذام في أبو زعبل ـ منطقة نائية ومهملة جدًا على أطراف القاهرة ـ ويعرض الفيلم حياة مرضى هذه المنطقة المنسية التي يود الكثيرون بترها من أرض القاهرة لأنها تحمل المصابين بمرض الجذام المعدي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©