الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جبهات الجابري..

جبهات الجابري..
23 يونيو 2010 20:34
ساهمت الأعمال الفكرية التي أنتج الأستاذ محمد عابد الجابري، في بناء مجموعة من المواقف والاقتناعات الفكرية والتاريخية، في موضوع قراءة التراث العربي الإسلامي، وفي موضوع التفكير في مشروع النهضة العربية. وقد تميزت هذه الأعمال بقدرتها الكبيرة على تحقيق نوع من الانخراط المنفعل والفاعل، في فضاء الفكر العربي المعاصر. ونحن نعتقد، أن ما مَنَحَ إنتاجه الفكري الاعتبار الرمزي، الذي ناله في المجال الثقافي العربي، طيلة العقود الثلاثة المنصرمة من القرن الماضي، هو كفاءته في صوغ سِجلٍّ من الأسئلة الموصولة بمجالات الصراع السيـاسي في فكرنا. لقد تمكن الجابري بفضل تجربته في الحياة ونوعية حضوره في المشهد السياسي المغربي والعربي أن يركب جملة من المصنفات، ويبني صرحا فكريا لا نجازف عندما نعتبر أنه يعد واحدا من بين مجموعة قليلة من الصروح النظرية، الفاعلة في قلب الحركة الفكرية العربية المعاصرة. وإذا كنا نسلم بأن أسئلة الفكر العربي المعاصر اليوم، تعكس بمناهجها الخاصة في المقاربة والفهم، نوعيات تمثلها لمختلف أشكال الصراع الحاصلة في الواقع، فإن الأعمال الفكرية المُؤسَّسَة في فضاء هذا الفكر، ومن بينها أعمال الجابري، تعد في كثير من أوجهها بمثابة الروح المعبرة عن أنماط من التوتر والتحول الحاصلة في الواقع العربي. وما يعزز حكمنا السابق، هو نوعية انخراط محمد عابد الجابري في مجابهة إشكالات عصرنا. فقد مَكَّنه انخراطه في البحث، المسنود باختيارات إيديولوجية وفلسفية معلنة وواضحة، من تحقيق نوع من الحضور الثقافي والسياسي المتميز. ونحن نفهم هذه المسألة بكثير من الوضوح، عندما نأخذ بعين الاعتبار مبدأ عدم إمكانية فصل أعماله الفكرية عن ممارسته السياسية وسياسته الثقافية. فقد ساهم التزامه بالعمل السياسي المباشر، كما ساهمت ممارسته الفكرية الموصولة أساسا بقضايا الصراع الإيديولوجي والسياسي في المغرب وفي الوطن العربي، في عمليات بنائه لجملة من الاقتناعات الهادفة إلى تطوير المجتمع العربي. وعندما نراجع سيرته الثقافية، ونحن نتابع عمليات إنتاجه المنتظِم للمصنفات التي تراكمت طيلة ما يزيد على أربعة عقود من الكتابة والبحث والتدريس، ندرك أننا أمام جهد فكري لافت للنظر، بكفاءته في التنظير والتركيب، وبحرصه الشديد على العناية بمتغيرات الواقع في تحولها المتواصل، إضافة إلى احتكام إنتاجه النظري إلى جملة من المبادئ والمقدمات العامة التي لايمكن أن يفهم من دونها. انطلاقا مما سبق، يمكننا في بداية هذا العرض، الذي نتوخى منه التوقف أمام محورين كبيرين، محور نهتم فيه ببناء الجبهات التي خاض فيها معارك متعددة، وفيها تشكل مساره في الفكر وفي العمل وفي الحياة. ونتوقف في محور ثان، أمام السمات الكبرى التي تحدد طبيعة إنتاجه وخصائصه العامة. يقف المتابع والمهتم بالمسار الفكري لمحمد عابد الجابري، على جملة من العناصر الصانعة لخلفيات منتوجه النظري الفلسفي، سواء في المجال الفلسفي أو في مجال قراءاته للتراث، او إنتاجه الذي بنى فيه مواقفه الوطنية والقومية وتصوراته لمشروع النهضة العربية. جبهات