الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوزيه ساراماجو.. الفلسطيني

جوزيه ساراماجو.. الفلسطيني
23 يونيو 2010 20:35
غيّب الموت الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو حائز جائزة نوبل للآداب عن 87 عاما في جزيرة لانزاروتي. وكان ساراماجو يعيش في لانزاروتي منذ عام 1993 مع زوجته الصحفية بيلار ديل ريو. ونقل ساراماجو إلى المستشفى مرات عدة في السنوات الماضية بسبب مشاكل في الجهاز التنفسي. ونقلت وسائل الإعلام الإسبانية عن مصادر في عائلته أنه توفي الجمعة في منزله بعدما قضى “ليلة هادئة”. لا يعتبر جوزيه ساراماجو كاتباً عادياً صنعته ثقافة مجتمعه من خلال مؤسساتها التعليمية، ولا من أولئك الكتاب الذين يعيشون في أبراجهم العاجية في انتظار أن تصل أعمالهم إلى قراء يجهلونهم، بل هو كاتب عصامي، نشأ في أسرة من الرعاة الأميين، لم يساعده فقره المادي على الاستمرار في التعليم التقليدي، وفقد الطريق إلى التعليم الجامعي، فقرر أن يثقف نفسه بنفسه، لذلك لم يكن مستغربا أن يشارك الآلاف من المتظاهرين احتجاجا تحت برد شتاء العاصمة الأسبانية مدريد ضد المذابح التي كانت تجري في غزة. في تثقيفه لنفسه بدأ ذلك في وقت متأخر، فقد كان أول كتاب اشتراه في حياته في عمر التاسعة عشرة، وبدأ أولى كتاباته الإبداعية عندما تعدى الخامسة والعشرين ليصمت بعدها عن الكتابة لفترة ليست بالقليل؛، لأنه كان مقتنعاً في ذلك الوقت بأنه لا شيء لديه يقوله للقراء، ولم يعد إلى ممارسة الكتابة حتى بلغ الأربعين من العمر، لذلك يقول إنه لو مات في الستين من عمره، من المؤكد أنه ما كان سيترك شيئاً ذا قيمة في الأدب البرتغالي، وما كان للتاريخ أن يذكره، وما كان له أن يتمتع بالحصول على جائزة نوبل؛ والشهرة والراحة المادية التي تحققهما هذه الجائزة، والتي سعت إليه وهو في الخامسة والسبعين، لكنه يؤكد أن كل ما كتبه منذ ذلك الوقت كان من منطلق الالتزام المطلق تجاه قناعاته الخاصة. توازن عقلي لذلك يعتبر جوزيه ساراماجو كاتباً ملتزماً، لم يقدم مطلقاً أي تنازل أخلاقي أو سياسي ليضمن رضاء السلطة السياسية أو الدينية عنه، ويرى أن حرية الفكر والتعاطي معها تؤدي إلى نوع من التوازن العقلي، ذلك التوازن الذي يسمح له بالتفكير الصحيح في قضايا المجتمع والعالم الذي يعيش فيه، من هنا فإن هجره لوطنه عام 1993 وإقامته الدائمة بجزيرة “لنثاروتي”، إحدى جزر الكناري الإسبانية، كانت نتيجة غضبه من قرار وزارة الثقافة والتعليم في بلاده، منع روايته “إنجيل المسيح” من التداول في المدارس والجامعات البرتغالية، وأيضاً كانت السبب في الانتقادات التي وجهها الفاتيكان للجنة جائزة نوبل لأنها منحت الجائزة لكاتب متمرد على الكنيسة الكاثوليكية. رد جوزيه ساراماجو على انتقادات الفاتيكان بتهكمه المعهود في أول لقاء صحفي مع وسائل الإعلام عقده في مقر دار نشر “الفاجوارا” بمدريد، وقال: “لا أعرف معنى الكلمة التي وصمني الفاتيكان بها ليعلن عن معارضته لحصولي على جائزة نوبل، لذلك أقول للفاتيكان عليه أن يتفرغ لصلواته ويترك الآخرين يعيشون في سلام”. وكثيراً ما أعلن الكاتب أنه لا يعتنق المسيحية بشكلها التقليدي الذي تحاول الكنيسة فرضه، مؤكداً احترامه لكل الذين يعتنقونها، ولكنه يؤكد دائماً أنه لا يكنّ هذا الاحترام للسلك الكنسي؛ لأن المسيحية تدعو إلى محبة الآخرين، وهو لا يستطيع، لا يرغب في حب جميع الناس، بل