الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمعة الفيروز.. بركان لم يخمد

جمعة الفيروز.. بركان لم يخمد
20 ابريل 2011 20:21
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. جمعة الفيروز اسم تتوارى خلفه حياة عاصفة مضطربة، فهو نموذج يمثل الجيل الثاني في الحركة الثقافية الإماراتية، لكنه في الواقع نموذج مختلف بكل المقاييس سواء في تنقله بين ألوان مختلفة من التعبير، من قصة قصيرة وشعر وموسيقى ورسم، أو على مستوى الحياة الغامضة التي عاشها، حتى رحل وحيدا وسط العتمة والوحدة والغربة واليأس، فهل يلخص هذا المستهل الواقع الأليم للحالة الثقافية العربية؟ أو كأنما القدر قد اختصه من دون أكثر الكتّاب بأن يمضي وحيدا غريبا متألما في أواخر حياته التي اتسمت بمظاهر القلق المعذّب الذي لم يستقر في حياته على إيقاع محدد، لأنه كان مفرط الحساسية الى الحد الذي دفعه في لحظة فاصلة أن يدير ظهره للعالم كله، ليعيش بقية حياته على ضوء شمعة. لكن هذا الكاتب وبشكل عام استمد أهميته من أهمية المرحلة التي كتب فيها (أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات)، حيث كان أحد أهم من ساهموا في صناعة المشهد الثقافي المحلي الذي امتاز بنوعية الأعمال التي اهتمت بتناول قضايا المجتمع والإنسان بكل حمولاته، أما بالنسبة إليه ككاتب فلم يغب عن القضايا العامة، وقضايا مجتمعه على وجه الخصوص، ولكن في إطار رؤيته الخاصة، المبنية من قلقه الروحي وقلقه الفني، حيث نجح ما بين عمل قصصي وآخر في تطوير أسلوبه وأدواته، مما حقق له شخصية وهوية خاصة، وقف من خلالها على أرض (محلّية) حققت له أصالة التكوين الشمولي، فاختار الطريق الأشق، ودفع الثمن فادحا من عيشه، ليحيا فترة حياة محفوفة بالمخاطر. استقالة من الإبداع في سيرة الفيروز أنه ولد في إمارة رأس الخيمة عام 1955، تتلمذ في مدرسة القاسمية، ثم تخرّج في معهد الموسيقى العربية بالقاهرة عام 1975، تنقل بين العديد من الوظائف في وزارة الإعلام وبلدية رأس الخيمة. كان صاحب قلب هاجس يطلب شيئا بعيدا غامضا لا سبيل الى تحقيقه أو لعله لم يكن يعرف ماذا يطلب على وجه التحديد أكثر مما يراه المبدعون في رؤاهم الغامضة من أحلام بفردوس أرضي يهيمون فيه هيمان النحل بين الأزاهير، لكنه مع ذلك سيظل قطبا مهما من اقطاب التجديد في القصة القصيرة الإماراتية بل وفي قصيدة النثر التي اعتمدها في ديوانه الوحيد “ذاهل عبر الفكرة”، فقد وجد فيه عدد غير قليل من النّقاد رواسب كثيرة من أسلوب بدر شاكر السّياب ومن طريقته في الانفعال ومع ذلك وعلى حين غرّة، وفي أوائل التسعينات قرر الفيروز (الاستقالة) واعتزال الحياة الثقافية والناس والعمل الرسمي، متفرغا لوحدته وآلامه، وقيل أنه وقتئذ لجأ الى إحدى غرف بيته الشعبي، بعد أن طلى جدرانها باللون الأسود، وراح في عزلته الاختيارية يكتب في العتمة الصماء، الا من ضوء شمعة صغير، وحينما سأله بعض الاصدقاء عن سر ذلك قال: “أكتب على ضوء شمعة لكي أنير قلب العالم المظلم”. بحكم دراسته للموسيقى، فقد أتقن الفيروز العزف على آلات الكمان والبيانو والعود والقانون، وقد نجح في انجاز أوبريت بعنوان “عشّ المحبة” وتم عرضه جماهيريا عام 1981، وله أكثر من أربعين لحنا، منها ألحانه الخاصة لمسرحية “الرسالة وجزر السلام”، ومن أشهر ما قدمه للساحة