الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حروب وشعوب.. وحمام ووحوش

حروب وشعوب.. وحمام ووحوش
20 ابريل 2011 20:00
من بين عديد التظاهرات التي قدمها مهرجان الخليج السينمائي الرابع، تابعنا عددا من الأفلام في مختلف الفئات، ووقفنا على مجموعة من الملاحظات بخصوص بعض هذه التظاهرات، حيث أن العدد الكبير من الأفلام (أكثر من مائة وخمسين فيلما)، غالبيتها من الخليج بالطبع، وغالبية أفلام الخليج هي من الإمارات، أتاح لشرائح عدة الاطلاع على سينما بعضها يقدم للمرة الأولى عالميا، وبعضها في عرضها الأول في الشرق الأوسط والمنطقة، وكان الحضور مفاجئا إذ إن الكثير من العروض كانت تنفد بطاقاته قبل أن يحصل مريدوه على رغبتهم. كان من اللافت ابتداء حضور كثيف للأفلام “الشبابية” وليس الطلابية فقط، وخصوصا الطالبات اللواتي يسهمن بقسط أوفر من الطلاب (الذكور) في هذه التظاهرة، إذ يبدو أن السينمائيين الشباب في دول الخليج عموما، وفي دولة الإمارت خصوصا، آخذون في التناسل والتكاثر، كما أنهم في ما يبدو مصممون على طرح الجديد على صعيد الأفكار والرؤى السينمائية، كما بدا في عدد من الأفلام، فهناك الفيلم الذي يعتني بالتراث والثقافة والهوية واللهجة المهددة كلها بمزيج الهويات. وكما برزت اجتراحات الشباب تحديدا في تظاهرة “أضواء” التي قدمت مجموعة من الأفلام من دول الخليج، أفلام تركز الضوء غالبا على هموم الشباب في المجتمع الخليجي، فيفاجئنا مثلا فيلم من السعودية بعنوان “وينك” بجرأة طرح المشكلة المتمثلة في الكحول وحفلات المجون في الصحراء، بينما يقدم لنا فيلم آخر صورة “شيبة” يملك ثروة يبددها على عشيقته ويرفض منح أبنائه شيئا منها، وتظهر حياة الليل والديسكو، فيما يظهر فيلم كويتي هموم “عزيز” الذي يجد نفسه ضمن فريق للقتلة وهو يتذكر طفولته المليئة بألعاب الأسلحة. العراق والإمارات ضمن التظاهرات المهمة، برزت تظاهرة الأفلام الوثائقية التي توزعت على الفيلم الطويل والقصير، وعلى أفلام الطلبة كما على المسابقة الرسمية للأفلام، ومثلما قدم بعض هذه الافلام سير شخصيات تميزت في جانب ما من مواصفاتها، قدم بعضها الآخر سيرة المكان والبيئة وتحولاتهما مع التغييرات التي تصيب العالم، وتناول البعض مسيرة جهة ما ثقافية أو تراثية، وأرسل آخرون رسائل إلى جهات عدة كان من أبرزها إلى فلسطين. في خضم هذه التجارب وقفنا على ما استطعنا مشاهدته من أفلام، فوجدنا أن الفيلم الوثائقي ربما كان من بين أكثر الأفلام إشكالية من حيث طبيعته وبناؤه وتكوينه، وتكمن هذه الإشكالية أساسا في كون هذا النمط من الأفلام يبدو للكثيرين سهلا على خوض تجربته، فيما هو من أصعب أشكال الصناعة السينمائية من حيث خياراته الموضوعية والتقنية المتعلقة بتنفيذ الفكرة الأساسية للفيلم، إذ إن الفيلم يبدأ بفكرة قد تكون غامضة قبل أن تتبلور وتأخذ في الاتضاح، ليبدأ بعدها تفكير المخرجين بالتنفيذ على الصعد كافة. أفلام عدة يمكن تناولها في هذا السياق، مع الإشارة إلى هيمنة للأفلام الوثائقية العراقية (10 