يكنّ الاحترام لجميع الناس، ويقصر حبه على بعضهم فقط”. أيضاً إصراره على أنه لا يزال يحمل الفكر الاشتراكي رغم سقوط نموذجه السياسي في الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية، لأنه يرى أن قيام أو سقوط النظام السياسي النموذج لذلك الفكر لا يعني انتهاء هذا الفكر، لأن الاشتراكية ـ في رأيه ـ قبل أن تكون نظاماً سياسياً أو اجتماعياً فهي حالة روحية، ويرى أن الرأسمالية بوضعها الحالي وتطبيقاتها غير قادرة على تقديم حلول حقيقية لبؤس العالم، لذلك فإن الاشتراكية لم ينته دورها كما يعتقد البعض. الكتابة عند ساراماجو تعتبر نوعاً من تحقيق الوجود، وأيضاً تمثل الكتابة بالنسبة له طريقاً لكسب حب الآخرين، وإن كان البعض يعتبره كاتباً متشائماً رغم إعلانه دائماً بأنه سعيد ومتفائل، ويشرح هذا التناقض بقوله إنه بالفعل متشائم مما يراه من حوله من أحداث مأساوية، لكنه يحاول أن يؤكد للآخرين أنه سعيد حتى لا يجد نفسه مطالباً بأن يتحدث عن أشياء أخرى تنقصه لتحقيق السعادة الكاملة، أو على الأقل السعادة بالمعنى الذي يفهمه هو شخصياً. تراث طويل لم يأت الأدب الذي يكتبه جوزيه ساراماجو من فراغ، بل هو أدب يعتمد على تراث طويل مكتوب في اللغة البرتغالية، منذ تلك الكتابات التي يصنفها النقاد تحت اسم “الغنائية الجالايكو ـ برتغالية”، التي سادت في القرون الوسطى من خلال الأعمال الأدبية للعديد من الكتاب مثل: لويس دي كاموينز، وجيل فيسنتي، وأنتيرو دي كينتال، وكاستيلو بلانكو، وأيسا دي كيروز، لتصل إلى الأدب البرتغالي المعاصر الذي يعتبر من أبرز ممثليه: فرناندو بيسوا، ومجيل توجرا، وفيرجيليو فيريرا، أو أجوستينا بيسا لويس. وعند الحديث عن الإنجازات الأدبية في اللغة البرتغالية، لا يستطيع أحد أن ينسى كتابات مبدعي البرازيل الذين يكتبون بهذه اللغة، وحققوا من خلالها إنجازات مهمة، مثل: ماتشادو دي أسيس، وكارلوس دروموند، وهارولدو دي كامبوس، وجواو كابرال دي ميلو نيتو، أو الروائي الأكثر شهرة عالمياً بين هؤلاء جورج أمادو. بدأ جوزيه ساراماجو الكتابة الأدبية ـ كما ذكرنا ـ في وقت متأخر من حياته، وكانت روايته “مانويل بالرسوم والكتابة” الصادرة عام 1973 بدايته الحقيقية وطريقه نحو الشهرة؛ لأنها كانت النموذج الحقيقي لرؤيته وأسلوبه الشاعري في الكتابة، المعبر عن رؤيته الجمالية أيضاً، وتتضح في تلك الرواية الخطوط العامة التي تبدأ من الجماعية والتعبير عنها لتنتهي إلى الفردية، وربما ينبع هذا من إحساسه الدائم بأنه كاتب ملتزم بالأدب والقضايا العامة التي يجب أن يتناولها. ثم جاءت روايته “ثورة الأرض” عام 1979 لتكون من أكثر أعماله الأدبية التزاماً بالمجتمع. وتتناول حياة أسرة ريفية منذ بدايات القرن حتى سنوات الستينيات الثورية، لتأتى بعدها رواية “ذكريات الدير” الصادرة عام 1982، والتي حققت نجاحاً عالمياً بترجمتها إلى العديد من اللغات. أما روايته “سنة موت ريكاردو رييس” الصادرة عام 1984، فهي تتناول تاريخ العاصمة البرتغالية لشبونة، خلال فترة حكم الدكتاتور “سالازار”، وتأثيرات الحرب الأهلية الإسبانية على المجتمع البرتغالي، والتي اعتبرها النقاد نوعاً من التكريم لأعمال الكتاب البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا. ثم كانت روايته “الطوف الحجري” الصادرة عام 1986، التي نقدم ترجمتها الكاملة هنا، لتؤكد توجهه إلى خارج الوطن “البرتغال” بحدوده الضيقة، والحديث