الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حيرة الشاعر ودلالة الرمل

حيرة الشاعر ودلالة الرمل
23 يونيو 2010 20:37
نتساءل.. كيف يتم انتخاب المختارات الشعرية لشاعر كتب عشرات القصائد؟ وماهي الآليات التي يعتمدها في اختيار منتخباته تلك؟ وهل تلعب الذائقة الفردية دوراً أساسياً في هذا الاختيار؟ ثم ما هو النسق الذي تم وفقه هذا الاختيار؟ هل هو التماثل أم التناقض؟ هل هو الشكلي أم الموضوعاتي؟، هل هو الذاتي أم الموضوعي؟. وتبدو هذه الصيغة التي لم تكن جديدة في أدبنا الشعري العربي نمطاً قديماً حيث ابتدع الأقدمون المختارات وفقاً لأغراض الشعر أو لأغراض الحياة أو اللغة أو القبيلة أو البلد “مكانياً” أو الحقبة “زمانياً”. المجهود الشعري عرفت المنتخبات “المختارات” منذ تماسك المجهود الشعري. فعندما أوجد الشعراء نصوصاً راقية، استحسنتها العرب فاختارتها وعلقتها على جدران المكان المقدس ـ بحسب رواية التعليق ـ وهنا لابد أن نقر بحقيقة أن المكان المقدس قد أعطى للشعر صفة القداسة عند العرب. ولنفترض حسب الرواية الثانية ـ التعليق من العلق النفيس ـ فإن المختارات هي نفائس ـ وليس من نفائس ـ ما أنتج، ولنفترض أيضاً وبحسب الرواية الثالثة ـ أن التعليق مما علق في النفس ـ فإن ما علق يعني ما أصبح وجداً فاحتل القلب دون غيره. هذا ما يمكن أن يفهم من منطق الاختيارات الذي تطور من المنتخِب ـ بكسر الخاء ـ المجهول والذي أسند إلى العرب، إلى المنتخِب ـ بكسر الخاء ـ المعلوم الذي تجرأ على الشعر العربي بعد أن أصبحت ذائقته لا توازيها ذائقة وحافظته لا توازيها حافظة فاختار من هذا التاريخ الشعري نفائسه. وهنا كان لابد أن ينهج المنتخب منهجاً، فمنهم من ذهب إلى الحماسة واختار أجمل ما فيها من شعر ومنهم من ذهب إلى الشعر النسوي فاختار أجمل ما قالته المرأة الشاعرة من بين زميلاتها الشواعر، ومنهم من ذهب إلى الشعر بلا تخصيص إلا ما استحسن من تاريخ الشعر العربي، وأقصد بكل هذا “منتخبات المعلقات” وحماسة البحتري وحماسة أبي تمام وديوان الشعر العربي لأدونيس وغيرها الكثير. الناقد لشعره ولنا في العصر الحديث للشعر العربي وقفة عند نزار قباني حينما اختار شعره بنفسه في ديوان “أحلى قصائدي” فوقف موقف الناقد لشعره، كذلك أدونيس في اختياراته لشعر السياب والمتنبي، وقف موقف الناقد لشعر غيره، ولنا في العصور القديمة وقفة عند السيوطي في كتابه “نزهة الجلساء في أشعار النساء”. كل ذلك سقناه قولاً حين قرأنا ديوان “مقعد الرمل.. مختارات شعرية” للشاعر أحمد راشد ثاني الذي صدرت طبعته حديثاً عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. أسس الاختيار وبصدق أقول: وأنا أقرأ الديوان أنه قد طرأ على ذهني خاطر غريب، كوني قد تمثلت أحمد راشد ثاني ناقداً، لذا كان عليَّ حقاً أن أبحث ما وراء علاقة هذا النص الشعري ـ داخل الديوان ـ بما بعده وما قبله، وبالتالي يقودني هذا البعد والماقبل إلى اكتشاف قوانين وأسس الاختيار التي اتبعها أحمد راشد ثاني في استجلاب هذا النص الشعري من مضانه دون غيره، وهل ثمة وشيجة بينه وبين النص المجاور له. استرعى انتباهي أولاً أن الشاعر حدد موقع القصيدة المختارة ومن أي ديوان استلها، كما أنه حدد زمانها وبالتالي ظل أسيراً إلى الديوان الأول وكأنه يفترض أن قصائده لا تتجاور دون زمن، فكل قصيدة تحمل زمنيتها، إذ إن أحمد راشد ثاني لا يلغي علاقة الزمن بالقصيدة، أو لنقل بشكل أكثر وضوحاً لا يلغي علاقة الرؤية بالقصيدة، فالرؤية الفنية وفاعلية زمن الكتابة وزمن النص محكومة بما في داخل النص الشعري ولا يمكن التخلي عنها في حال اختياره أو مجاورته لنص آخر، إذ إن كل نص شعري منهما يحمل كينونته الزمانية ورؤيته الموضوعاتية. من ديوان “ها يداي فارغتان” اختار الشاعر 3 قصائد ومن ديوان “حافة الغرف” اختار الشاعر 13 قصيدة ومن ديوان “حديثي عن الآبار يشرب” اختار 16 قصيدة ومن “دم الشمعة” اختار 10 قصائد ومن “يأتي الليل ويأخذني” و”جلوس الصباح على البحر” اختار 8 قصائد ومن “الغيوم في البيت” اختار 6 قصائد ومن “وهنا اللذة” اختار 8 قصائد وفي كل ذلك قدم الشاعر ـ كما يبدو ـ كامل تجربته الشعرية من خلال قصائد استحسنها ويعتقد