أفلام) تليها الإماراتية (5 أفلام)، ثم اليمن والسعودية وقطر والكويت والبحرين وعمان. لكننا سنركز هنا على مجموعة من الأفلام الوثائقية التي أبرزت إمكانيات فنية وفكرية متميزة، وهي على وجه التحديد: فيلم “حمامة” للشاعرة والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، وفيلم “بصيرة” للمخرج الإماراتي أحمد زين، والفيلم الإماراتي “رسائل إلى فلسطين” للمخرج راشد حميد المري، والفيلم العراقي “إيران، الجنوب الغربي” للمخرج محمد رضا فرطوسي، وفيلم “موت معلن” للعراقي رعد مشتت، وفيلم المخرجة اليمنية خديجة السلامي “الوحش الكاسر”. شخصيات وبيئة محلية فيلم “حمامة” من إخراج الشاعرة نجوم الغانم (قام بالبحث الشاعر والإعلامي خالد بدر) يقدم سيرة الطبيبة الشعبية “حمامة” التي يقدمها الفيلم بوصفها شخصية بسيطة ومركبة في آن، بسيطة في سلوكها الإنساني اليومي وعلاقتها مع من يحيطون بها بها من “خدم وخادمات”، لكنها شخصية مركبة في ما يتعلق بسلوكها المتعلق بمهنتها، بل قل “موهبتها” في معالجة كل ما يخطر ببالك من أمراض لا يستطيع الطب الحديث معالجتها، سواء بأدويتها العشبية التي تقول هي، ويقول من حولها، إنها لا تخطئ هدفها، أبو المعالجة بالنار “الكي” كآخر وسيلة للشفاء. هنا في هذا الفيلم، وبعد أن ينسق خالد بدر مادته الوثائقية، تطلق نجوم الغانم إمكانيات الحوار والتصوير لترصد تطور هذه الشخصية المركبة، بدءا من عتبة البيت البسيط وما ينطوي عليه من عمل تقوم به العجوز التسعينية (حمامة الطنيجي بنت الذيد)، لترصد مسيرة حياتها “الأسطورية” المتمثلة في قدراتها على شفاء أي مرض، العجوز التي ما تزال ترفض أن يمر شارع الإسفلت من أمام بيتها لشعورها أن هذا الشارع سينغص حياتها، وما تزال تصر على طبخ طعامها بيديها دون مساعدة من الخادمات سوى في ما يتعلق بتقديم بعض الخدمات، وما تزال لديها القدرة على معرفة مرض المريض/ المريضة بمجرد لمسة من يدها. هذا كله تقدمه نجوم الغانم في عمل عبر 56 دقيقة من الصور والحوارات والشهادات حول شخصية حمامة منذ بداية تعاملها مع العلاج الشعبي الذي تقوم به “حمامة”، حيث الصورة مشغولة بأسلوب يبرز جماليات المشهد الذي تقدمه، بما فيه من تفاصيل ومن عناصر البيئة المحلية، حلب البقرة وصناعة اللبن والزبدة والأجبان، في عملية توظيف لكل عناوين الموروث، وتقلبات الشخصية عبر محطات من حياتها وعملها. في فيلم آخر بعنوان “البصيرة” للمخرج الإماراتي أحمد زين نلتفي بشخصية رجل ضرير متعلق بحياة البحر، فهو الذي يخاطر بحياته من أجل عدم الخضوع لمخاطر البحر، والفيلم يطرح سؤال البصيرة في مقابل البصر، فمن خلال هذه البصيرة يستطيع بطل الفيلم أن يقود القارب ولو كان بمساعدة الهنود في مسائل تتلخص في مساعدته على الصعود للمركب، ما يعني أن البصيرة يمكن أن تكون بديلا من البصر، مع ما يقوم به هذا البصير (الضرير) من تحديات ومغامرات. ويشتغل المخرج على المشهد البصري بالكاميرا التي تتخذ من البحر وبيئته فضاء فسيحا لها. مع فلسطين الفيلم الإماراتي “رسائل إلى