الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهروب من «الواقعية السحرية»

18 نوفمبر 2009 22:31
قد يتساءل البعض من متابعي الإبداع في العالم حول مصير الإبداع الروائي والقصصي في أميركا اللاتينية بعد أن بلغ جيل “البوم” أو “الانفجار” أوجه، ذلك الجيل الذي سحر العالم بروايات مثل “مائة عام من العزلة” للكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل 1982، و”أرتيميو كروث” للمكسيكي كارلوس فوينتس، و”الحجلة” للأرجنتيني خوليو كورتاثار، وغيرها من الأعمال والأدباء الذين زرعوا في العالم ما أسمته الدراسات النقدية بعد ذلك باسم “الواقعية السحرية”، فوقع في أسرها أجيال من الكتاب الجدد، ليس في العالم الثالث فقط، بل في أوروبا والولايات المتحدة خاصة أنه لم نعرف شيئا عن الكتابة الجديدة بعد هؤلاء. ولكن الإجابة عن هذا التساؤل موجودة داخل أميركا اللاتينية نفسها، وان لم يعرفها من يتابعون هذا الإبداع من خارج اللغة الإسبانية التي يؤكد أبناء تلك البلاد على تسميتها “اللغة القشتالية” وكأنهم يحاولون تأكيد تفرد الإبداع في تلك اللغة عنه في الإبداع المكتوب داخل إسبانيا، وأيضاً تأكيداً لأن المركز الإبداعي انتقل نهائيا إلى أميركا اللاتينية التي كانت خلال الاستعمار الإسباني تمثل الهامش في كل شيء. انحسار قبل أن تنحسر موجة تأثير الواقعية السحرية برزت مجموعة من الكُتاب الجدد، الذين يمكن اعتبارهم جيلاً جديداً يغذي مرحلة جديدة تحل محل تلك التي قاربت على الخمود، وكتاب المرحلة الجديدة يتحملون عبئين كبيرين: الأول هو فتح طريق جديد وصعب للحلول محل موجة لها قدسيتها الخاصة في عالم الكتابة في العالم كله كالواقعية السحرية. والثاني هو تحمل عبء البدء في شق طريق جديد بعيد عن تأثير المرحلة السابقة، ولكنه لا يمكن أن يكون منفصلاً بأي حال من الأحوال عن التراث الخاص بتلك المنطقة؛ لأن الانفصال عن التراث يعني الانتحار. من أبرز مبدعي الموجة الجديدة التي لم يستطع النقاد تصنيفها، أو إطلاق اسم خاص عليها حتى الآن، الكاتب البيرواني “ألفريدو برايس اتشينيكي” (من مواليد العاصمة البيروانية ليما عام 1939)، الذي قدم العديد من الروايات والمجموعات القصصية التي بدأت بمجموعته “الحديقة المغلقة” الصادرة عام 1968، وهو كاتب يشترك مع جماعة “البوم” بالمنفى الذي عرفه منذ شبابه المبكر على إثر الانقلاب الذي جاء بحكم الدكتاتورية العسكرية إلى البيرو عام 1968، وتلتها بعد ذلك سلسلة من الدكتاتوريات المدنية التي منعت الكاتب من العودة إلى بلاده وأقام مجبراً ما بين باريس ومدريد. يصنف نقاد الأدب “الفريدو برايس اتشينيكي” بأنه كاتب الذاكرة؛ لأن معظم كتاباته تتخذ من الذاكرة والذكريات الكامنة في اللاوعي ركيزة للبناء الروائي وتشكيل الشخصيات التي يبدو أن معظمها يعيش حياة المنفى كمؤلفها تماماً، ومن أبرز الملامح البنائية لتلك الرواية اختلاط الواقع المعاش بالواقع المتخيل، وتداخل صوت الراوي بأصوات أبطال القصص والروايات التي تبدو في النهاية محاولة لإعادة كتابة الماضي بهدف تقويمه، لكن فترات النسيان التي تعتري الذاكرة تجعل من المستحيل إعادة كتابة الماضي خالياً من السقطات والأكاذيب، أي لا هروب من ملامح الواقع المعاش في الواقع المتخيل، ومن هنا يرى البعض أن تأثر هذا الكاتب باوسكار وايلد واضحاً في استخدام الخداع لبناء نقاط الضعف في شخصياته الروائية. سخرية بالطبع لا يستطيع الفريدو برايس اتشينيكي أن يهرب من تأثيرات مبدعي الواقعية السحرية في الأميركية اللاتينية وبشكل خاص الأرجنتيني “خوليو كورتاثار”، الذي عايشه لفترة طويلة في باريس، إضافة إلى عدد من الكتاب الفرنسيين الكلاسيكيين مثل هوجو وبلزاك