الغنائية في مرحلة الثمانينات لحن أغنية بعنوان “أحلى الأيام” من أداء المطرب سالم عثمان، كما أسهم في تأسيس مسرح رأس الخيمة الوطني واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات عام 1982. أتقن اللغة الانجليزية والأوردية، فترجم عددا من قصائد الشاعر الكبير (طاغور)، كرّمه أصدقاؤه بعد وفاته، حينما أطلقوا اسمه على قاعة المحاضرات في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات فرع رأس الخيمة، وتأثر خلال حياته ومسيرته في الكتابة والتعبير بمرجعيتين مهمتين على مستوى الإمارات: أولهما الشاعر حبيب يوسف الصايغ، ومن أسلوبه استمد جغرافية الرؤية في بناء المشهدية ذات الفضاءات المتداخلة، وثانيهما الشاعرة حمدة خميس، وقد حقق له هذا الخليط الابداعي العربي والمحلي عينا ثالثة نظر من خلالها الى المستقبل بصورة استشرافية. عام 2000 كان في الواقع عام حظّه في تنوع إنجازاته الكتابية، حيث اصدر كتابين في النثر الفني، الاول بعنوان “ذاهل عبر الفكرة” عن منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في الشارقة، والثاني بعنوان “الأشياء تمرّ” عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت. كما صدرت له مجموعتان قصصيتان الاولى بعنوان “مسافة ـ أنت ـ العشق الأولى” وقدّم لها الدكتور محمد عبد الله المطوع، وتتضمن خمسة عشر نصا، منها “البحر يطمي” و”بعيدا في الشمس” و”ثمار السنين اليابسة” و”حريق في المدينة” و”أمينة” و”قبل البارحة” و”الخيانة” و”الاختيار المفاجئ”. أما مجموعته الثانية فقد جاءت تحت عنوان “علياء وهموم سالم البحار” عن منشورات دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة، وقدّم لها القاص والناقد عبد الفتاح صبري، كما أنجز رواية واحدة لم تنشر وحملت عنوان “الدائرة”، وترك مجموعة مهمة من المخطوطات ما زالت بحاجة الى متابعة وتحقيق. أما مجموعته “علياء وهموم سالم البحار” الصادرة عن دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة عام 2001 فيكشف من خلالها عن المخبوء في سيرته الذاتية ضمن أدب السيرة، وهي من حيث مادتها تمثل بداية ما يمكن تسميته بمرحلة العذاب الفردي التي دفعته الى صياغة تتصف بالتعبير الوجداني القريبة من الخواطر في جوانبها، مدركا في ذات الوقت خطورة التناول في المنهج الجاهز، فسعى الى البحث في الخصوصية، فحرص جادا في كتاباته على الربط بين الإطار الذاتي والاجتماعي. شهادة أخيرة في آخر شهادة له في يناير عام 2000 وتحت عنوان “نحاول أن نكون وعيا للذات”، حول واقع القصة القصيرة بوجه عام وفي الإمارات منذ الولادة حتى الرّاهن، كيف ولج كتابها الى هذا العالم المدهش؟ وكيف وجدوا أنفسهم فيه؟ قدّم جمعة الفيروز شهادة تتحدث بعامة عن الفكر والادب وعن تجربته بوجه خاص فقال: “كلنا حالات من مراحل عديدة مضت، وحالات لمراحل قادمة نأمل أن تكون أكثر ثراءا وابداعا، ولكن أرجو المعذرة ربما يخونني طريق التعبير الفني الذي يبلغ منه القصد غير المباشر، ذلك لأنني ابتعدت فترة عن متابعة مجال القصّة، فقد جدّت في حياتي أحداث باعدت بيني وبين أسباب المتابعة والإنجاز، وها نحن أولاء بعد هذه القطيعة من الزمن نحاول أن نصل ما انقطع. طبعا قرأنا وعرفنا أن القصة القصيرة على درجة التحديد، دخلت بتقنيتها الى الشرق العربي مع اطلالة القرن العشرين