الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«سحرنة» الواقع

«سحرنة» الواقع
23 يونيو 2010 20:37
تشكل تجربة الكاتب الراحل سالم الحتاوي (1961- 2009) واحدة من أبرز التجارب المسرحية الإماراتية، وذلك رغم الفترة الزمنية القصيرة التي أبدع فيها أعماله الثلاثين، موزعة بين مسرح الكبار والأطفال، وبين قضايا وهموم اجتماعية وسياسية ووطنية محلية وعربية مختلفة، وبرحيله صار من الممكن تناول تجربته المتكاملة، وهذا ما يفعله الكاتب والمخرج محمود أبو العباس من خلال كتابه الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع ويحمل عنوان “طقوس سحرية الواقع في المسرح الإماراتي: سالم الحتاوي نموذجا”، الذي يقول إنه تناول فيه عالم الجن والعفاريت وصندوق الأفكار الغني في تجربة الحتاوي، وعبر تناول جديد لهذه التجربة الملأى بالمفردات الفنية والفكرية، وأنها بقدر ما تحتشد بالميثولوجيا والسحر فهي تتميز بتناول الواقع والحياة اليومية من خلال اللاوعي ومحاولة استفزاز الجمهور. عوالم الحتاوي كما تناولها أبو العباس نلخص شيئاً منها في هذه القراءة. أبرز خصوصية تميز عمل الحتاوي هي المحلية العميقة والالتصاق بكل ما هو محلي. فالحتاوي لا أحد يعلم من أية حكاية قديمة انفلت، بل خلف أحدث أية أسطورة كان مختفياً، ذلك الرجل الساكن في أجواء العفاريت والجن، المغامر في حضور الزار والموالد، والمغموس في تربة أرضه حتى الرمق الأخير، الرجل الذي قلب الصفحات ليكشف المسكوت عنه، بحرية ابن البلاد، وبجلال الرجل الذي يكتنفه شعور التوحد مع مواطنته... إلخ”. في حضرة العفاريت يجري الحديث هنا عن طقوس السحر، وذاكرة الطفولة، وتوسيع قاعدة الجمهور المسرحي، ومحاولات الاقتراب من التجريب في مسرحيات الحتاوي، فمنذ بداياته في عام 1992 خطا الحتاوي أولى خطواته في المسرح، حين كتب مسرحية “أحلام مسعود”، وكانت أولى خطواته الجادة حين شارك في مهرجان الشارقة في دورته السادسة 1994، وفاز بجائزة أفضل كاتب مسرحي، التي جعلته يقف متأملاً لهذه المسؤولية.. ومنها أدرك معنى أنه يكتب مسرحية، حينما أدهشته الكلمات التي صارت فيها روح وتتحرك في حيز ضوئي يستلب المتلقي ويلزمه الانتباه. سالم قدم نصوصاً تغري الدارس للحالة المسرحية في الإمارات وللتجارب المتفردة فيها، خصوصاً من خلال ذهابه إلى مناخات درامية غارقة في المحلية، لجهة اللغة المكتوبة في نصوصه ولجهة انتقاء الشخصيات من الحارات والتقصي والسبر للموروث السردي لشخصيات وحوادث في الميثولوجيا الشعبية لأهل الإمارات والخليج عموماً، فمن بيئات مختلفة على شواطئ البحر وفوق مراكب الصيد والغوص على اللؤلؤ إلى شخصيات لصيقة بالمكان وبرائحة الأرض والتراب.. شخصية نابعة من عمق المجتمع. كان الحتاوي يدافع عن هذه الشخصية ويحارب من أجل انتصار لهجته الدارجة، ليس ضعفاً منه أمام اللغة العربية؛ لأنه قدم نصوصاً جميلة وثرية بالبلاغة في أعمال مسرحية كتبها بالفصحى، ولكن لأنه من الكتاب الذين دفعهم التغير الديموغرافي لمجتمع الإمارات لحالة من ردة الفعل الدفاعية، سواء كان ذلك بوعي أو بوازع من عقله الباطن، ردة فعل ملخصها النكوص إلى الماضي ونبش مواطن الجمال فيه ومواطن الاحتدام، مواطئ الخير والشر، مع مسحات كثيرة في أغلب نصوصه هي عبارة عن اعترافاته ومواقفه ككاتب في ظل هذا الطقس المشحون بالعاطفة والحنين لزمن يفترض أنه الأجمل، حسب ما يرى الكاتب والفنان مرعي الحليان. وبدأت التجربة تنضج أكثر عند مشاركة الحتاوي في الدورة السابعة لأيام الشارقة المسرحية بأربعة نصوص دفعة واحدة هي “ليلة