ومعارك نتجه في بداية هذا المحور إلى استعراض الجبهات التي صنعت المسار الفكري لمحمد عابد الجابري، يتعلق الأمر أولا بجبهة تدريس الفلسفة في المدرسة وفي الجامعة، ثم جبهة التراث، وهي جبهة خاضها وهو يبحث عن صيغة جديدة للمواءمة بين التراث وبين مقتضيات الحداثة والتحديث، في زمن جديد اتسم بثورات عديدة في المعرفة والسياسة والتكنولوجية. ثم ثالثا جبهة العمل السياسي، وقد انخرط فيها يافعا، وظل حضوره المتفاعل مع مقتضياتها قائما، حتى عند مغادرته للعمل السياسي المؤسسي، بحكم أن مشروعه الفكري لم يكن مفصولا عن عمله السياسي، وذلك من الزاوية التي ارتأى أن يمارس بها حضوره السياسي، سواء في المستوى الوطني أو في المستوى القومي، أو في المستويات الأخرى التي كان لا يتوقف عن إبداء الرأي فيها، معتمدا البعد النقدي والرؤية التاريخية، أثناء مواجهته للإشكالات التي يطرحها فضاء العمل السياسي في عالم متغير (مواقفه من العولمة والإرهاب وحوار الثقافات، وأدبيات المؤسسات الاقتصادية الدولية إلخ..). 1 - جبهة الفلسفة والدفاع عن العقلانية: استغرق كفاحه داخل هذه الجبهة عمره المهني كاملا (1967 ـ 2002)، وبرزت مواقفه فيها في الأدوار التي مارس في مجال تعليم الفلسفة وتعميم الوعي الفلسفي في المجتمع المغربي منذ منتصف الستينيات، حيث أصدر الجابري صحبة زميليه المرحوم أحمد السطاتي ومصطفى العمري سنة 1966، كتاب “دروس في الفلسفة”، وكان إذ ذاك مسؤولا عن الإشراف التربوي في وزارة التربية الوطنية. ففي هذا العمل الذي ظل كتابا رسميا في المدرسة الثانوية المغربية، طيلة ما يزيد عن عقد من الزمن. نتبين بداية انخراط الرجل في مواجهة الأسئلة والمعارك، التي صاحبت وما تزال إلى حدود هذه اللحظة، تصاحب ظروف تعليم الفلسفة في بلادنا. وإذا كنا نعرف أن تعليم الفلسفة في مجتمع متخلف، تسود فيه درجات عالية من التفكير التقليدي المحافظ، فإن صدور كتاب دروس في الفلسفة في طبعاته العديدة، شكل تحولا نوعيا في التعليم العصري في المدرسة المغربية. لقد كان الكتاب المذكور يدافع عن برامج تعليمية تستوعب قيما منفتحة على ثقافة أخرى، ويبني جملة من المفاهيم القادرة على المساهمة في صناعة وعي جديد. ولهذا السبب اعترضت جهات متعددة على الكتاب، وحَرِصَ المرحوم محمد عابد الجابري على إيجاد مخرج مناسب من أجل تحصين تدريس مادة الفلسفة، بالشروط التي تتيح إمكانية تقديمها، وجعلها قادرة على أن تكون عنصر إخصاب في تربة المدرسة والمجتمع المغربي. وعندما التحق الجابري بعد ذلك شعبة الفلسفة داخل أول جامعة مغربية بالرباط في أكتوبر من سنة 1967، كانت الجامعة المغربية في بداياتها. وقد عمل ضمن شروط البدايات بكل خَصَائصِها ونواقصها، مكافحا ومناضلا، حيث مارس صحبة قلة من زملائه تدريس أغلب المواد الفلسفية، يحدوه في ذلك مبدأ ظل ملتزما به طيلة عمره المهني، يتعلق الأمر بتعلمه ثم تعليمه، وذلك بهدف إتاحة الفرص للأجيال القادمة، من أجل أن يكون للفلسفة مسكن كبير في الثقافة المغربية وفي الفكر العربي المعاصر. درَّس الجابري في الجامعة تاريخ الفلسفة، كما درس الماركسية والتحليل النفسي، ودرس علم الكلام وابن خلدون في الفكر العربي الإسلامي، ثم ترجم في