ومارلو، بينما يبدو تأثره بارنست هيمنجواي واضحاً في الحوارات القوية التي تبرز حيوية أبطاله. إلا أن كتابات الفريدو تتميز بالميل إلى السخرية من الواقع والشخصيات معاً، وان كانت تلك السخرية تبدو أكثر حدة لتناقض الواقع المتخيل في الروايات مع الواقع الماضي المعاش الذي يحاول الكاتب أن يصفه ويقومه وفق رغبته مما يجعل اختلاف القيم بين الواقعين اقرب في تناقضه إلى سخرية كل منهما من الآخر منه إلى تقويم أي منهما للآخر بفرض ما يعتقد أنها القيم الأكثر سيطرة مما يجعله يضع كل واقع في قناع لا يعكس حقيقة ما يهدف إليه. يبدو هذا الملمح بارزا في روايته “عالم من أجل جوليوس” الصادرة عام 1970 وإن كانت تلك الرواية نابعة فقط من ذاكرة المؤلف الراوي إلا أنها حاولت تقديم إمكانات متعددة لعالم جوليوس المتخيل: القصر والأماكن المحيطة به، وكذلك الأسرة، وذلك من خلال وجهتي نظر متعارضتين مما يخلق تناقضا مثيراً للضحك وان كان ضحكاً أقرب إلى البكاء؛ لأنها سخرية حزينة، إلا أن اللغة التي ينسج بها الكاتب مشاهد الرواية تقربها من القارئ حتى تخدعه بوجود هذا العالم في الواقع يدفع بنبض الحياة في الفواصل الطبقية التي تفصل أسرة جوليوس عن غيرها من الطبقات الاجتماعية في العاصمة البيروانية ليما، وهي سخرية من التركيب الأبوي للمجتمع في البيرو. هناك أيضاً ملمح مهم من ملامح الكتابة عن الفريدو برايس اتشينيكي، وهو تكرار الشخصيات ما بين أعماله القصصية والروائية، حيث نجد أبطال قصصه يعودون إلى الحياة في رواياته بأسمائهم وتجاربهم الحياتية، مثل جوليوس والأب فرنانديتو رانشيل ومانولولو وفيليبي كاريو وماكس جوتيرييث.. إلخ، وفي رأي بعض النقاد أن ذلك التكرار يجعل تلك الشخصيات المتخيلة أقرب إلى الشخصيات الحية التي يلتقي بها القارئ خلال تجواله في شوارع ليما، أي أن الكاتب يخلق من المبتدع ما يشبه الأسطورة الحية لذلك يطلقون عليها “الميتافيكثيوناليداد” Mitafeccionalidad أي المتخيل أو المبتدع الأسطوري. قص يستخدم الكاتب أحياناً القص داخل القص، ويبدو هذا واضحاً في قصته “فلورنس” التي تتناول من خلال الراوي حكايته كمدرس مع تلميذته الفرنسية فلورنس في باريس، وبعد انتهاء تلك القصة ومضي زمن طويل يحاول المدرس أن يستعيد تلميذته أو ذكرياته معها لكنه لا يعرف مكانها بعد أن فرق بينهما الزمن، فيقوم بكتابة قصته معها وينشرها في كتاب لعل فلورنس تقرأه وتبحث عنه لاستعادة تجارب الماضي، هذا الخلط ما بين الحاضر والماضي وما بين الواقع والمتخيل يخلق من التباعد تقارباً، لكنه ينتهي بتباعد أكثر إيلاماً؛ لأن الأمل في اللقاء يتحول إلى يأس. في روايته “التحول الأخير لفيليبي كاريو” الصادرة عام 1988 يبحث الكاتب عن كتابة جديدة لرواية مختلفة عن أعماله السابقة من خلال استخدام “الميتافيكثيوناليداد” أو الأسطوري المتخيل، البطل فيليبي كاريو المعماري الناجح الذي لا يحب عمله يحاول الانتقام من الذين دفعوه باتجاه أن يكون مهندساً معمارياً رغم انفه، يستعيد الماضي ويعيش فيه، لكن الفراغات التي يتركها نسيان بعض التفاصيل الماضية يجعله عاجزاً عن استعادة الماضي كاملاً، مما يجعل من إعادة تشكيل ذلك الماضي من جديد عملية صعبة. قدم الكاتب ألفريدو برايس اتشينيكي مؤخراً آخر أعماله الروائية “التهاب لوزتي طرزان”، والتي لا يمكن تبين ملامحها من خلال عنوانها؛ لأنها رواية لا علاقة لها بطرزان الذي نعرفه، ولا بالغابات الأفريقية التي احتضنت طرزان، ولا حتى بمناخ البيرو ـ موطن الكاتب ـ أو بأي دولة أخرى من أميركا اللاتينية أو أفريقيا، كما يتبادر إلى ذهن القارئ لأول وهلة. تتناول الرواية قصة صداقة عميقة بين “خوان مانويل كاربيو” المغني البيرواني الذي يعيش