عن طريق الترجمة والاقتباس ليبدأ كتّابنا عملية تغليف وتأليف لهذا الوافد الجديد، ولكن تلك المحاولات لم تبلغ المستوى الذي يتيح للمتعامل مع القصة أن ينظر اليها كمادة أدبية متميزة، ولعل ذلك من أهم سمات تلك البدايات، اعتمادها على التاريخ والإنشاء، والأكثر من ذلك غلبة عناصر الشعر والسير والحكايات الشعبية من سرد وإرشاد وترصيع وسجع وبلاغة”. وفي رأي الفيروز إن “القصة الإماراتية تتيح وجهة النظر في استخدام الشخصية المقررة، وهذا ما أردت التأكيد عليه، بالرغم من أنها لا تصور ما بداخل عمق الشخصية، الا أنها تمتلك ميزة كونها كاملة الصدق، لأن إدراك العالم الخارجي المحيط بها محدد مثل وضع القارئ وعالمه، ومثل تجربتنا الحياتية الواقعية، كما هي واقعية بالفعل، وكما يستطيع المرء تحسسه بصورة موضوعية، وبما أن مثل هذا التقرير لا يستطيع اختيار الأفكار والأحاسيس الذاتية للشخصية المقررة، فعليه اذن ان يقدم أدلة خارجية مقنعة لما يدور في باطن الشخصية المقررة، لذا فإن المتلقي يكون أقل استعدادا لأن يتطابق بصورة كاملة مع أحاسيس الشخصية المقررة، ولا يستطيع أن يشارك مشاركة فاعلة في اتخاذ القرارات، ولن يكون واثقا تماما من الحافز او الاحساس أو رد الفعل الذاتي كما في القصة ذات المنحى السيكولوجي، فوجهة النظر الموضوعية “غير الذاتية” غالبا ما تكون مقيّدة؟ وهذا ما نراه غالبا عند قراءتنا لبعض القصص التي تعتمد على صيغة “ذات الشخص الأول”، أي كما يقولون عنه، المتكلم، نحاول أن نكون بطريقة ما “وعيا للذات”، وكثيرا ما تبدو في أيدي كتّابنا الشباب الى حدّ كبير. مثل غيره من الكتّاب الإماراتيين في مرحلته لم يغفل الفيروز أن هناك ثمة متناقضات في مجتمع ناشئ، فجاءت بعض قصصه حاملة ذلك البناء الجدلي الفني الذي يتطور من خلال صراع هذه المتناقضات، ومن أمثلة تلك الأعمال قصته “الاختيار المفاجئ”، التي تندرج تحت ما يمكن تسميته بـ(قصص القهر)، وهي تلك التي تتخذ من العنف البوليسي مسرحا لأحداثها، حيث رجال الشرطة والمحاكمة والتحقيق وخنق الحرية، والقمع، هي الإشارات الأساسية في مركب الموضوع الذي يقدم المحكومين بلا جرم اقترفوه باعتبارهم ضحايا لرجال البوليس الذين يترصدونهم ويلاحقونهم ويعذبونهم بلا مبالاة، وقد رصد الكاتب هذه الصورة المشهدية بطريقة اقرب الى التعبير الدرامي من حيث البناء الفني والإرشادات الوصفية التي تشير لصور دلالية لطريقة اقتحام المنزل والمداهمة من جانب البوليس الذي يعكس الوجه الواحد للقمع في العالم: “هممت أن افتح فمي كانت أسرع منه صفعة قوية أوقعتني أرضا، كان هذا تنبيها بعدم الكلام”، فيما ينقلنا الكاتب دون أن يحدد المكان والزمان الى أجواء الزنازين وغرف التحقيق والتعذيب، وهناك وصف دقيق لمعاناة الشخصية الرئيسية في القصة للعنف الذي مورس عليها: “وأحسست بالدّم يسيل على وجهي أن أقف ولكنني ترنحت وتهت في غيبة بعيدة” (ص 17)، يتوازى مع هذا المشهد الذي تنزف فيه دماء البطل دم الإجهاض لزوجته التي فقدت جنينها الأول وحلمها الموعود نتيجة العنف وانعكاساته وتأثيراته العضوية والنفسية على الزوجة الحامل. ويتميز الفيروز بهذا الاستخدام الفني في أنه صنع صورة كاملة بتداخل الرمز في الواقع، والبراعة اللفظية ومن حيث صياغتها التي تعتمد الجملة القصيرة المحددة التي بمقدورها أن توحي بحالة شعورية كاملة: “دفعني بقبضته وعيناه لا ترتفعان عني، بينما كان يوجّه حديثه الى الرجل الذي كان يدخن “السيجارة الطويلة” ويتصفح جريدة كانت أمامه، رفع الرجل وجهه واعتدل في جلسته ونظر نظرة فاحصة وزعق فيها وهو يلوّح بيده في الهواء: غلط ليس هو، قبضنا على الشخص المطلوب، احجزوه! كنت أغادر الحجرة وأحد الرجال يقول بصوت خافت للرجل الأنيق: نعتذر له...؟ ردّ عليه في تباطؤ: لا.. ربما يعتادون على ذلك”. (القصة ص 53). بهذه اللغة المكثفة التي تتمتع بالتوتر والشاعرية والايحاء وضع الكاتب أمامنا صورة درامية معاصرة للناس الأبرياء الذين يعتقلون خطأ دون مراعاة حقهم الإنساني في الدفاع والتعويض والتظلم، وهي صورة تحمل معادلها الموضوعي، وفي ذات الوقت تضعنا على تماس مع أزمة الإنسان المعاصر في مواجهته للعنف غير المبرر، بحيث تصبح تعبيرية الكاتب على تماس مع معاناة أي إنسان في أي مكان، وقد يكون لجوء الكاتب الى (تعمية) المكان، وتعويم (الزمان) هو المسار الذي اتخذه عدد كبير من الكتاب العرب، هربا من مقص الرقيب، ومن ثم الاتكاء على الرمز لتحقيق إبعاد الإسقاط الفني، دون أن يتعرّض للخاص المعيش من خلال تواري شخصيات القصة خلف الرموز، لتصبح هي الرمز نفسه لمختلف القوى القاهرة والضاغطة واللامبالية بحياة الإنسان وحريته، وما بين ذلك كانت المفردات المشاكسة هي طريق الكاتب لتصوير الأجواء الموحشة لبطل قصته: “اقتحم الرجال الشّقة، التفوا حولي، أجلاف، خشنون، وجوههم ذاب فيها أي انفعال مخيف، ونظراتهم ضاع منها المعنى (...) أمسك رجل بمقبض الباب فجأة ودفعه، فانغلق في حركة خاطفة دافعا اياي الى خارج المنزل، في غرفة فيها آخرون دفعوني وأغلقوا الباب” (القصة ص 50). في قصته “خيانة” يقيم الكاتب صراعا مميتا بين الأبيض والأسود في الحياة، ولكي يصقل قصته لتبدو (انعكاسا لانعكاس) أو ما يمكن تسميته بـ”لعبة التوازي والتناوب”، يضع هذه الصراعات على عدد من المستويات المتوازية من خلال تبادل الأدوار بين الشخصيات، حيث تتبادل حبيبة البطل وقطّته الادوار، اذ تهجره الحبيبة بعد أن عشقها عشقا عنيفا، فيما تتهيأ القطة لهجره استجابة لنداء قطّ جذبها اليه. وتكمن أهمية هذا البناء في رسمه النفسي الدقيق لمشاعر شخصية بطل القصة الذي اصابه شعور المهانة، الذي أدّى به الى شعور آخر بأنه موضع إحسان، فتؤدي هذه المشاعر الى (أزمة الشخصية) التي تقوده الى عدم الاستسلام، فينقض على القطة بعصاه، ويهوي عليها بعنف حتى تموت. يستثمر الكاتب، في بناء متنه الحكائي، تقنيتي القطع المكاني والتداخل الزمني، ويجعل وقائع الماضي والحاضر تتناوبان وتتداخلان بحيث يغدو الحاضر صورة مكررة عن الماضي، وتصبح القطة رمزاً لكل فتاة خائنة، ولهذا يكون الاقتصاص منها تصفية حساب يقوم بها البطل مع ماضيه المثقل بالجراح، وفعل تطهير يتخلص به من مشاعره المدفونة، في تكنيك بارع يقوم على إغراق الحالة في الصور المتنقلة، ولكن في اطار وحدة النغمة وازدواجية الرؤيا والموسيقى الداخلية التي تتحرك في إطارها الشخصيات ضمن صراعها الممتد. مستويات السرد ما يلفت الانتباه في سرد الكاتب هو اهتمامه بطرح موضوعه من خلال (الراوي) في مستويات عديدة، بحيث يصبح الأخير هو بطل قصته “حريق في المدينة” والتي تتوازى مع الشخصية الرئيسية (الشّيبة عبد الله) في موضوع اجتماعي محلّي، يفضي الى حرقه