مجال نظرية المعرفة والإبستمولوجيا، جملة من النصوص لرواد فلسفة العلوم في الفكر الفرنسي المعاصر. وأشرف على الأطروحات الجامعية الأولى داخل قسم الفلسفة بكلية الآداب بالرباط. وخلال ما يقرب من أربعة عقود، لم يتوقف عن العطاء في مجال الدرس الفلسفي داخل الجامعة وفي الندوات الكبرى لكلية الآداب في السبعينات وبداية الثمانينات، وهي الندوات التي شهدت ميلاد طلائع تعليم الفلسفة في الجامعة المغربية، نقصد بذلك الندوات الآتية: (ابن خلدون، ابن رشد، الإصلاح في الفكر العربي الإسلامي، الفلسفة اليونانية والثقافة العربية في سنوات السبعينات ومطلع الثمانينات..). 2 - جبهة نقد التراث ونقد العقل العربي: شكلت عناية المرحوم بالظاهرة التراثية مدخلا كبيرا في أعماله الفلسفية والفكرية العامة. ويعرف المتابعون لمساره الفكري أن أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة والتي ناقشها عام 1970، كانت في موضوع العصبية والدولة في فكر ابن خلدون. لكن ينبغي الإشارة إلى أن الجبهة التراثية في مساره الفكري، كانت عبارة عن جبهة مفتوحة على معارك عديدة، بحكم أن الحدوس الأولى لمشروعه الفكري كانت تستوعب انتباهه إلى خطورة هذه الجبهة. وذلك لأن الموروث التراثي في الثقافة المغربية والعربية كان سجين آليات تكرارية في النظر. ولهذا الأمر كما نعرف أثره في الحياة المجتمعية، وفي الوسائل الثقافية السائدة داخل بنية المجتمع المغربي والعربي. وهنا سينتبه الجابري إلى أن الأدوات التي تعلمها في مختبر درس الفلسفة، يمكن أن تسعف بإيجاد مخرج من هيمنة القراءات التراثية للتراث. بدأ المشروع في البداية، منطلقا من مخاطرة التفكير في مقالات تراثية فلسفية بعينها، مقالة عن الفارابي، مقالة عن الغزالي، ثم مقالات اعتنى فيها بفلسفة ابن رشد، وقد أثمرت عودته إلى هذه المقالات بعدة منهجية وبمفاهيم تنتمي إلى درس الفلسفة المعاصرة، ودروس المنهجية في العلوم الإنسانية، أثمر كل ذلك نتائج جديدة، في مقاربة بعض النصوص والمواقف التراثية ، وقد توجت هذه الأعمال بكتاب أصدر فيه أبحاثه الأولى حول فلاسفة الإسلام يتعلق الأمر بنص نحن والتراث الصادر سنة 1980، ونحن نعتبر هذا النص بمثابة بيان حول موقف من التراث، وهو يختزن النواة الأولى لمشروعه في نقد العقل العربي. ففي هذا النص، سيصبح الجابري مالكا لرؤية أولية في النظر بطريقة جديدة للظاهرة التراثية، رؤية وضح ملامحها الأولى فيما أطلق عليه نقد القراءات التراثية للتراث، وبديل القراءات المذكورة، هو ما أثمر خلال عقدين كاملين من الزمن، رباعية نقد العقل العربي، وهي رباعية التي قدم فيها الجابري جهدا كبيرا، في باب ما أطلقنا عليه، المواءمة بين التراث والحداثة (تأويل العقل العربي 1984، بنية العقل العربي 1986، العقل السياسي العربي 1990، العقل الأخلاقي العربي 2001). يندرج هذا الموقف الذي بناه الجابري بكثير من الجهد والمثابرة في إطار الإشكالات الكبرى للفكر العربي المعاصر، حيث يقدم مشروعا يهدف إلى محاولة التحرر من كل ما هو متخشب في إرثنا الثقافي، من أجل فسح المجال بلغته “للحياة كي تستأنف فيها دورتها” أي من أجل الإعلاء من راية النقد في زمن سيادة التقليد. استغرق بناء هذا