عن شبه الجزيرة الأيبيرية (البرتغال وإسبانيا)، ثم الانفتاح على القارة الأوروبية التي بدأت في تكوين كتلتها السياسية والاجتماعية، والتي تدخل البرتغال في إطارها بعد خروجها من عزلتها، ليأتي من بعدها كتاب “تاريخ حصار لشبونة” الصادر عام 1990، كنوع من تحدي الشعر للرواية، أو عدم الرضاء عن الإنجاز الروائي في مواجهة اللغة الشاعرية. ثم تتوالى بعد ذلك سلسلة من الأعمال التي تعتبر تمرداً على الممارسات الشمولية التي تنتهجها بعض المؤسسات الدينية والسياسية، وبشكل خاص الكنيسة الكاثوليكية، فكانت أولها رواية “إنجيل المسيح” الصادرة عام 1991، ليأتي من بعدها “دراسات عن العمى” التي يعالج فيها النزعة الفردية، ثم روايته “كل الأسماء” الصادرة عام 1997، التي يتناول فيها عالم البيروقراطية والرأسمالية بعد سقوط الاشتراكية الواقعية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية. هذا إضافة إلى أعمال أخرى، حيث كتب ساراماجو حوالي عشرين رواية وكتابات شعرية ودراسات أدبية وتاريخية، ويؤكد نقاد أدب ساراماجو باللغة البرتغالية أنه من الصعب وضع حد فاصل بين إبداعه وأفكاره، خاصة تلك التي يعلن من خلالها رأيه في عالم اليوم، الذي يؤكد أنه يعيش لحظة من أحط لحظات التاريخ البشري، لذلك يصفه أحدهم بأنه “مقاوم لا يقبل التصنيف”، وأعماله الأدبية تحاول أن تسبح ضد تيار التدمير عبر التجريد، وحزبه الذي ينتمي إليه فكرياً، “حزب الرافضين للرؤية أو الإحساس عبر الآخرين، حزب الفرد الذي يرى ويشعر عبر رؤيته الخاصة”، ومن هنا تنبع أهمية كتابيه “بحوث عن العمى” و”كل الأسماء”. الكاتب والمناضل إذا كان هناك من يتساءل عن وضعية جوزيه ساراماجو: هل هو كاتب مبدع أم مناضل؟، فإنه يمكن العودة إلى ما قاله ألبير كامي: “ليس النضال هو الذي يدفعنا إلى أن نكون فنانين، بل إنه الفن الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين”، وساراماجو كان فتى فقيراً عادياً، وعندما قرر أن يكون كاتباً حقيقياً وجد نفسه مدفوعاً إلى أن يكون مناضلاً، لأن الإبداع التزام. من يعرف هذا الكاتب البرتغالي وقرأ أعماله وتابع نشاطه السياسي والاجتماعي يعرف أن الرجل كان دائماً صادقاً مع نفسه قبل أن يكون صادقاً في مواجهة الآخرين، لذلك فهو وإن كان يتقبل النقد الأدبي بروح سمحة باعتبار أن للنقاد، بل وللقراء أيضاً، حق النقد، لكنه لا يقبل التشكيك في رؤيته للعالم التي يعبر عنها من خلال آرائه، حتى لو تعرض للنقد الجارح، وربما من أبرز المواقف التي تعبر عنه ما حدث بعد زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة إثر مذبحة جنين، التي وصفها بأنها “الجريمة البشعة”، وأنها لا تقل بشاعة عن “أوشفيتز” التي بنت عليها إسرائيل أسطورة وجودها، ورد على منتقديه وقتها، بأنه يفضل أن يكون ضحية كالفلسطينيين على أن ينتمي إلى معسكر القتلة بالفعل: إسرائيل، والقتلة بالصمت: الغرب وإعلامه. كان موقفه هذا قد جاء بعد الزيارة التي قام بها مع عدد من أعضاء “برلمان الكُتاب الدولي” إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ليعلنوا رفضهم للممارسات العنصرية الصهيونية بعد أن راعهم صمت الساسة المريب على كل الصعد، لم يكن من بينهم من يعي الحقيقة المرة التي سيواجهونها على أرض الواقع سوى الكاتب الإسباني “خوان جويتيسولو” الذي كانت زيارته تلك الرابعة، فقد سبقتها زيارات ثلاث مطولة قام بها هذا الكاتب الإسباني