الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغرب يروج خرافة كبرى!

الغرب يروج خرافة كبرى!
18 نوفمبر 2009 23:08
هناك من يحاول إقناعنا بأننا كلما ازددنا اتصالاً كلما أصبح مجتمعنا أكثر تآلفاً وانسجاماً، وكلما صرنا أكثر سعادة. حيث نشهد اليوم انتشار احتكارات اقتصادية وإعلامية ضخمة تروج صوراً براقة للعالم وتوحي بأنه عالم وردي مزدهر، فتلهي المواطنين وتصرفهم عن ممارسة مواطنتهم وعن الفعل المدني. إنه عهد جديد من الاستلاب، يأتي في زمن يكثر الحديث فيه عن الثقافة العالمية، والتواصل الكوني. هكذا يعبر إيناسيو رامونه الصحفي الفرنسي الشهير عن احتجاجه على ما يسميه الدور الأيديولوجي المحوري الذي تلعبه تقانات الاتصال في عالم اليوم. وذلك في كتابه “الصورة وطغيان الاتصال” الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة السورية، والذي ترجمه إلى العربية نبيل الدبس. ويرى رامونه أنه في الوقت الذي يسود الاعتقاد بانتصار الديموقراطية والحريات العامة في هذا الكون بعد أن تخلص إلى حد كبير من الأنظمة الاستبدادية نرى، وفي مفارقة صارخة، بروز أشكال جديدة ومتنوعة من الرقابة والتلاعب والهيمنة، تعود لتفرض نفسها بقوة على الساحة الإعلامية. وما الوعود بالسعادة والرفاه إلا كذبة إعلامية كبرى تعمل هذه الاحتكارات الاقتصادية والإعلامية الضخمة على ترويجها، بشتى الوسائل، ومن هنا جاء ذلك التوالد المحموم، واللا محدود، لمختلف الأدوات والوسائط التي تعنى بنقلها. وتشكل الإنترنت إنجازها الأكمل والأشمل والأكثر نجاحاً. طاغوت العصر تبوأ إيناسيو رامونة إدارة صحيفة اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية لفترة طويلة امتدت بين عامي 1990 و2008. وكانت له مساهمته الفعالة في ترسيخ تميزها، وجعلها المعقل الأخير للصحافة المستقلة في فرنسا، في زمن سيطرت فيه الاحتكارات الاقتصادية والإعلامية، متعددة الجنسيات، على مجمل النشاط الإعلامي والاتصالي في معظم دول ما يسمى بالعالم الحر. وخلال عمله الصحفي الطويل تبلورت لديه رؤية شاملة، متماسكة ومتميزة، تحولت إلى مشروع لا يخفي التزاماً صريحاً بقضايا التحرر. فهو يأخذ على عاتقه مهمة فضح التأثير الذي تمارسه وسائل الاتصال في تشكيل ذهنية الإنسان المعاصر وآليات هذا التأثير. يرى رامونه أن الاتصال أو الإعلام ظل لفترة طويلة من تاريخ البشرية، مرادفاً للتحرر، من خلال كونه أداة لنشر العلم والمعرفة، لكنه يكشف اليوم عن وجه جديد، فلقد غدا أيديولوجيا جائرة تضطهدنا من خلال سعيها إلى نشر خرافة العصر العظمى، وهي مفهوم (الاتصال الكلي) أو (كل شيء هو اتصال). ولعله بذلك بلغ وتجاوز أوج مجده، ليبدأ عهداً تحولت فيه كل مزاياه إلى عيوب وكل فضائله إلى آفات. وانتهى به الأمر إلى فرض نفسه كضرورة مطلقة، فاجتاح كل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. حتى بات طاغوتاً بكل معنى الكلمة. ويبين الكاتب كيف بدأت الصورة التلفزيونية تعيد تشكيل الخريطة الإعلامية والاتصالية، وتفرض نموذجها الخاص وقوانينها الجائرة، على عالمنا المعاصر، وكيف صارت نشرات الأخبار