فلسطين” للمخرج راشد حميد المري يحشد رسائل من الفلسطينيين واللإماراتيين والعرب المقيمين في دولة الإمارات، ممن يظهرون الرغبة في التواصل مع الأهل في فلسطين، أو يرغبون في زيارة فلسطين، والقدس خصوصا، لكنهم يشعرون بالقهر لعدم قدرتهم على القيام بذلك، فتحتشد مشاعر الغضب مختلطة بمشاعر الضعف لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا “معهم” في معاناتهم، وأن أقصى ما يستطيعونه هو تقديم المعونة المادية، بينما تبرز في الفيلم ناشطة سياسية تركب البحر مع إحدى قوافل كسر الحوار عن غزة لتروي شهادتها عن اللقاء مع أهل القطاع المحاصر، فتقدم نموذجا للتواصل مع الفلسطينيين في الداخل، وهو أقصى ما يستطيعه العرب في الخارج تجاه الداخل الفلسطيني. ماضي العراق وحاضره ويقدم الفيلم العراقي “إيران، الجنوب الغربي” للمخرج محمد رضا فرطوسي صورة من صور الأهوار بعد الحرب العراقية الإيرانية الشهيرة، ينتقل بين ما قبل هذه الحرب وما بعدها، ما كان عليه المكان من جماليات وبساطة وغنى يعيش الناس عليه بعفويتهم في التنقل، وحيث الماء الذي كان مصدر حياتهم بدأ يجف، وأخذوا يبحثون عن مصدر آخر للرزق، وينتقل بنا المخرج بين مشاهد الخراب التي أصابت المكان، مستعيدا مشاهد من الحياة الشعبية والقديمة المتمثلة في تفاصيل الحياة اليومية كما تبدو في مشاهد الخبز بالطابون والموائد الفقيرة بعد سنوات الغنى التي كانت تلك المناطق تعيشها. الوقفة الأخيرة ستكون مع الفيلم “موت معلن”، للمخرج العراقي رعد مشتت، هذا الفيلم الحارق من جهة تسليطه أضواء قوية على مسرح بغداد وفرقة المسرح الفني الحديث، واستحضار مناخات المسرح العراقي منذ الخمسينات، وتجارب المسرحيين المؤسسين من خلال هذه الفرقة التي كانت بطلا للفيلم، حيث جرى التحقيق فيها مع عدد كبير من المشتغلين في المسرح العراقي، ليتبين أن غالبية الأسماء والتجارب المعروفة تنتمي إلى هذا المسرح الفني الحديث، بدءا من يوسف العاني وسامي عبد الحميد ومقداد عبد الرضا وإبراهيم جلال وفاضل خليل مرورا بجيل جواد الأسدي وعوني كرومي وإقبال نعيم وسواهم ممن يتحدثون في الفيلم أو ممن يجري الحديث عنهم من الراحلين. فيلم يبرز كيف تحول مسرح بغداد إلى ثكنة عسكرية ومقر لعصابة، وتتجول الكاميرا في أرجاء المسرح المدمر التي لم تستطع جهود المسرحيين طوال سنوات الحرب منذ 2003 إصلاحه، فيقف كل فنان يبكي على أطلاله، يبكي ذروة تطور الحركة المسرحية تأليفا وإخراجا وتمثيلا، ويجري الحديث عن التحولات التي أصابت البنية الثقافية عموما والمسرحية خصوصا، وتدور الكاميرا في شوارع بغداد لتظهر غياب مقاهيها الشهيرة، وازدحام شوارعها بالحياة الاستهلاكية البائسة، لكن الكاميرا لا تغفل الحضور القوي لجدارية جواد سليم ولو من بين الركام والقاذورات والخرابات التي خلفتها الحرب. ونستمع إلى واحد من مؤسسي المسرح الحديث في العراق وهو يتحدث بحرقة كيف كان ينحني ليقبل خشبة المسرح التي باتت مهدمة وشديدة القذارة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©