وأنجز خلالها العديد من البرامج التليفزيونية التي تدين الاحتلال الإسرائيلي، وتكشف حرب “الإبادة” التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني، وأيضاً كتب خلال تلك الزيارات عدداً من الأعمال الصحفية والأدبية، منها مجموعة مقالات في زيارة له عقب اتفاقات أوسلو، كان لي شرف ترجمتها ونشرها باللغة العربية، صدر جزء منها قبل خمس سنوات في كتاب بعنوان “دفاتر العنف المقدس”. كانت مفاجأة ما هو على أرض الواقع اليوم في العاصمة الفلسطينية المحتلة “رام الله” وما حولها من المدن والقرى الفلسطينية المدمرة كبيرة على من كانت تلك زيارتهم الأولى، وجعلت بعضهم يقارن ـ في دهشة ـ بين ما يراه وما كان يسمعه عن مناطق أخرى في العالم كانت تعيش أحداثاً مماثلة لما يحدث الآن في وجودهم وأمام أعينهم، فقد أشار أحدهم من نافذة السيارة التي كانت تقلهم عبر بقايا المدن والقرى الفلسطينية التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية من دبابات وجرافات على الأرض، وطائرات “أف 16” وحوامات “الأباتشي” الأميركية من السماء، وبتوجيه من أقمار التجسس الصناعية الأميركية التي توفر لتلك القوات كل المعلومات عن أي تحرك فلسطيني حتى لو كان فردياً، وأقامت على طرقاتها الحواجز العسكرية التي تمنع الاتصال ما بين قرية وأخرى إلا بتصريح خاص، لم يكن الهدف منه أمنياً بقدر ما هو “إذلال الفلسطيني والنيل من كرامته في محاولة لوضع حد لمقاومته”، حسب تعبير أحد أعضاء الوفد برلمان الكتاب الدولي، فيما أكد آخر أن “هذا مزيج من التبت وبرلين قبل سقوط حائطها الشهير”. مجموعة الكتاب المكونة من ثمانية يمثلون جنسيات وانتماءات عرقية ودينية عديدة، كان بينهم اثنان من الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: النيجيري “وول سونيكا”، والبرتغالي “جوزيه ساراماجو” أول من حصل على جائزة نوبل للآداب من كتاب اللغة البرتغالية، وكان هذا الأخير صامتاً طوال الطريق يراقب ما يحدث حوله من جرائم، ويحاول أن يجد له شبيهاً في ذاكرته التي شهدت أسوأ ما أبدعته النفس البشرية من تدمير، سواء خلال الحربين الكبريين في أوروبا، أو الحروب الأهلية الدائرة في العديد من بلدان العالم التي زارها للتضامن مع ضحاياها، وكانت آخر هذه الزيارات لمناطق مشتعلة تلك التي قام بها للمكسيك لإعلان تضامنه مع سكان “تشياباس” الهنود الحمر الذين يتعرضون للإبادة هناك، وكانت تلك الزيارة قبل أيام قليلة من زيارته للعاصمة الفلسطينية رام الله، ولم يجد الكاتب البرتغالي شبيهاً في التاريخ الإنساني المعاصر لما يحدث في الأراضي الفلسطينية سوى ما حدث على أيدي النازي خلال الحرب العالمية الثانية، ليس ضد اليهود فقط، بل ضد كل من كان النازي يرى أنه عقبة في سبيل تحقيق “سمو الجنس الآري”، حتى إن المصادر التاريخية تؤكد أن ضحايا النازي من “الغجر” يفوق كثيراً عدد ضحايا اليهود في ما يسمونه “المحرقة”. ولأنه يدرك أن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة على أيدي جيش مسلح بأحدث ما يملك البشر من أدوات للتدمير في هذا العصر لا يمكن التعامل معه على أنه مجرد “مواجهة” بين قوتين؛ لأن المواجهة تكون عادة بين قوتين شبه متعادلتين في العدد والعدة، بل هي حرب “إبادة” لا يمكن أن يكون لها اسم آخر، فقد قال كلمته التي كانت لا تعني سوى الحقيقة: “هذه هي المحرقة النازية التي يمارسها الجيش الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ورام