المتلفزة أشبه ببرامج المنوعات الاستعراضية. فأسلوب النقل الحي والمباشر برأيه يقضي على أبسط مبادئ العملية الإعلامية. أما المعلومة فأصبحت بين أيدي حيتان الاحتكارات الرأسمالية الاتصالية متعددة الجنسيات سلعة تخضع لقوانين السوق. أزمة ثقة يقول رامونه: إن النظام الإعلامي العالمي يعاني من أزمة ثقة، وأن هذا النظام يخضع حالياً، مع قدوم الرقميات و(الملتيميديا)، لثورة راديكالية لا تقل في أهميتها ومدى تأثيرها عن تلك التي شهدها العالم عند اختراع الطباعة. فالتكامل الوظيفي الذي نشهده اليوم بين الهاتف والتلفاز والحاسب يقود إلى ولادة آلة اتصالية جديدة تفاعلية، تستند إلى النجاحات الهائلة التي تحققت في مجال المعالجة الرقمية للمعلومات، فمن خلال جمع الإنجازات والإمكانات الخاصة بوسائط إعلامية متفرقة تخلق الملتيميديا والإنترنت قفزة نوعية تشكل نوعاً من القطيعة مع كل ما كان مألوفاً. وهذه القطيعة قد تؤدي إلى قلب الحقل الاتصالاتي، وربما الاقتصادي أيضاً، رأساً على عقب. وحتى الصحافة المكتوبة لم تعد بمنأى عن زوبعة الأطماع التي أطلقتها يوتوبيا التقانة الجديدة من عقالها، فقد بات عدد كبير من كبريات الصحف المعروفة عالمياً ملكاً للتجمعات الاحتكارية الاتصالاتية، في مقابل عدد قليل جداً من الصحف المستقلة، لا تزال صامدة في أوروبا حتى الآن. قولبة الذهن البشري؟! يحذر رامونه من خطر التطور الوهمي الخادع، لعالم يديره بوليس على الفكر، ويخشى من احتمال حدوث نوع من القولبة للذهن البشري على المستوى الكوني. ويقول: الجميع يلاحظ أن الخطط الصناعية الأساسية التي يعتمدها مديرو شركات الترفيه هذه الأيام، تعتبر المعلومة سلعة بالدرجة الأولى، وأن هذا الاعتبار هو المسيطر بشكل صارخ، وذلك على حاسب الرسالة الجوهرية لوسائل الإعلام، وهي تسليط الضوء على الحوار الديموقراطي وإغناؤه. ويسوق الكاتب مثالاً يوضح هذا التوجه، فيبين أن المغالاة الإعلامية حول حادثة موت الأميرة ديانا وعشيقها دودي الفايد، ولدت (دراما نفسية عالمية) أو (عولمة انفعالية)، نقلت شخصية ديانا من الدائرة العامة المحدودة والفولكلورية، لتقتحم الزوايا الرئيسية ليوميات الصحف السياسية؟!. مما يجعلنا في عصر يخضع فيه الإعلام إلى عاملين أساسيين يمارسان عليه تأثيراً حاسماً: المجاراة الإعلامية والانفعالية المفرطة. سلطة شبكية! على مستوى آخر، يرى رامونه أن هناك تبدلاً في أدوار السلطات الأربع، وأننا نشهد هذه الأيام انتقالاً للسلطة من سلطة شاقولية هرمية (تراتبية) ومستبدة، إلى سلطة أفقية، شبكية الشكل وتوافقية (من خلال التلاعب الإعلامي)، وهو يسمي ذلك ذوباناً، وتشتتاً للسلطة، حتى بات يصعب تحديد مكانها الحقيقي. وفي هذا السياق، لم يعد الإعلام يشكل السلطة الرابعة في مواجهة السلطات التقليدية الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). بل إن السلطة الأولى هي اليوم في يد الاقتصاد، أما الثانية، وهي متداخلة مع الأولى إلى حد كبير، فهي السلطة الإعلامية، لتأتي السلطة السياسية بعد ذلك في المرتبة الثالثة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©