الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

زايد.. عبقرية الزمان والمكان

زايد.. عبقرية الزمان والمكان
16 مايو 2018 00:36
رؤيـة: حمــدي تمــام * الحقيقة أن امتزاج الإيمان والتطور في فكر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هو الذي خلق عنده تفهماً لكل من القديم والحديث، تأكيداً لتواصل واستمرارية الحضارة القديمة والمواءمة بين الأصالة والمعاصرة، واستطاع بذلك أن يخلق في الذهن العالمي، ويرسخ تصوراً معيناً للشيخ العربي الأصيل، عراقة وبعد نظر، فأصبح لهذا واحداً من العرب الذين يحيون سيرة الشيخ العربي المهيب، ويعيدونها إلى الحياة في هذا العصر، بينما يفهمون روح العصر في الوقت نفسه. ويرى الخبراء، أن المغفور له الشيخ زايد كان له ذوق معين في العمارة، وله ملامح ظاهرة أدت في النهاية إلى إيجاد طراز معماري خاص تمتاز به أبوظبي - على الأقل - بالنسبة إلى المباني العامة، وهذا الذوق مستمد من الفن المعماري الإسلامي والإحساس العربي بمسائل العمارة الحديثة. ومن أهم ملامح هذا الذوق إحياء النمط الإسلامي في التصميم المعاصر، كالأقواس التي نراها في كثيرٍ من مباني أبوظبي، وهي جزء من ملامح العمارة الإسلامية، وكذلك نظرية الفناء الداخلي والقباب. ويُعرف عن الشيخ زايد، أنه كان ينصت باهتمام لكل ما يقال، ولا ينفذ أعماله إلا بعد استشارة كل الخبراء - كل في مجاله - ومناقشتهم، ثم التفكير مرة أخرى قبل اتخاذ القرار، وغالباً ما كان ذكاؤه وبصيرته يلهمانه الحل الصحيح، رغم أنه يسعى دائماً لمعرفة آراء الآخرين. وعندما كان زايد يجلس إلى الخبراء، فإنه كان يعرف ما يريد.. فالصورة دائماً كانت في ذهنه واضحة. وفي البداية، عندما بدأت عمليات تخطيط مدينة أبوظبي، كان له اتجاه معين، وهو أن تكون الشوارع مستقيمة ومتعامدة، وذلك يعكس ملامح شخصيته الواضحة التي ليس بداخلها عوج، ويعبر عن طبيعة مستقيمة القصد، لا تصبر لحظة على ما يحول بينها وبين رؤية الحق واتباعه. وبفضل هذا التوجيه السليم أصبح التخطيط الحالي لمدينة أبوظبي مثالاً تتطلع إليه المدن الجديدة، ونموذجاً يحتذى به في المجتمعات الحديثة. صورة واضحة والحق أن زايد كان يدرك جيداً طبيعة أرضه، وما تكمن فيها من مزايا واحتمالات، فهذه تصلح لأن تكون منطقة سكنية، وتلك تصلح لأن تكون منطقة صناعية، أو منطقة تجارية، وعندما كان يستعرض تصاميم المشروعات الحيوية التي يجري تنفيذها في البلاد، فإنه كثيراً ما كان يناقش التفاصيل الدقيقة بطريقة تمكنه من العثور على ما فيها من ثغرات أو نقاط ضعف، ويعمل على تصحيحها قبل البدء في التنفيذ. وقبل أن يبدأ في تنفيذ خطته العمرانية الطموحة لتوفير المسكن المناسب لكل أسرة، اجتمع زايد مع المهندسين، وقال لهم: «إن الإنسان في عصرنا الحاضر يقضي نصف عمره في مسكنه، وثلثه في مكان عمله، والباقي متحركاً فيما بينهما، ولا بد أن يكون لهذه البيئة التي نعيش فيها حظ من الاهتمام، والعناية والرعاية، حتى يجد فيها الإنسان راحته النفسية وكل متطلباته المعيشية، وسكنه الصحي». التكيف مع البيئة وسمعته - طيب الله ثراه - وهو ينبه إلى أن: «العمارة يجب أن تكون الانعكاس الطبيعي للبيئة بكل ما تنطوي عليه من ملامح، ولذلك يجب أن نختار التصميم الملائم الذي يعطي حلولاً سليمة لمشاكل المناخ، وبشكل يتيح التكيف مع البيئة، ويحقق احتياجات السكان». وعلى سبيل المثال - والكلام ما زال للشيخ زايد، فإن المنزل الذي سنقيمه لا يجب أن يكون مقابلاً للشمس، سواء عند شروقها أو غروبها، لأن شمس بلادنا شديدة الحرارة، وعلينا أن نتجنبها ونتقيها، أما من وجهة النظر الوظيفية للمسكن، فإنه يجب أن يلبي أكبر قدر من رغبات المواطن من حيث اتساعه واستقلاليته، و«الخصوصية» التي تتمثل في ضرورة إقامته بعيداً عن العمارات العالية، والشوارع، حتى لا يتسنى كشف المكان وسكانه، مراعاة