التصور كما قلنا، أزيد من عقدين من الزمن (1984 ـ 2001)، ويعرف الذين واكبوا إنتاج الرجل، اهم مراحل تمفصله، وأبرز الحلقات التي استوى فيها مغامرة ومشروعا، ثم ملامح أولية في مقالة وبحث، ثم اطروحة، وجملة من النتائج، ثم قضية تهم الآخرين، كما تهم صاحبها. وقد لا نجازف إذا ما قلنا، قضية تخص جيلا كاملا، وتعكس في كثير من وجوهها، جملة من الطموحات والآمال، وجملة من الحوافز، وصورة من صور الاستواء الفكري، المعبر عن صيرورة تاريخية نظرية معقدة. تعلن مقدمات موقفه من التراث، بعبارة صريحة، أن وعيا نقديا جديدا بالتراث، يعد أولية ملازمة لكل انفصال تاريخي عنه. ولاتكون المعاصرة ممكنة في نظره (تملك أصول الحداثة) دون إعادة بناء مقومات الذات، بالصورة التي تحول منتوجات الحداثة وممكناتها إلى أفق طبيعي، في سياق تطور الذات. إن قراءة التراث هنا أشبه ما تكون بعملية حفر تبحث لمقومات الحداثة عن تاريخ آخر، سياق آخر مخالف لسياقها، لكنه يمتلك في نظر الباحث كل العناصر التي يمكن أن تحوله إلى جذر آخر لها. لكن هذه القوة تزداد وتتعاظم، عندما نضع مكاسبها وثمارها، بجوار الخطاب التراثي، الذي يتمظهر اليوم في لغات وحساسيات جديدة. 3 - جبهة العمل السياسي، في الدفاع عن الحرية والتحديث السياسي. انخرط الجابري بحماس في العمل السياسي، واتسم فعله السياسي المتنوع بفضائل العمل السياسي الذي يرعى قوة المبادئ. وكان يعلن دائما عدم اقتناعه بلا جدوى العمل السياسي، الذي يقلل من قيمة المبادئ والقيم. ورغم أن هذه القضية تثير اليوم كثيرا من النقاش، في موضوع العمل السياسي وإكراهاته، إلا أن ارتباط الجابري بالحركة السياسية الوطنية، منذ خمسينات القرن الماضي، والتزامه بصف الحركة التقدمية واليسار المغربي، جعل مواقفه الفكرية والسياسية تندرج ضمن رؤية معينة للسياسة والعمل الحزبي. لقد كان رجلا يساهم في المجال الثقافي، انطلاقا من مقدمات سياسية محددة، ويمارس في السياسة أدوار المثقفين، وهذا النوع من المزج بين السياسة والفكر والأخلاق أمرٌ نادر اليوم. وقد كان جائزا في مراحل معينة من تطور المؤسسات السياسية والعمل السياسي في مجتمعنا.. ومَثَّل الجابري في غمرة عمله السياسي الصورة الواضحة للفعل السياسي الموسوم بالنزاهة والاستقامة. ويمكن أن نفترض أن الرجل لم يستطع التكيف مع مستجدات العمل السياسي، التي أصبحت تقلل اليوم من شحنة المبادئ في عالم رُكِّب فيه المشهد السياسي على قواعد جديدة، وكانت خيارات الرجل السياسية والأخلاقية تمنعه من التلاؤم معها. ولهذا توقف مؤسسيا عن العمل السياسي تحت ضغط ملابسات، ليس هنا مجال تقديمها ولا فحصها، ولذلك مقامات أخرى. لقد توقف عن العمل السياسي المباشر كما أشرنا، لكنه ظل حاضرا في قلب المشهد السياسي. وتكشف مختلف أعماله المرتبطة بموضوع الحداثة ونقد التراث اسطفافه في العمل السياسي من منظور ثقافي، حيث تحضر في أعماله الفكرية الغائية السياسية مشفوعةً بمطلب النجاعة التاريخية. لم ينسحب الجابري إذن، من العمل السياسي حتى عندما قرر وقف أنشطته السياسية. إن أفعاله في الفكر والثقافة كانت أفعالا سياسية بامتياز، فظل الجابري في الجبهة السياسية، متحصنا ببلورة الموقف الفكري، والجهد