الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هنا أبوظبي.. عبّر عن نفسك

هنا أبوظبي.. عبّر عن نفسك
23 يونيو 2010 20:36
عندما يجتمع التشكيليون في معرض واحد وتحت سقف جاليري يضمهم جميعاً تبدو الحياة مزهرة، رائعة، بكل الألوان التي تعبر عنها، حتى البؤس الذي قد يصوره فنان يشترك في هذا المعرض متشائماً، يبدو في إطار اللوحة مقبولاً، شفيفاً، لا يملك القسوة التي نراها في الواقع، حين يطبق البؤس والفاقة والحرمان على النفس الإنسانية فتستحيل إلى عالم مشوه مملوء بالوحشية. يظل عالم العروض المشتركة حافلاً بالإشراقات، هنا أتذكر قصيدة “la musique” للشاعر الفرنسي شارل بودلير حين اشتغل عليها تحليلاً لوسيان كولدمان ومن قبله ياكوبسن، والتي تصف فتاة رائعة الجمال تظهر الوحشية على جسدها بعد الموت، غير ان القصيدة بدت أكثر جمالاً بل هي رائعة تحكي قصة جسد منحل. أتساءل، ما الذي يحمل الفن حين يقرأ الواقع، أتذكر أيضاً ما كان يرويه جليبر بطل رواية “للحب وقت وللموت وقت” للألماني ريمارك حين يقول: “هناك في صقيع روسيا عندما يذوب الثلج في الربيع تظهر جثث الجنود القتلى التي كانت مجمدة تحت الثلج الذي بدأ يذوب.. يذوب، حتى أنك ترى أعين الجنود وقد انسابت من مآقيها قطرات كانت جامدة كأنهم يبكون”. تلك هي إشكالية الفن هنا، بل روعته وأنت تقرأ ماكتبه ريمارك فتصيح بل تصرخ معترفاً بالبهجة التي منحتها إياك تلك الصورة بالرغم من قسوتها. أقول إن المعارض المشتركة تحمل مسرَّتها، تحمل عبثها، اختلافها، تجاور عوالم بعيدة، عوالم متناقضة تلتم تحت سقف واحد، ضربات فرشاة مختلفة، ولمعان ضوء متناقض، وألوان متدرجة، معتمة عند هذا، مشرقة عند ذاك. وحسناً فعل صالون الغاف جاليري في أبوظبي حين اجتمع بين جدرانه خمسون فناناً أوروبياً وشرقياً ليقدموا رؤاهم في قراءة هذا العالم. أطلق منظمو المعرض عليه عنواناً جاذباً هو “عبر عن نفسك في 30*30” وكأنهم يقولون للفنانين الخمسين: هذه عوالمكم ارسموها في حدود 30سم*30سم، فجاء الفنانون سراعاً من مختلف دول العالم وقدموا ما يقرب من 210 لوحات، حيث أشرف على تنظيم هذا المعرض الفنانة الإماراتية سمية السويدي. اختفاء الجدران القاعات الأربع ازدحمت باللوحات، الجدران اختفت، صارت ألواناً شتى وتحول بياضها إلى عوالم تمُت إلى البعيد، مدن وقرى وأنهار ووجوه وخيول، وطيور ومآذن وأزهار وحقول وورود وبيوت من الطين وأخرى من القصب وثالثة من القرميد، أشكال لفسيفساء متداخلة، وحروف ملتوية وكرنفالات محتشدة بالناس وبالطيور والحيوانات والعربات وأيقونات غريبة للقى حجرية، وأخرى زهريات وثالثة من القماش الصيني أو الياباني المزهرة بالألوان، عصافير تطير وأخرى على الأكف تناغيها أصوات النساء العاشقات، وأبراج عند الشواطئ وأمواج تضرب السواحل ونساء ريفيات في حلل تقليدية من الفضة وعوالم حالمة وتخطيطات لاتفهم معناها وتداخلات شكلية لا تحيلك إلى معنى محدد، تلك هي الرسوم المعلقة على الجدران. القاعة الأولى اجتمع بها 50 فناناً من الإمارات ولبنان والسعودية والعراق وباشتراك غربي من كندا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وشرقي من الهند والباكستان والصين وأندونيسيا وبنغلادش. اشتغل الفنانون في لوحاتهم على مواد مختلفة باختلاف الموضوعة والاتجاه الفني حيث الرسم بالحبر الصيني وبالاكرليك وبالزيت على الجمفاص وبالباستيل وبالمكس ميديا والنحت بالبرونز وبالاستيل وبالفضيات وبالزجاج الشفاف وبأحجام دل عليها عنوان المعرض وهي 30سم *30سم. مشاركة استثنائية وكانت مشاركة مجموعة “المزماه” الفنية بأبوظبي والتي تأسست في نوفمبر من عام 2008 من خمس فنانات شابات هن هيام المريخي وبثينة المريخي وسارة العيدروس ونورة القبيسي وموزة المزروعي قد شكلت حضورها