لتقاليد المواطنين وعاداتهم، وسلوكهم الجماعي في المعاملات والتكافل الاجتماعي». العاصمة صديقة البيئة وشهدت مدينة أبوظبي، ولا تزال، معدلات عالية من النمو السكاني والتوسع العمراني الذي يعد من أعلى المعدلات في العالم خلال وقت قصير نسبياً وبفضل الرؤية الحكيمة والممارسات الناجحة في مجال عمارة البيئة التي أرساها الشيخ زايد - طيب الله ثراه - تمكنت العاصمة بفضل التخطيط الحضاري من استيعاب التطورات الهائلة دون خلل في التوازن بين النمو العمراني وعمارة البيئة، وأصبحت من المدن صديقة البيئة وحاضنة للإنسان وملبية لاحتياجاته بوجود عدد من المشاريع والبرامج البيئية والترفيهية والاجتماعية وتحقيق المواصفات الدولية في بيئة المدن وتحقيق رفاهية العيش من خلال الزيادة الكبيرة في أعداد الحدائق والمتنزهات العامة والساحات وممرات المشاة والمواقع الحضارية التي تنتشر في جميع أنحاء العاصمة. إحساس فطري ويذكر عن الشيخ زايد - طيب الله ثراه - أنه كان يتمتع بمقدرة وإحساس فطري بالمسافات والاتجاهات، وهي من القدرات الخاصة التي يشتهر بها البدو، وتجعلهم موضع تقدير وإعجاب. وأتيح لي - ذات صباح باكر وكان يوم عطلة - أن أرافقه، طيب الله ثراه، عندما ذهب لتحديد بداية طريق جديد يعتزم رصفه من داخل العاصمة إلى جسر المقطع على وجه التحديد، وكان الطول المقترح لهذا الطريق، كما قرره زايد هو عدة كيلومترات وحدد للمهندسين والمساحين بداية ذلك الطريق الرملي غير المعبد، كما حدد نهايته.. بشكل ظهر فيما بعد أن طوله مطابق تماماً بوساطة أجهزة المساحة الدقيقة لما حدده الشيخ زايد بفطرته وخبرته. هدف عظيم وأكد المؤسس أن مشروع بناء قصر الإمارات هدف عظيم، يستحق أن نشحذ له كل الطاقات والهمم والإمكانات، وأن نعطيه بجدية غير مسبوقة، كل الحماس والاهتمام ونسخر له كل الجهود المخلصة وفق خطى متوازنة ومدروسة. وبكل الوضوح والدقة حدد الشيخ زايد - رحمه الله - للمسؤولين والخبراء ملامح مشروع قصر الإمارات، بحيث يكون نموذجاً متفرداً في البنيان، والإبداع الهندسي، ومعلماً بارزاً.. ومزاراً سياحياً، يقصده الجميع، مما يضع العاصمة أبوظبي التي يسكنها الجمال والأمن والأمان، على عتبة مرحلة جديدة من النشاط، وبداية لمرحلة مبشرة في مجال السياحة، حيث تملك أبوظبي كل مقومات هذا المنتج المهم سواء على صعيد البنية الأساسية أو على صعيد المرافق السياحية، والموقع الجغرافي الفريد. *كاتب صحفي قدرات خاصة في لقاء جمع بين الشيخ زايد - طيب الله ثراه - والأمير صدر الدين خان، زعيم الطائفة الإسماعيلية، أثناء زيارته العاصمة أبوظبي، سمعت الأمير يبدي دهشته لبراعة أبناء الصحراء في اقتفاء الأثر، ومدى قدرتهم على التنقل بين الكثبان الرملية الهائلة دون أن يخشى أحد منهم أن يضل طريقه ليلاً أو نهاراً، ولا شك في أن الشمس تساعدهم نهاراً والنجوم ليلاً على معرفة الاتجاهات، ولكن حتى الاستدلال بالنجوم ليس سهلاً. وقال الشيخ زايد باسماً للأمير صدر الدين خان: هذا صحيح.. ولكن لنفرض أن البدوي فوجئ بالسحب تغطي صفحة السماء، وتحجب عنه النجوم ليلاً.. فماذا يفعل؟، وقال الضيف ضاحكاً: عليه أن ينتظر حتى تشرق الشمس في الصباح ويتبين المشرق من المغرب. ورد الشيخ زايد، طيب الله ثراه: أبداً إنه يبحث عن حجر في الصحراء، أو أي عشب هنا أو هناك، ويغرزه في الرمال.. وعليه أن ينتظر فترة من الوقت ينحني بعدها ليفحص العشب بدقة.. ليلاحظ أين تتراكم الرمال حول قاعدة العشب.. فإذا وجد أن الرمال تراكمت بكثرة من جهة معينة دون الأخرى.. ولما كان البدوي يعرف أن الرياح تهب على هذه المنطقة من الشمال أو الجنوب.. فإنه يستطيع على الفور أن يحدد الاتجاه، عن طريق الجانب الذي تراكمت تجاهه الرمال، وحينئذٍ يعرف الشرق أو الغرب والشمال والجنوب.. فيواصل طريقه على الفور دون أن ينتظر شروق الشمس في الصباح. وكانت