النظري الذي يضيء أفعال وتفاعلات المشهد السياسي، ويتوخى بلوغ أهداف معينة. وتكشف نصوصه التي نشر في سلسلة الكتاب الشهري، الذي كان يطلق عليه اسم “مواقف”، محاولته الساعية إلى رسم معالم الحياة السياسية المغربية. وقد أصدر خلال العقد الأول من الألفية الثالثة ما يزيد عن سبعين عددا من هذه الكتب الصغيرة الحجم، والمستوعبة لمواقفه وآرائه ونصوصه القديمة والجديدة في الشأن السياسي المغربي. كما أن أطروحته في “نقد العقل العربي” تعد بدورها بمثابة جواب على انخراطه السياسي في العمل الفكري، الذي يساهم في إغناء الحياة السياسية والفكرية مغربيا وعربيا، ذلك ان خلاصات هذه الأطروحة في بعدها السياسي الحاضر بقوة في أجزائها الأربعة، تنخرط في مواجهة احتكار بعض التيارات السياسية للإسلام وتراثه، الأمر الذي يكشف أننا أمام مشروع فكري مجسد في أطروحة نقد العقل العربي، وهي أطروحة تساهم في بلورة مواقف من التيارات السياسية المعادية للُغة العقل والتاريخ والمصلحة في العمل السياسي. سمات المشروع النقدي 1 - يتسم المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري أولا، باقتناعه الراسخ بالوظيفة التاريخية للفكر والمفكر. وقد سمح له هذا الاقتناع برسم حدود معينة لمساره الثقافي والسياسي، فهو يعتبر ان تعقل وإضاءة أسئلة المجتمع والتاريخ لا تكون إلا بهدف المساهمة في تغييره وتطويره. وقد عمل في مختلف مؤلفاته، على إنتاج الأفكار التي يعتقد بقدرتها على إسناد مشاريع ومؤسسات التغيير في المجتمع. وتعتبر هذه الخاصية في فكره محصلة لتكوينه الفلسفي المتشبع بتصور معين لنزعة فلسفية تمنح المثقف والسياسي امتياز صناعة وتوجيه الأحداث في التاريخ، نستطيع التأكد من ذلك، في مختلف أعماله، كما نستطيع معاينة ذلك ونحن نستمع إلى الرجل مشاركا في الندوات واللقاءات العلمية والسياسية. ويتسم مشروعه ثانيا، باهتمامه بإشكالات التحول السياسي الوطني في المغرب، وإشكالات مشروع النهوض القومي في أبعاده الثقافية والسياسية، حيث تقدم أعماله مداخل قوية في مجال النظر إلى هذه الإشكالات. وقد ساعده في إنجاز ما أنجز من آثار نصية في هذا الباب، استثماره كما قلنا لتكوينه الفلسفي، ولمجموع العبر والخلاصات التي ترتبت عن التزامه بالعمل السياسي الوطني والقومي، وكذا مواكبته للمتغيرات المرتبطة بأشكال الصراع الدائر في العالم. فقد سمحت له محصلة العناصر المذكورة بتركيب المعطيات المعبرة عن مسعاه النظري، الهادف إلى إعادة بناء المشروع النهضوي العربي، بالصورة التي تجعله يستوعب متغيرات التاريخ ومكاسبه، ومن دون إغفال مقتضيات الصراع التاريخي العالمي، الي تشكل القضايا العربية في إطاره محورا مركزيا، وذلك بحكم عوامل عديدة، أبرزها نتائج التركة الاستعمارية، ونتائج الصراع الإيديولوجي الذي ساد في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ثم نوعية التحولات التي عرفتها نهايات القرن العشرين وما خلفته من نتائج ومعطيات جديدة، معمقة لدرجات وآليات الصراع الدائر في مجال العلاقات الدولية. فعندما يعمل الجابري في أبحاثه على مواجهة كل ما ذكرنا، فإنه يتجه أساسا إلى تركيب أشكال جديدة من المواءمة بين الطموح التاريخي لأمة