داخل دكّانه من قبل مجموعة الشخصيات المأزومة في القصة التي يحضر فيها المكان بجانب الفعل المبني على حالة تصور تمرد الشخصيات على واقعها المضطرب وعلى إفعال الشيبة عبد الله المؤذية التي تدفع الى تمرد الشخصيات ومن ثم أقدامها على عملية القتل كفعل تطهيري مقابل لبواعث الأزمة، وتحقيق لظاهرة اجتماعية سلبية، في إشارة واضحة لأزمة الانسان حينما تصادر منه الأشياء، فيجترح الكاتب فكرة (التمرد) كبديل متاح للحياة اليائسة، فيصبح فعل الموت تمثيلا وتعويضا وإشباعا نفسيا لما هو غير متحقق في الواقع. في حين تركز قصة “أمينة” على قضية المرأة كنقطة التقاء للقضايا الاجتماعية المختلفة التي تتشظى فيها ذات الأنثى لصالح المجتمع الذكوري، فهناك ثمة صرخة احتجاج وإدانة لمجتمع قاس يحرمها من حقوقها المشروعة في التعليم والحب وتحقيق الذّات، واختيار الشريك، والبوح بالأحلام المستترة، وإبقائها بسبب التقاليد والتسلط تعيش على هامش أحلامها المؤجلة. كان أهم ما في رسم شخصية البطلة “أمينة” هو طريقة عرضها في النص، حيث أنها لا تظهر لنا عيانا، ولا نسمع صوتها ولا نراها في ذاتها، وانما نتلمسها من خلال الراوي، ليكون انفصالها عن الواقع هو المعادل الموضوعي لايجاد معنى للذات في عالم محاصر بالتشيؤ والانشطار، وفي هذه التوظيفات الجديدة المتنوعة يزاوج الفيروز بين التجريب ومشروعات التحديث التي تهشمت داخلها كلاسيكية القصة. فلسفة جمعة الفيروز في الحياة لعبت دورا مهما في بناء قصصه، بل واختيار مواضيعه التي لم تخلو من الأمل، لكنه الأمل الذي لا يخرج الا من الألم ومن الشجاعة في مواجهته، نعم هناك أمل ما دام الانسان يدرك أن كفاح الشر ومقاومة الظلم هما الضمان الوحيد لكرامة الانسان وكبرائه وعنفوانه، ولهذا تجد في معظم قصصه في مجموعته الثانية ملامح (التناص) من ذاته، وتجربته، وتوظيفها كأداة تعبيرية تشي بذلك الايمان العميق قي البحث عن مكامن الحرية والانطلاق، ومن ذلك أن بعض الإهداءات في قصصه وجهها الى أمّه وزوجته وابنته “علياء” وأولاده سالم وخليفة وفاطمة وأسماء، باعتبارهم رموزا تمنحه طمأنينة مفقودة، نحو قراءة موازية لواقع قصته “مسافة ـ أنت ـ العشق الأولى”، حيث يستشف وقع الزمن المفقود في حياته، انه يتحسر ويتألم لما فاته في حياته من هدر للوقت، فقبس من أحد الكتّاب العالميين مقدمة وضعها في أول الكلام لقصته “قبل البارحة” ونجتزئ: “اذا كنت تحب الحياة فلا تضع الوقت سدى، لأن الوقت هو المادة المصنوعة منها الحياة”. ويبلغ به حب التنوع في المضمون أو التوظيف الجمالي لأدوات التعبير الفني أن يبحث عن (مناصات) تشعرة بأهمية الوقت في حياته، فيضمنه في نصّه “بعيدا عن الشمس” كنوع من التجريب المستمر يتقاطع مع مختلف الموضوعات في تناول يشهد له بالمهارة في تركيب بناء قصصي جديد، فنقرأ: ... قادم نحو الموت.. أقتحم الأسوار... كوني صلاة جنازتي المحمولة فوق أصابعك المرتعشة... كوني براءة هذا الرفض الذي نزفنا كوني قضباناً تفتح في ظلمة السجون كوني انتفاضة أوجاعنا في ضلوع الأمة... صفي أغانينا المستباحة للفقراء سلاحاً فهذي الشوارع موروثة للماء! كلاماً عابراً. رحل جمعة الفيروز في العشرين من فبراير عام 2001. عن الكاتب والانسان الذي اتفق مع نفسه أن يبني قدره وأخلاقياته في عزلة حقيقية دون الاستعانة بمقاييس اجتماعية أو