الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زايد والتعليم.. جدلية المعرفة والبناء

زايد والتعليم.. جدلية المعرفة والبناء
18 نوفمبر 2009 23:09
حتى عندما وصلت إلى أبوظبي في يناير 1971 لم يكن إنتاجها النفطي يزيد على 650 ألف برميل في اليوم، ولم يكن سعر البرميل يزيد على دولار واحد، أي أن العائدات البترولية في ذلك الزمن كانت لا تتوافق مع طموحات القائد الذي ومنذ بداية حكمه أراد أن يصنع نهضة تشمل الإمارات كلها لا إمارة أبوظبي وحدها. وهذه النهضة التي جعل زايد حلمها حقيقة واقعة اعتمدت بالدرجة الأولى على بناء البشر قبل بناء الحجر. جميع ما فكر فيه زايد من مشاريع كان يجعل من الإمارات جميعها ميدانا لها قبل قيام الاتحاد في أواخر عام 1971. وترجع اهتمامات زايد بالتعليم إلى تلك الأيام التي كان فيها ممثلا للحاكم في المنطقة الشرقية (العين)، حيث شعر أن الحرمان الذي يعيش فيه هو وجيله ليس عدم توفر الطعام والماء الكافيين للحياة بل عدم توفر العلم والمدارس، إنه الحرمان الحقيقي والذي يشكل أبشع صور الحرمان الإنساني. جهود خاصة ومن هنا بدأ زايد يهتم بالعلم، حيث بدأ بنفسه وتمكن بجهوده الخاصة من تعلم القراءة والكتابة، والاطلاع على بعض أمهات الكتب والمراجع في التاريخ والأدب والفقه. ومع ذلك فإن زايد رحمه الله أدرك أن ذلك وحده لا يكفي لرجل قدر له الله أن يكون قائدا لشعب ورئيسا لدولة، ولذلك فإنه رحمه الله لم يكتف بهذا الإنجاز، بل كان يدعو إلى مجلسه رجال العلم والأدب والفقه ويأخذ منهم وعنهم أبلغ ما وصلوا إليه إلى درجة أنه استطاع أن يحفظ بعض أجمل قصائد التراث العربي وخاصة المتنبي وعنترة وأبوفراس الحمداني وغيرهم، وقد لا أذيع سرا أن مجالسه التي كنت أحضر جانبا منها كانت مجالس شعر وأدب. وكم من مرة سمعته يردد بيتا من الشعر ويسأل الموجودين في مجلسه عن قائل ذلك البيت بل ويضع جوائز مهمة لمن يجيب عن السؤال. وكنت لا أخفي اندهاشي من سعة معرفته، ومن دقة معلوماته وقد تجرأت في ذات يوم وسألته رحمه الله: u كيف تمكنتم يا صاحب السمو من جمع كل هذه الثقافة مع أنك لم تدخل مدرسة ولا جامعة؟ وعلى مايبدو أثار سؤالي فيضا من الابتسامات على وجهه المشرق وقال: “أليست الحياة هي أكبر جامعة؟ وهل تعتقد أن شعراءنا القدامى دخلوا إلى المدارس والجامعات؟”. وأضاف رحمه الله: ـ “إن تجارب الحياة هي التي تصنع المعرفة وتنمي الثقافة، وأنا من خلال حبي للعلم والشعر والأدب تمكنت من تكوين أساس يجعلني أطرب للشعر الجميل وأهتز للحكمة البليغة وأسر بشرح لأصول الدين”. مساجلة شعرية كانت مجالس زايد كما هي مجالس أولاده الآن، مجالس علم وأدب وثقافة، وفي تلك المجالس كانت تدور أحيانا حوارات ساخنة ونقاشات جريئة، إلى درجة الاختلاف. أي نعم، الاختلاف حتى مع زايد على قائل ذلك البيت من الشعر، هل هو المتنبي أم أبوفراس أم غيره وكانت هذه الحوارات الساخنة تجعل من مجلس زايد مجلسا حيويا مثيرا للإعجاب. ومازلت أذكر ذلك الحوار الساخن الذي دار بين المرحوم الشيخ زايد والأخ كرم ملحم كرم نقيب الصحفيين اللبنانيين وصاحب مجلة “الحوادث” (حاليا) حول هوية أو قائل أحد الأبيات المشهورة فكان كرم ملحم كرم يقول إنها للمتنبي وزايد يقول إنها لشاعر آخر. وانفض المجلس يومها دون الوصول إلى إجابة حاسمة مما جعل الأخ كرم ملحم كرم يسافر ثم يعود بعد أسبوع محملا بالمراجع والبراهين التي تؤكد صحة إجابته، وليقابله رحمه الله بالترحيب والتشجيع، ويهنئه بصحة معلوماته بل وليكافئه بجائزة قيمة على إجابته الصحيحة والمدعمة بالمراجع والدراسات. ولقد كان رحمه الله يحيي تراثا كاد أن يندثر حين كان الخلفاء والأمراء في تاريخنا العربي في عصوره الذهبية يجمعون في مجالسهم الشعراء والعلماء ويستمعون