معينة، ومتطلبات الشروط والظروف المؤطرة للحاضر، دون أن يعني ذلك التفريط في المبادئ الكبرى، التي لا يتأسس المشروع النهضوي العربي من دونها، ونقصد بذلك الاستقلال والتحرر والنهضة. نتبين في مجمل إنتاجه ما يمكن اعتباره نواة مركزية في جبهة الفكر النقدي في الفكر العربي المعاصر. أما الملامح الكبرى المؤسسة لهذه الجبهة، فتتمثل في نظرنا، في مشروع نقده للعقل العربي، وهو مشروع يهدف من ورائه إلى تفكيك آليات عمل الفكر العربي، من أجل تخليص الثقافة العربية من الوسائل الفكرية التقليدية المتحكمة في أنماط مقاربتها وفهمها للظواهر، ولاشك في أن إشكالات الحاضر العربي في أبعادها ومستوياتها المختلفة، هي التي أملت عليه العناية بسؤال التراث وبنائه لأطروحة فكرية في موضوعه، أطروحة تجسدها بكثير من الجهد والاجتهاد مجلدات أربعة كبيرة، سمحت له ببناء أطروحة متميزة في باب الموقف من التراث. نعاين في هذه الأطروحة تجليات المشروع الفكري الذي أنتج محمد عابد الجابري. وفيها نكتشف العناصر الرئيسية لروح تجربته في الفكر، وفي نقد أعباء العقل التراثي المقيدة لحركة فكرنا المعاصر. بذل الجابري في المصنفات الأربعة التي ركب بواسطتها معمار أطروحته، بذل جهدا كبيرا بنى من خلاله عملا نظريا تجاوز فيه القراءات التمجيدية للمنظومات التراثية، كما تجاوز فيه المواقف السلبية من التراث. وقد حاول توظيف نتائج وخلاصات قراءته في معارك الحاضر العربي بالصورة التي تدعم الاختيارات العقلانية والنقدية في فكرنا، ولهذا السبب بالذات نحن نعتبر أن العصب الحي في فكره يتمحور في أطروحة نقد العقل العربي، بحكم أنها تدعم بطريقتها الخاصة قيم النقد والروح النقدية في ثقافتنا، وتقترح علينا آليات معينة في كيفية تجاوز مظاهر الارتباك الثقافي في الفكر العربي. 2 - ندرج جهود محمد عابد الجابري الفكرية في دائرة الفكر النقدي في الثقافة العربية المعاصرة، ليس لأنه صاحب أطروحة نقد العقل العربي التي أشرنا إليها آنفا، بل لأن مختلف أعماله الفكرية والسياسية تتسم بمنحاها النقدي. فقد وظف الجابري بعض مناهج ومفاهيم الفكر الفلسفي المعاصر، لإنتاج مقالة نقدية في قضايا الفكر العربي، سواء تعلق الأمر بالأسئلة التراثية، أم تعلق بإشكالات الحداثة والتحديث في الفكر العربي المعاصر، فإن المبضع النقدي يشكل الأداة البارزة في أعماله. وعندما نعاين كيفيات تشخيصه للظواهر والنصوص التي يعنى بها، نكتشف الملامح العامة لاختياراته التاريخية النقدية، فنتبين أننا امام مواقف فكرية موصولة بأسئلة محيطها السياسي والثقافي، مواقف وضعت نصب عينيها الحاضر والمستقبل العربي. يتأسس الاختيار العقلاني النقدي في أعمال الجابري، استنادا إلى مكاسب الفكر المعاصر، كما يتأسس في أفق استلهام جملة من العناصر المتضمنة في المكون التراثي الذاتي. ولا يجد الجابري أي حرج في المزج بين الاثنين، وذلك بحكم عنايته، كما أشرنا سابقاً، بمقتضيات الصراع والتحول في الحاضر العربي، في أبعادها السياسية المختلفة. ولهذا السبب بالذات تنحو عقلانيته النقدية منحى خاصا مختلفا عن الاختيارات النقدية الجذرية، وهذا الاختلاف تؤسسه في نظرنا الرهانات التي تمنحها تيارات الفكر في ثقافتنا المعاصرة لتصورها