أنها تعبر دلالياً عن تطور هذه التجربة أو أنها تعطي ملامح هذا التطور ولا غنى عند كتابة دراسة كاملة وشاملة أن تعتمد الدواوين الكاملة ميداناً للدراسة وليست تلك المنتخبات. ونحن نرى أن هذه المختارات إشارة دلالية على حركة وتنامي التجربة من زاوية أن القصائد المختارة تمثل بؤرة كل جزء من هذه التجربة ممتدة وفقاً لسلسلة من الإبداع من الماضي “الأول” إلى الحاضر “الأخير”. استحسان الشاعر ولأننا افترضنا احتمالية ـ ما دامت هناك قصدية واضحة في الاختيار ـ أن يكون الانتقاء محسوباً بدقة ومعتمداً على جمالية ما استحسن الشاعر من نصوص دواوينه المتعاقبة ولا غرض له ثانٍ. وبالرغم من ذلك أعجبني حقاً أن أتلمس جانباً مهماً وهو أن المختارات هذه ضمَّت أو غلب عليها القصائد القصار واستشهد ببعضها: في قصيدة “كلما تذكّر” يقول: للأصابع ذاكرةٌ وبصيرةٌ كلما تذكَّر اصبع سميناه: أعمى وفي قصيدة “دائماً” يقول: الرائحة العفنة للأحذية دائماً تذكرني بمصيري وفي قصيدة “حركة” يقول: لا أظن أنها تنام أقصد المرآة لأن كلَّ شيء يختبئ في الخلف ويعقب ذلك ثلاث قصائد تحت مسمى إشاري “أيقوني” هو (...) أي اللاعنوان.. أعتقد أن أحمد راشد ثاني في قصائده القصيرة جداً كان عدمياً، حيث تسيطر عليه هذه الكثافة في الرؤية التشاؤمية عبر استخدام في نصوصه هذه: الرائحة النتنة/ المصير الموازي/ الاختباء/ الأعمى الباحث عن الحقيقة والبصيرة. ولكن ولكون أحمد راشد ثاني كان متذوقاً وجمالياً في اختيار نصوصه، فإنني وكقارئ للنص أفترض أن تكون قراءتي جمالية لنصوصه مستعذباً باختياري ما أراه أقرب لنفسي، فما يصح له أن يختار، يصح لي أن أنتقي منه ما أحس به الأجمل. حسناً إنني أختار هذين المقطعين من نص حمل عنوان “أوليات الغيوم” ويقول فيه: وحدكِ من مزَّق القلب إرباً... ووحدكِ من جعل الوقت وقتاً ويقول: يقولون لكِ: ـ اخضعي فتخضعين.. ويقولون لكِ: ـ كُفي عن الخضوع. فتخضعين ولا تكفين هذا هو اختياري الجمالي مقطعان من قصيدة “أولويات الغيوم” يعتمد فيهما الشاعر ثنائيات تقابلية متناقضة ليبني منهما نصاً وهذا هو جوهر الشعر، وأعتقد أن ما قيل في الغموض وأنماطه السبعة هو ما يُقال في الوضوح وأنماطه اللامحدودة، وما يقال في الشعر وكيف نفهمه ونتذوقه كما أراد أرشيبالد ماكليش بترجمة سلمى الخضراء الجيوسي فإننا هنا لابد أن نبحث عن روح التقابل الثنائي كي نفهم الشعر فتكون القصيدة أقرب للقلب. قلت إنه من الصعوبة جداً أن تخضع هذه “المختارات” للنقد والتحليل، لأنها جزء يمثل كلاً، ولا ينطبق القول في الجزء على الكل، حيث تكشف تلك الدواوين التي انتقى منها أحمد راشد ثاني كامل تجربته، وهنا نجد ملامح هذه التجربة وعليه يصير إعطاء الأحكام تعسفاً على المكون الشامل للتجربة، ومع هذا فإننا نتذوق ما يقع بين أيدينا باحثين عمّا هو جمالي. نقرأ لأحمد راشد في قصيدته “على الأبواب”: ماذا لو رجعنا إلى البيت وعلى ذراعينا طائر غريبٌ عيناه من ندى يطير من أهدابنا عندما ننظر إلى الألفةِ وهي تستوطن الأرائك وفي هذا النص الذي اخترته من “المنتخبات” سلطة للمكان الأمومي على ذاكرة الشاعر، وأعتقد أن هذه القصيدة نموذج يكشف عن اهتمامات أحمد راشد ثاني الأساسية وهي تناول عوالم مفقودة، لها ملامح في الذاكرة وبخاصة في قصائد ديواني “دم الشمعة” و”يأتي الليل ويأخذني”. الأسئلة والاحتمالات في “مقعد الرمل” اختار الشاعر معظم القصائد التي توحي بالألم، فتبدو كابوسية في الحلم وفي التذكر وحتى في التمني والتوصيف، وهذا ما أريد أن أؤكده حين قرأت المجموعة، وكما يبدو فإن الشاعر وفي زمن انتخاب النصوص وقف موقفاً نقدياً منها وفي ذاته حوار مع الألم، والموت، والدم الملفوف بالمعطف والرجوع إلى البيت الأمومي، ويمكن قراءة نص “الوردة الجائعة” الذي يتماثل موضوعاتياً مع نص “على الأبواب”، حيث نراه يطرح الأسئلة والاحتمالات، ولنقرأ من نص “الوردة الجائعة”: ماذا لو رجعنا وكان ربيعٌ هناك يفترش دكة الباب وعندما ندخل نرى في أقدامنا طراوة بالغة ..... ماذا لو رجعنا..؟ وكان البيت نائماً في جميع الغرف أقول إن القارئ يتبع الشاعر في انتخاب ما هو جمالي تفرضه الذائقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©