إليهم ويناقشونهم بل ويشاركونهم في مجالات الإبداع وخاصة الشعر والتاريخ والفقه. وعلى هذا النهج سار زايد وسار بعده أولاده الذين حرص رحمه الله على أن ينهلوا من العلم وألا يعتمدوا على كونهم أبناء رئيس الدولة، فالدولة تحتاج إلى الإنسان والإنسان غير المتعلم لا يستطيع خدمة وطنه ولا قيادة مسيرة شعبه. جميع أبناء زايد دون استثناء نهلوا من معين العلم، وتخرجوا من الجامعات وحملوا الشهادات العليا. لذلك كان طبيعيا أن يتقلدوا مناصب ومسؤوليات عالية وكبيرة، لا لكونهم أبناء زايد ولكن لأنهم حملوا السلاح الذي يحتاج إليه الوطن ألا وهو سلاح العلم. في الزمن الذي كان فيه زايد حاكما للمنطقة الشرقية وكانت الإمكانيات المادية شبه منعدمة، حاول رحمه الله أن يطلب مدرسين من إحدى الدول العربية، ليقوموا بتدريس المواطنين في مدينة العين، وكان جواب وزير التربية الذي وصل إلى سموه بعد حوالي شهرين وبالحرف الواحد هو: “أولا: نحتاج أن نعرف أين تقع إمارة أبوظبي في خريطة العالم. ثانيا: نحتاج أن نعرف أين تقع العين في إمارة أبوظبي ثم ننظر بعد ذلك إلى طلبكم”. كان جواب المسؤول العربي في ذلك الوقت قاسيا فلا أحد يعرف أين تقع الإمارة، حتى وزير التربية والتعليم في تلك الدولة العربية لا يعرف أين تقع أبوظبي. أبوظبي قبل اكتشاف النفط كانت غير موجودة بالنسبة للعالم، حتى العرب ماكانوا يعرفون أين تقع، ولكن بعد اكتشاف البترول لم يبق أحد في العالم لا يعرف أين تقع أبوظبي ودولة الإمارات العربية المتحدة. تعميم التعليم ولعل هذه الحادثة بالذات هي التي جعلت صاحب السمو رحمه الله يصر على أن يتعلم جميع المواطنين وأن يكون التعليم إجباريا للمرحلة الابتدائية على الأقل، ثم وضع المحفزات التي تشجع المواطنين على التعلم حتى الوصول إلى أعلى المستويات العلمية. بنى زايد المدارس، لا في مدينة أبوظبي فحسب، بل في كل موقع يوجد فيه المواطنون، والمواطنون بالنسبة لزايد هم جميع أبناء وبنات دولة الإمارات. وتوافد المدرسون من مختلف أنحاء الوطن العربي للعمل في الإمارات نظرا للرواتب العالية التي يتقاضونها والسكن الممتاز الذي يحصلون عليه إلى درجة اعتبار من وقع عليه الاختيار للتدريس محظوظا جدا بل ومحسودا من جميع أولئك المدرسين الذين لم يحالفهم الحظ في القبول من قبل لجان اختيار المدرسين التي كانت تجول في البلاد العربية لاختيار الأفضل. وتحقق لزايد ما أراده، ولم يبق حتى مواطن واحد من جيل أبنائه خارج نطاق النهضة العلمية، الجميع تعلم وتخرج من المدارس والجامعات وتراجعت نسبة الأمية في الدولة من أكثر من 90% إلى صفر. وتمكن المواطنون من جيل أبناء زايد من الوصول إلى أعلى درجات العلم والتخصص والدخول للعمل في مجالات كانت حكرا على الأجانب وحدهم وخاصة في حقول الصناعة البترولية. تنويه أود أن أؤكد لجميع من يتابع زمن البدايات أنني لا أهدف إلى الإساءة إلى أحد وأنني أتناول الزمن الجميل الذي عشت فيه مع جميع الذين ذكرت أسماءهم أو الذين سأذكر أسماءهم أو حتى أولئك الذين لم تسعفني الذاكرة في تذكر أعمالهم ورواية حكاياتهم، جميعهم شاركوني متعة مشاهدة دولة الإمارات وهي تنهض من رمال الصحراء القاحلة إلى جنات خضراء وعمران شامخ وحضارة سبقت حتى أرقى حضارات الإنسان في هذا العصر، ولا يمكن أن أقصد الإساءة أو حتى التجاهل، ولكن سياق الذكريات قد يقود إلى بعض الحكايات التي يتحرج منها بعض الإخوة، فإليهم أقدم اعتذاري المخلص وأطلب منهم المسامحة والتغاضي طالما يدركون حسن النية وسلامة القصد وبراءة التفكير. ولا شك أن مسامحتهم ستمكنني من الاستمرار في التذكر لرسم صورة صادقة وواقعية دون الوقوع في شباك المجاملات أو الحيطة الزائدة عن الحد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©