الله المحاصرة، تذكرني بمعسكر أوشفيتز النازي”. بهذا التصريح المباغت للإعلام الصهيوني، ليس في إسرائيل وحدها بل والإعلام التابع والمؤيد للصهيونية في العالم أجمع، الذي لم يتوقع أن يكون بين أعضاء الوفد من يجرؤ على كسر المحرمات الصهيونية، كان رأي جوزيه ساراماجو خروجا عن نطاق الآراء واللغة الدبلوماسية التي اعتادوا سماعها من “المرتعبين” من مجرد نطق كلمة “المحرقة”، رغم أنها لم تعد تقول شيئاً بعد كل هذه السنوات التي اُستهلك استخدامها من قبل إسرائيل. تصريحات وصدمة هذه الصدمة التي أحدثتها تصريحات ساراماجو في إسرائيل وبين مؤيديها كشفت عن جهلهم لموقف الرجل، فهو لم يكن يوماً من هؤلاء الذين اعتادوا الابتعاد عن الصدق في التعبير، لا في وطنه ولا خارجه، حتى خلال تسلمه لجائزة نوبل كان خطابه من أجرأ الخطابات التي اعتاد جمهور “نوبل” أن يسمعها من الفائزين بها كل عام، والتي لم تكن تخرج عن التعبير عن السعادة بشرف الفوز بها، وتبجيل صاحبها، لذلك في زيارته للعاصمة الفلسطينية المحاصرة “رام الله” لم يمنع نفسه من التعبير عن رأيه الحقيقي الذي يفكر فيه دون انتظار لمكافأة من أحد، بل كان يعرف أن كل ما سيقوله قد يجلب له المتاعب من قبل وسائل الإعلام التابعة والخاضعة للسيطرة الصهيونية التي ترى في كل رأي مخالف “عداء للسامية”، وكأن إسرائيل هي تلك السامية المزعومة، وكما قال كاشفاً حقيقة أخرى لم يجرؤ أوروبي قبله على البوح بها علناً: “إسرائيل لا ترى موقفاً ثالثاً لأحد، إما الانضمام إلى جوقة المؤيدين إلى السامية طبقاً لتعريفها، أو احتلال مكان العدو للسامية، ذلك السلاح الكاذب الذي يوجهونه إلى مناهضيهم”. عندما قال ساراماجو في مؤتمر صحفي في رام الله إن ما يحدث من حوله ليس سوى “أوشفيتز” ـ معسكر النازي الذي يقول دعاة الصهيونية إن ملايين اليهود ماتوا فيه ـ حاولت صحفية إسرائيلية ابتزازه قائلة: “لا توجد هنا أفران غاز”، فرد عليها بهدوء: “ما أقوله يتعلق بالفعل وليس بالاسم، وما يحدث هنا يصدر عن روح مماثلة (للنازية) وهذا واضح جداً هنا”، وزاد في رده بقوله: “إن ما يحدث هنا جريمة ضد الإنسانية، وإذا كانت كلمة “أوشفيتز” تغضب الإسرائيليين فعليهم أن يختاروا كلمة أخرى للتعبير عن ما أراه هنا، وعلى أي حال لن تكون أي كلمة أخرى لوصف ما يحدث هنا أقل بشاعة من وصف المحرقة النازية”. كان ساراماجو يعرف أيضاً أن تصريحاته الناطقة بالحق والحقيقة سوف تثير عليه حرباً تستخدم فيها الصهيونية كل ما تملك من أسلحة دعائية لتشويهه، ولكنه كان جاهزاً للرد، لأنه يعتقد أنه يقول الحق، ولذلك لم يحاول التملص من كلماته أو النكوص عنها، كما حدث من قبل مع الكثير من الساسة والمثقفين، بالتراجع تحت الضغوط من خلال محاولة تقديم تفسيرات من ذلك النوع الذي يستخدمه السياسيون عندما يؤكدون أن تصريحاتهم “قد أسيء فهمها”، أو “اقتطعت الكلمات من سياقها”. لم تمض ساعات حتى أكد الكاتب البرتغالي في حوار مع صحيفة “الباييس” الإسبانية بالهاتف أجرته معه الصحيفة وهو لا يزال في فندقه في تل أبيب، لعله ينفي أو يتراجع، أو يحاول التملص من كلماته، فما كان منه إلا أن أكد من جديد أن كل كلمة قالها في اتهامه إسرائيل بممارسة “حرب إبادة” ضد الفلسطينيين كانت تعني ما تتضمنه، وأنه فكر كثيراً في هذه الكلمات، واعتنى باختيارها قبل الإدلاء برأيه؛ لأنه ببساطة وصف بدقة ما شاهده على أرض