الدهشة على وجه الأمير الضيف أبلغ من أي تعليق. رؤية متكاملة ولم يفت زايد وهو يضطلع بمشروع بمثل هذا الحجم غير المسبوق من نوعه، أن يخضعه للدراسة الدقيقة المتأنية، التي تبحث كل جوانب المشروع، وتأخذ في اعتبارها كل الفروض والاحتمالات، وتعطي الفرصة كاملة للاستماع إلى وجهات النظر المختلفة من العلماء والخبراء، في كل المجالات الهندسية والمعمارية البيئية وغيرها، ولم يضق صدره بأي ملاحظة، بل كان ينظر بكل رويَّة، في كل الدراسات المتعمقة، التي أعدها مجموعة متميزة من الخبراء، وكانت الكلمة الأخيرة عنده هي للعلم والحقيقة. وكان التقييم السليم والدقيق، هو العامل الحاسم، في كل قرار اتخذه لتنفيذ مشروع عمراني وهندسي على هذا القدر من الأهمية، قراراً صائباً، مبنياً على الحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، والرؤية المتكاملة التي تغطي كل جوانب المشروع وأبعاده. أكثر من ذلك فقد طلب الشيخ زايد في إطار اهتمامه المعروف بالعمارة الإسلامية أن يراعي في تصميم قصر الإمارات - بكل عناصره ومقوماته - الارتباط الأصيل بالماضي، وجذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وكذلك استشراف المستقبل، ليكون القصر في إطلالته، من موقعه العبقري داخل مياه الخليج العربي مبهراً ورائعاً، ويعطي الصورة الصادقة والمعبرة عن تراثنا الإسلامي والعربي بما فيهما من نفائس ثمينة، بحيث ينسجم تصميم قصر المؤتمرات في مجمله، مع الذوق والنسق المعماري العام لمدينة أبوظبي، الذي أصبح يميزها عن غيرها. تطويع الطبيعة يعتبر الموقع العبقري الذي اختير لإقامة قصر الإمارات، ويطل مباشرة على مياه الخليج العربي كجزء من منطقة كاسر الأمواج تجاه شاطئ العاصمة أبوظبي، تجسيداً حياً لقدرة الإنسان على تطويع الطبيعة، فلم تكن تلك اليابسة التي يتربع عليها هذا الصرح العمراني الكبير، قبل عدة أعوام، سوى جزء من مياه الخليج العربي. والذين عاصروا إنشاء أبوظبي الحديثة منذ تولي الشيخ زايد مقاليد الحكم في الإمارة عام 1966.. يذكرون جيداً.. كيف كانت مياه وأمواج الخليج العربي، تضرب شاطئ أبوظبي بكل عنف، وتهدد طريق الكورنيش الأسفلتي في كل شتاء.. حتى إن هذا الطريق غالباً ما يصاب بالانهيار، ويعاني التصدع والفجوات العميقة التي تحدثها ضربات الأمواج، مما يؤدي إلى توقف حركة السيارات والمارة عليه تماماً. كاسر الأمواج لأن الشيخ زايد - رحمه الله - كان يعي بفكره الثاقب وخبرته العميقة.. طبيعة أرضه، وما تكمن فيها من خصائص واحتمالات، فإن ذكاءه وبصيرته عادة ما كانا يلهمانه دائماً الحلول المثلى، لما يقابله من مشاكل بيئية وغيرها. وكانت الفكرة الهندسية البارعة التي اهتدى إليها - طيب الله ثراه - وأشرف فيما بعد بنفسه على تنفيذها، هي أنه ينبغي إقامة كاسر صخري للأمواج.. يمتد لمسافة طويلة داخل مياه الخليج العربي تجاه شاطئ مدينة أبوظبي.. وكان زايد يعرف أن هذا الحاجز الصخري كفيل بأن يُهدِّئ من عنف المياه، ويخفف من حدة تأثيرها على الشاطئ، بل وحمايته كلياً من عوامل النحت، وسرعان ما بدأ زايد - رحمه الله - تنفيذ الفكرة، وجلب الآلاف من أطنان الصخور التي تزخر بها جبال الإمارات لإنشاء كاسر الأمواج المقترح. وخلال فترة زمنية قصيرة، بعد أن اكتمل إنشاء كاسر الأمواج كانت كميات هائلة من رمال البحر تترسب شيئاً فشيئاً على الشاطئ بطول جزيرة أبوظبي، التي أخذت رقعتها تزداد يوماً بعد يوم، أكثر من ذلك، فإن كاسر الأمواج الذي صنعه زايد، بفكره وجهده الخلاق سرعان ما أصبح منطقة سياحية مترامية الأطراف، عامرة بالمنشآت السياحية والترفيهية والمراكز التجارية المأهولة، التي يقصدها اليوم أبناء الإمارات، والمقيمون وعائلاتهم وزوار أبوظبي، من كل حدب وصوب، سواء للتسوق أو لقضاء أوقات ممتعة للكبار والصغار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©