لاجئاً سياسياً في باريس، ويتعيش على ما يجود به الناس عليه بعد سماع الموسيقى التي يعزفها في الشوارع والميادين، والسيدة “فرناندا ماريا دي لا ترينيداد مونتي مونتيس”، والتي يختصر الكاتب اسمها الطويل أحياناً إلى “ميا”، التي جاءت من السلفادور لتعمل في منصب مهم في منظمة “اليونسكو”، وزوجها التشيلي “انريكي” المصور الفوتوغرافي الفاشل المدمن، مع وجود شخصية رابعة تتمثل في الأميركي “بوب بين”، الذي يحاول أن يفرض النظام على تلك الحياة المضطربة التي يعيشها أبطال الرواية، وبشكل خاص حياة “ميا”. رسائل تدور الرواية في زمن يمتد إلى ثلاثين عاما كاملة، وأكثر الرواية يتم سرده من خلال رسائل متبادلة بين موظفة “اليونسكو” والمغني البيرواني، رسائل صداقة مستحيلة بين الاثنين، لكنها تبدو أقرب إلى قصة حب “أفلاطوني” النزعة منها إلى الصداقة؛ لأن “ميا” و”خوان مانويل” يعشقان بعضهما بشكل عنيف، ولا يمنعهما عن الوصول حتى النهاية في هذا الحب إلا وجود “الزوج والأولاد” بالنسبة للبطلة، أما ما يمنع البطل فهي حياة الصعلكة والرحلات الكثيرة التي تدفعه إليها تلك الحياة البوهيمية، وكلما ازدادت المسافة الجغرافية بينهما أصبح هذا الحب أكثر التهاباً وعنفاً. من ناحية أخرى، فإن الزوج يحب زوجته، لكنه غير قادر على تعديل مجرى حياته التي يبدو أن اعتياده عليها أصبح من الأمور التي لا تقبل الجدل أو النقاش، الجميع يعرف بعلاقات الجميع المتشابكة، وفي الوقت نفسه فإن الجميع يقبلون ذلك الوضع؛ لأن في الخلفية نوعاً من “الأنانية”، أنانية من نوع خاص توحي بالعكس تماماً من هذا المعنى؛ لأنها تمنع أي منهم من التفريط في وضعه الخاص لمصلحة الآخر، حتى لا يفقد مكانته لدى الآخر. تصل اللحظة التي لا يجد طرفا هذا الحب أمامهما من طريق سوى الانفصال عن هذه العلاقة المستحيلة؛ لأن الزوج انريكي الذي يدعوه العاشق باسم “طرزان”، وتربية الأطفال بالنسبة لفرناندا صارت لها أهمية كبيرة، خاصة بعد أن تعرضت لازمة مالية بسبب تصرفات الزوج غير المسؤولة، إضافة إلى الصعوبات التي يفرضها المنفى بمعناه السياسي على الجميع، “لقد جاءت اللحظة الحاسمة، وخارت قواي، لا أستطيع الاستمرار”، ومرض ابنها بالتهاب اللوزتين والذي يحاورها في مرضه وينبهها إلى أنها تعيش أزمة عاطفية حادة: “كانا يشاهدان فيلما لطرزان، فيسأل الطفل أمه إن كان طرزان أيضاً يصاب بالتهاب اللوزتين، تبدأ هي في البكاء لأنها تعي أن قواها قد خارت، ويمكن أن يحدث لها ما يحدث لطرزان في الغابة، انه بلا التهاب اللوزتين يمكن أن تأكله الأسود”. أعمال ألفريدو برايس اتشينيكي تعتبر نموذجاً للرواية الجديدة في أميركا اللاتينية الذي يحتل الآن موقع جيل الواقعية السحرية، ومن أهم ملامح تلك الرواية الجديدة الحس الكوميدي الذي ترفضه روايات الجيل القديم، وتحاول الابتعاد عنه باعتبار أن السخرية أو خلق المواقف الساخرة يفقد العمل قدرته على نقد المجتمع، الجيل الجديد الذي يمثله البيرواني “ألفريدو برايس اتشينيكي” يحاول الهروب من رؤية كتاب الواقعية السحرية، ويتعامل مع السخرية باعتبارها عنصراً أساسياً في كتابة الرواية؛ لأنها نابعة من المجتمع، وتوجد بشكل حاد في الحياة الخاصة لكل أفراده. أهم ما تقدمه هذه الرواية كنموذج للكتابة الجديدة: السخرية الواضحة، السخرية النقدية اللاذعة التي تشكك في كل شيء ولا تترك مقدساً واحداً، مسلطة على كل عناصر الحياة أضواءها المختلفة؛ لأنها تعتبر أحد القيم الرئيسية في الرواية الجديدة في أميركا اللاتينية والتي تعتبر “التهاب لوزتي طرزان” أحد أبرز أمثلتها؛ لأن الكاتب يعرف كيف يسخر من العالم وكيف يسخر من نفسه أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©