لوظيفة الفكر من جهة، ولنوعية اعتبارها لدور المتغير السياسي في عمليات تحول المجتمع من جهة ثانية. يستحضر الجابري في أطروحته في نقد العقل العربي، اسم ابن رشد وابن خلدون والشاطبي. يستحضر هذه الأسماء ليعزز اختياراته في الدفاع عن العقلانية الموصولة بتاريخنا القومي، وذلك لإيمانه الشديد واقتناعه الراسخ، بأن الذات المسلحة بعناصر من مكونات تاريخها الخاص، تكون مؤهلة أكثر من غيرها للاستفادة من مكاسب الفكر المعاصر والتفاعل معه. ففي المناحي العقلانية والتاريخية والوضعية، المتضمنة في فكر الرموز التراثية المشار إليها، ما يسعف في تصور الجابري بتأسيس عقلانية جديدة متصالحة مع ذاتها. ولا تقلل الازدواجية الفكرية المترتبة على الموقف المذكور، من القيمة الفعلية لأطروحته ومشروعه في النظر إلى إشكالات الواقع العربي. ولأن الجابري يريد لنفسه حضورا فاعلا في المجتمع وفي الثقافة العربية المعاصرة، فإنه يراهن على مقدمات تقضي بأن يشكل استحضار بعض معطيات التكوين الذاتي، عاملا من العوامل المساعدة في رسم حدود الاختيارات الفكرية الأكثر نجاعة، في عمليات تفاعلها المخصب لتطلعات الحاضر..ولهذا السبب يرجح الجابري اختيارات فكرية وسياسية معينة، لا يمكن في نظرنا فصلها عن الأفق النقدي المتفاعل مع ممكنات التحول القائمة في الواقع العربي. عود على بدء إن تنويعات الجابري في البحث، تعود لتستثمر اختياراته الأساس في باب الموقف من التراث. والنقد كآلية عمل العقل اليقظ والفاعل، العقل المستوعب لروح المعرفة العلمية في صيرورتها، والمعرفة الفلسفية في كفاءاتها التنظيرية النقدية الخلاقة، هو القاعدة الكبرى الناظمة والموجهة لمختلف التنويعات، التي بلورها وهو يعالج قضايا وإشكالات عديدة. ويمكن أن نوضح هنا أن مفهوم النقد في أعمال الجابري لا يحيل إلى مرجعية مخصوصة، ولا إلى مدرسة فلسفية بعينها، وهو يحيل دون شك إلى عقلانية فلسفة النهضة، العقلانية الديكارتية في تجاوزها للإرث الأرسطي، وإرث العصور الوسطى اللاهوتي، كما يحيل إلى العقلانية الكانطية وعقلانية الأنوار في القرن الثامن عشر، ولعل المفهوم كما يستعمله الجابري يستوعب أيضا جوانب من روح عقلانية القرن التاسع عشر كما تبلورت في المنظومة الفلسفية الماركسية، وهذا في مستوى الإيحاءات المرتبطة بتاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ولكن المفهوم يحيل كذلك في أعماله، إلى نتائج الأبحاث الجارية في مجال الإبستمولوجيا، حيث يتم تركيب معقولية وعقلانية المعارف العلمية المختلفة في إطار الأنساق الأكسيومية، وذلك تحت تأثير الدور الذي أصبحت تلعبه الرياضيات في المعرفة العلمية المعاصرة. يستفيد الجابري من مختلف مكاسب درس الفلسفة، في مجال ترتيب وتعيين ملامح النقد، وذلك بهدف الاستعانة بهذه المكاسب في تحليل القاعدة التراثية المهيمنة بطابعها النصي الوثوقي، ومعطياتها المعطِّلة، لكفاءة النظر والتفكير، بفعل مالحقها من تهميش وتراجع، وذلك تحت ضغط الطفرات المعرفية المواكبة للثورات العلمية المعاصرة. * نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور كمال عبد اللطيف بدعوة من المركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©