الواضح عبر أعمال اثنتين من الفتيات الخمس وهن الفنانة بثينة المريخي في أعمالها المصنوعة من الزجاج البلاستيكي والتي اعتمدت الشفافية في تكوين طبقات تصوير العيون البشرية والفنانة سارة علي العيدروس في لوحاتها التي رسمت فيها ملامح امرأة بالأبيض والأسود على أرضية بلون رصاصي فاتح يميل إلى البريق الجاذب. في لوحتها نصف وجه قدمت الفنانة الإماراتية سمية السويدي وجهاً أنثوياً بعين خضراء وبنصف فم أحمر وكأنها تقول إن النصف الآخر المختفي يحمل ذات الملامح في النصف الظاهر في إطار 15سم*20سم، حيث كان الرصاصي لا السواد القاتم ستاراً يخفي النصف الآخر. الفنان الإماراتي سعيد المدني ذهب بعيداً فقدم لوحة سوداء، في كامل أرضية العمل ومحيطه إلا أن هناك إشارات ضئيلة لبياض جسد يلوح في ضبابية العمل، إيماء طقوسي بعيد، ونفسي أعمق. أما عزة القبيسي الفنانة الإماراتية المتألقة والتي تشتغل بصمت معبرة عن فهم إنساني عال لمكنونات الإنسان فقد قدمت أعمالاً نحتية من الاستيل والبرونز في إطار حروفيات وجسد طفل نائم نقرأ فيها: يا بنيتي نامي نومة هنيئة ..... نومة الغزلان في البرية ومن هذا البيت الشعري صنعت نصها النحتي، وكأنها تريد أن تقول إن الصورة تكمل الكلمة والكلمة تحيل إلى الصورة وفي لوحتها الأخرى (الحب) نحتت حروفيات وطفلا نائما بمسرة أيضاً. الفنانة سارة علي العيدروس اشتغلت على فراغات الجسد الذي يملأ من أرضية اللوحة ذاتها، إذ الأرضية هي الجسد والملامح هي الخطوط التي تؤطر الجسد، ملامح امرأة بجسد نابض بالحياة تتشكل في 4 لوحات، اثنتان في القاعة الأولى واثنتان موزعتان على القاعتين العلويتين من الجاليري. الخدعة البصرية أما الفنانة بثينة المريخي فقد قدمت الخدعة البصرية بأكملها حيث الزجاج البلاستيكي يعكس العيون عبر طبقات لامرئية، وألوان تشي بروعة المرسوم، أسود وأخضر وبرتقالي، هل هو سر اكتناه العيون لجماليتها البراقة كأنها الزجاج. ويعود بنا نبيل المحيربي الفنان الإماراتي ليقدم لنا امرأة من ذاك الزمان بالأبيض والأسود 50سم*70سم حيث وجهها الأليف وقناعها الذي يغطي مساحات من وجهها وشعرها المصفوف بعناية ونهر من الألق محفور في شعر منسرح يميناً وشمالاً وعيناها البراقتان من خلف البرقع، وبالرغم من اشتغال المحيربي بالقلم الصيني إلا أنه قدم صورة مستلة من عمق تاريخ الموروث وتقاليد مجتمع. ويكمل نبيل المحيربي مشاركته في هذا الفن بتجسيد صورة زايد الكبير (Zayed the Great) بالأبيض والأسود ليخط الملامح والوجه والجلسة بكل الأبهة والتواضع. ويعمد حمدان الشامسي في لوحته (أنا) إلى حركة سريالية، تغري بالتأمل بالرغم من صغر مساحة اللوحة 20سم*20سم إلا أنها تمتلك متخيلاً واسعاً، وأفقاً رحباً، رجل يجلس على كف شخص ما، ربما على كفه هو نفسه وظهره إلى المتلقي ووجهه إلى عمق اللوحة بينما تبدو يداه من فوق رأسه حتى ظهره وكأنه أراد أن يقلب الشكل التقليدي عندما يواجه الفنان واقعه وبورتريهاته مباشرة وجهاً لوجه. حروفيات عربية قدمت بانا ظاهر من بنجلادش حروفياتها الجميلة، حيث الدعاء “رب يسِّر ولا تُعسِّر” وتفخيم لـ “ولا” وكأنها تطلب هذا النفي بالذات في جلال اشتقته من اللون الأصفر لأرضية اللوحة واللون الأحمر المسود لخط الحروف، كذلك في لوحتها “روح” التي رسمت بالأزرق المتدرج، كذلك لوحتها “سبحان الله” 2009. من جهته كان جاك لي الفنان الصيني قد ذهب بعيداً مع عالم الصقور وأبدع فيه معتمداً ألواناً زاهية امتزج فيها الأزرق والأصفر والبني عبر تجسيد ملامح دقيقة لهذا الكائن الطائر، أما لوحته “الفرس العربي” فقد التقط لحظة التفاتة الفرس في درجة عالية من دقة الحركة وجماليتها، كذلك لوحته الثالثة (Arabian falcon2) الصقر العربي فقد جسّد الصقر ثانية عبر منقار أزرق وعين حمراء