مقاييس غيبية، عن أصالته ورحيله وعذوبة افكارة كتب الدكتور سلمان كاصد وابراهيم الملا في “الاتحاد الثقافي” 12 يونيو 2008 تحت عنوان: “جمعة الفيروز الحياة جدّ قصيرة” ونجتزئ: “كان حالما فتنقل بين الفنون وخيالاتها التي لم تعطه بستانه في الحياة، عاش اللامألوف كله، وغرد في هواء طلق، هواء الشعر والقصة والتأملية، جمعة الفيروز دافئ حدّ الاحتراق ومعتزل حد التصوف، له عوالم لم يطرقها غيره، دخل ذاكرة قريته “سدورة”، عبر بوابة الابداع، فأثر في من عاش معه، امتلك رؤى متعددة فلسفها وشعرنها فتأملها فاقتنع بانه الأصح في هذا العالم المميت كان يهتم بالاصدقاء فيحتفي بإبداعهم وربما يبثهم حبّه شعرا، لقد كتب همومه الخاصة وعاش حياته بكل تجلياتها، عاش الشعر والموسيقى فأحبّ أن تعزف أنامله على أوتار الحياة، اصدر “ذاهل عبر الفكرة”، في أواخر حياته، فغادر مع ذهوله مطلع، كان مرحا حدّ الموت، وقاصا يتأمل حكايات الناس، وترك “مسافة أنت العشق الأول” فطبع حكاياته الصغيرة، وخلف “ذاهل عبر الفكرة” مليئة بأسراره وطفولته والجنة التي كان يحلم بها ولم ير “علياء وهموم سالم البحار”، فلربما ذهب وهو يحلم بأن يخبره يوما ما من يأتي اليه. جمعة الفيروز فكرة في ذاكرة، وسفر بين حروف الأصدقاء، وضوء لاهث ننظر له من بعيد عبر قصائده المليئة يعشق الحياة التي لم يعشقها ولم يعجب بها”. تمتعت كتابات الفيروز الشعرية بخيال خصب رصد من خلاله مشاعره المتدفقة المريرة خلال فترة قلقه الوجودي، متمثلا ذلك في ديوانه الشعري الوحيد بعنوان “ذاهل عبر الفكرة”، وبدا في غالبية قصائد الديوان منسحبا من الحياة، باحثا عن خلاصه الفردي من جحيم حياته، ولا أحد يشكّ أن صفاءه ودفئه الشديد في التعبير والصورة والمفردة انما جاء من عمق الايمان الذي كان يتمتع به على نحو ما نقرأ على محتوى قصيدة النثر، حيث جمالية وموسيقية هذا النوع من ألوان التعبير على مستوى التدفق، وعلى مستوى بناء الصورة المستندة اساسا الى السرد: وحدي واقف صامت مثل تلك التماثيل حولي أموات يتساءلون عن مخرج يعودون دون جدوى يتظاهرون بالفهم يتساقطون قبل اكتمال المشهد الأخير يتنفسون قهراً من دون جواب وكما يبدو لنا فالشاعر ينصرف الى داخل النص ويبني بلاغته على حياد لغوي بحيث تحتوي الصورة على مكونات بصرية ابعد من الكتابة وكأنها الرسوم البيانية التي تتضمن صورا تتمتع بالشفافية والتشخيص، وهو أبعد ما يمكن أن يحققه شاعر في (توليف) نص يمكن أن يتوالد عنه نصوص اخرى في ذاكرة القارئ. لم تكن طريق الفيروز مفروشة بالورد، فقد ولد كما يقول “في حضن فقير وفي بيئة وبيت أفقر” ومر بنوبات إنسانية واجتماعية قاسية، وعانى معاناة نفسية شديدة، لكنه كان في كل ذلك يلجأ إلى فنه ليجد فيه الخلاص من معاناته، ويتطهر عبره من قساوة الحياة التي ألجأته إلى التقلب في أعمال كثيرة كانت تأخذ منه الكثير من الوقت على حساب فنه، ومع ذلك فقد كان نشطا في التأليف الموسيقي والأدبي وعضوا فاعلا بين كتّاب ومثقفي وفناني رأس الخيمة، وقد ارتبط بصداقات قوية مع جيل من الكتّاب والمثقفين الذين شكلوا الواجهة الجميلة للثقافة في رأس الخيمة، من أمثال عبدالعزيز جاسم، وأحمد العسم، وعبدالله السبب، وحمد سالمين، وأحمد منصور، وناصر أبو عفراء، ووليد الشحي وآخرون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©