الواقع، وغير مستعد للخضوع لأية ضغوط للتراجع عن ما قاله حرفياً، وأكد أنه إذا كانت إسرائيل لا تريد أن تسمع اسم معسكر النازي “أوشفيتز”، فإنه تعمد “ذكر هذه الكلمة بالتحديد حتى يهتز المجتمع الإسرائيلي من داخله ويطرح نقاشاً حول ممارسات جيشه وحكومته ضد الفلسطينيين، وأن يتخذ ما من شأنه أن يوقف المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني حتى لا يتكرر مع الفلسطينيين ما حدث لليهود على أيدي النازي”. حدود أوروبا أما رواية “الطوف الحجري”، فتعكس أيضاً هذه الرؤية الواضحة لهذا الكاتب؛ لأنها جاءت تحديداً بعد انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوربي في ظل معارضة من جانب العديد من المتطرفين الغربيين الذين يرون في البرتغال وإسبانيا عالماً متخلفاً لا يجب أن ينتمي إلى أوروبا، وربما كانت المقولة الأوروبية الشهيرة لبعض متطرفيها: “أوروبا تنتهي عند جبال البرانس، وما هو جنوبها ينتمي إلى أفريقيا”. يتخيل الكاتب عدداً من الأحداث المتوازية التي لا رابط بينها: انطلاق كلاب قرية في النباح دون توقف، وموظف برتغالي يقذف حجراً في مياه المحيط الأطلنطي، ومُعلم مدرسة برتغالية تتبعه الزرازير أينما توجه، وصيدلي إسباني يشعر باهتزاز الأرض تحت قدميه، وسيدة برتغالية مطلقة ترسم خطاً على الأرض بفرع شجرة دردار، وأرملة جيليقية تفك خيوط جورب صوفي أزرق وتصنع منه تلاً من الخيوط لا ينتهي. إلا أن تلك الأحداث غير المنطقية تؤدي إلى حدث واحد مرعب وهو انفصال شبه الجزيرة الايبيرية: إسبانيا والبرتغال، عن أوروبا، وتحديداً عند جبال البرانس التي يعتبرها المتطرفون الأوروبيون الحد الجنوبي لقارتهم، وإبحار هذه الكتلة الضخمة من الأرض في مياه المحيط الأطلنطي دون توقف، وما يترتب على ذلك من آثار جغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية. فمَن قذف الحجر إلى مياه المحيط دفعه شعوره بالذنب إلى البحث عن صاحب الزرازير، وتوجها معاً إلى إسبانيا بحثاً عمن يشعر باهتزاز الأرض تحت قدميه، ثم يتوجه ثلاثتهم لمعرفة علاقة أفعالهم بما حدث لبلادهم، ليلتقوا بالسيدة التي رسمت الخط على الأرض ولا تفهم ما حدث لبلادها، وهكذا تتوالى الأحداث التي تكشف عن الكثير من الفلسفات الحياتية المتقابلة والمتعارضة التي تحدث عادة في ظل الكوارث الكبرى، وانفصال شبه الجزيرة الأيبيرية واحدة من تلك الكوارث. تتغير حياة الناس جميعاً، كل تسير حياته في الاتجاه الذي تدفعه إليه حركة هذه “الطوف الحجري”، سواء بإبحارها بلا اتجاه معين، أم بدورانها حول نفسها وما قد ينجم عن ذلك من أخطار. إنها عمل عبقري تطلّب من مؤلفه أن يكون ملماً، ليس بجغرافية الأرض التي حركها من مكانها، بل بتاريخها القديم والحديث، وبالسياسة المعاصرة وجذورها القديمة في شبه الجزيرة، وأيضاً بالنظريات والحقائق العلمية التي لم يتركها للصدفة أو الخيال لمجرد الخيال. يأخذ جوزيه ساراماجو القارئ في “الطوف الحجري” إلى رحلة متسارعة النبض لا تجعله يتوقف حتى يصل إلى نهايتها، من خلال تقنية روائية أقرب إلى حكايات “ألف ليلة وليلة”؛ أي الحكاية التي تتولد من الحكاية، وهنا تتنقل الشخصيات بحثاً عن بعضها، لنتعرف على حكاية كل شخصية وعالمها الخاص، الذي سرعان ما يذوب في حكاية الشخصية التالية، لتذوب جميعاً في حكاية واحدة من خلال ربط مصائر تلك الشخصيات ببعضها البعض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©