وريش يغطي الرقبة بجمالية عالية. يستوقفنا في هذا المعرض الفنانة فهيمة فتاح حيث رسمت في أغلب لوحاتها “زفة عراقية” و”جالبات الماء” وفتيات من الريف مبتهجات بلباسهن التقليدي وايقوناتهن الموروثية والأهلة والنقطة المستخدمة والشذرات التي تقول “الحمد لله” والنخلة الباسقة في الأعلى وكلمات الدعاء “يارب”.. كذلك في لوحتها “قرية2” حاملات الأواني المملوءة بالماء، والجنوب البعيد واللباس المزركش من الأقمشة الملونة، هو عالم بريء وريفي ورعوي يجسد روح القرية وتقاليدها الآسرة. الفتاة والعصفور هناك لوحة يمكن عدها من الأعمال الملفتة حقاً لماثيو. ك كوريان تمثل فتاة تحمل على كفها عصفوراً وسمكة قربها وفي كفها الأخرى جرة ماء صغيرة زرقاء، عين الفتاة تشابه عين السمكة والشعر المنسدل المتموج يختفي في إطار اللوحة السفلي، لوحة ملفتة بألوانها وإيمائها وجماليتها الشفيفة. وتتفرد اميلي جوردن بنحاسياتها وقببها وأبوابها الفضية وشذراتها المرصعة للوحة وبرونزيات الأبواب القديمة والأصداف والقواقع التي احتلت أرضيات عملها وكأنها تريد إحالة نصها إلى موروث كلاسيكي حتى اننا يمكن أن نعده عملاً مركباً بين النحت والتشكيل. ويتجه الأميركي مارك سيلرز إلى رسم أيقونته الخاصة من قماش مبهر، براق يعيدنا إلى الفن الصيني أو الهندي الذي يحفل بالألوان وتداخلها، فالأحمر يحاور الأزرق السماوي والأخضر يعطي الألوان عبق الحقول، والسواد يجلل اللوحة بالكبرياء والبياض يضحك بين هذه الألوان جميعها مع تناسق التداخل الخطوطي الذي يكمل عالماً يحمل معناه الخاص. تقدم Nivedita Saha لوحتها (The muse) حيث وجه يحمل كل الألوان وهو يناغم أفعى خضراء، اشتغال على البريق والملامح الاستثنائية، الأسطورية، غير المعهودة كذلك في لوحة “أنا لست اليزابيث” التي هي بحق لوحة لملكة بريطانيا بتاجها حول الرأس وبلباسها الذي يحيلنا إلى القرن التاسع عشر البريطاني وبكل جرأة وذكاء تستغل الملامح والقبعة والاقراط المتدلاة من الآذان ليتحول إلى وجه آخر هي ليست الملكة اليزابيث. أما اللوحة الثالثة (المهرج) ذو الوجه النابض بالحياة المشوه من أجل الضحك حيث الفم المبتسم والأسنان اللامعة والقبعة المتدرجة والعينين المنسرحتين كالقارب وكأن الرأس يطير على جناح من النار. لغة رومانسية وفي لغة رومانسية عالية جسَّدت Karolina Koubar جسد “الراقصة” بلباسها الأحمر الطويل وهي ترسم شكلاً جسدياً من حركتها حين تضع يديها فوق رأسها المنسرح على جبهته الخلفية شعر أسود طويل. وتشاركنا سعدية سليمان في لوحتها (الجدار) بحروفية كتب عليها كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) و(الواو) فيها يحمل النص حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): “وتركت فيكم أمرين ما أن تمسَّكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله، وسنة رسوله” ونرى (الواو) في مستهل النص يرفع النص بأكمله وكأنه موجة آتية من عمق التاريخ. وأخيراً لابد لي أن أقرأ لوحة (Rana flouty) رنا فلوتي التي تمثل وجهاً بيكاسوياً مشطوراً نصفين يانعين وعينين وبفم ضمن إطار مربع أسود يحيد الفضاء البعيد، كذلك لوحتها الأخرى التي مثلت فيها وجهين بيضاوين في أفق إنساني، يمتلك حناناً وشفافية وهما ينحنيان على البعض في إضمامة رائعة تحمل رمزية عالية. أما كلود حبيب الفنانة اللبنانية فقد تفرَّدت بكرنفالها وبهجة لوحاتها البيضاء عبر عالم ترسمه بالكولاج والمكس ميديا معتقدة أن الفن إشارة يتمثل في تلاقح كل الأشياء ليعبر عن كل الأشياء، الأسلاك الحديدية والرسم بالفحم والاكرليك وبالرصاص لتحكي من خلال كل هذا قصة ومفاهيم كثيرة مستخدمة حروفيات وأرقاماً وإشارات لتكوين عالمها المبتهج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©