زفاف” و”صمت القبور” و”الملة” و”إنها زجاجة فارغة”، حيث فازت مسرحية “ليلة زفاف”، واستمرت هذه التجربة عبر نصوص بلغت ثلاثين نصاً أنتجها في تجربته القصيرة زمنياً. الحلم مغلفاً ينطلق سالم الحتاوي في كتاباته من أفق مترام يغلف الحلم بواقعية لا تخلو من سحرية، يحاول من خلالها تطويق الواقع بأحداث تضييق الخناق عليه، وذلك من خلال شخصيات تنفلت من خياله حتى يجدها تنطق بالكثير من حكايات الجدات، وبلغة شفافة يحاول هندمتها حتى يقرب نصوصه المكتوبة بالمحلية إلى (اللغة الوسط)، وهي لغة مكثفة تمس شاعرية النصوص وتسخن في لحظات أخرى لتكون رفضاً صريحاً للكثير من الثوابت في الحياة، وهو وإن لجأ في الكثير من أعماله إلى حكايات الماضي، إلا أنك تجده يتقلب على جمر الأفعال الأكثر خصوصية والتي تلامس الواقع المعاصر، فالحتاوي نفسه يقول: “تربيت في حارة شعبية في الإمارات، فيها طقوس مثل أي حارة شعبية في الوطن العربي، مثل الزار، والفنون الشعبية الأخرى، وكنت قريباً من هذه الفنون منذ صغري، وعشت معها ووجدت فيها، وهذا شكل رافداً مهماً لكتاباتي، فبدأت أغرف من هذا الموروث الذي يفترض أن ننطلق من خلاله، سواء كنت مؤمناً بهذه الطقوس أم غير مؤمن.. هناك أناس يمارسون طقوس السحر ويلجأون إليه لحل مشاكلهم، وهذا يندرج على بعض المشاهير الذين يلجأون إلى العرافة وقارئي الكف لكشف الغيبيات، وفي الخليج أيضاً هناك شريحة كبيرة من الناس تعمل على فك الطلاسم وبعض الرموز في حياتهم وحل بعض المشكلات، خصوصاً النساء يلجأن إلى السحر لحل مشاكلهن”. ويعتمد الحتاوي كثيراً على الأحلام التي يعتبرها رديفاً للمسرح، وتجد لديه ظاهرة السحر بوصفها حالة أو سلوك ترتبط بعادات مجتمعية، فرغم تكراره لموضوع السحر في مسرحيته “مواويل” عن طريق شخصية مركبة ليسلط الضوء من خلالها على نقاط مظلمة في حياة الناس ورصد سلبياتهم، إلا أنه يختلف في كل عمل من أعماله، فمسرحية “الياثوم” بنيت على التلبس السحري من خلال قطة، وتقوم مسرحية “صمت القبور” التي تجري أحداثها في مقبرة على شخصية العجوز الساحرة التي ورثت السحر عن والدها، وهذه مسرحية من بواكير الحتاوي المسكونة بالغرائبية والسحر والطقوس. وبطقوسه ومفرداته السحرية، يوفر الحتاوي فرصة للاستنتاج أن السحر موجود ومؤثر بالإنسان وينتقل من وسط المحيط ويستقر وسط الروح والنفس، وأن اختيار المناطق العالية لسكن الجن كالجبال، واختيار المعتقدات المتعلقة بشجرة السدرة كموطن للجن رغم قدسيتها في الكثير من المناطق، هذا كله هو فهم للصراع القائم بين السحر الأسود وسحر يقصد منه الخير، وتغليف لأجواء المسرح بالسحر في الطقوس والشخصيات والأفعال المسرحية. كما شكل الحلم ظاهرة أساسية في مسرح الحتاوي، رغم أنه يجتمع عنده الحلم بأحلام اليقظة وبالرجوع إلى الماضي (فلاش باك)، وكان يفصح عن أحلامه عن طريق الكتابة المسرحية لشدة التقارب بين الخيال والأحلام. ففي مسرحيته “أحلام مسعود” مثلاً، يجعل غير المحسوس محسوساً، ويجسد الأحلام لتصبح أصواتاً تحاوره وتحاصره في آنٍ، فشخصية مسعود هامشية من قاع المجتمع وتوحي بأحلام المهمشين، في حالة لا تعترف بتحولات المجتمع وعلاقته بالنفط، وهو عامل بسيط في المسرح، تعبيراً عن أن المسرح يعلمنا تكثيف الحياة. هذه ملامح أساسية ميزت كتابة الحتاوي وتجربته، من بين الكثير الذي يمكن، بل يجب، أن يقال عن هذه التجربة وهذه الكتابة اللتين لم تتح لهما الفرصة للمزيد، وربما كانتا مجالاً للمزيد من الدراسات لفحص معالمهما وأعماقهما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©