السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ارتحالات الفلسفة

ارتحالات الفلسفة
17 ابريل 2013 20:45
اثنان من الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين، يعكسان في سيرتيهما مآلات الفلسفة الفرنسية العريقة ومصائرها الملتبسة. أولهما إدغار موران، الماركسي فكرا والمفارق للشيوعية سياسيا، انتهى به الحال لكي يصبح علما أميركيا قبل أن يكون رمزا فرنسيا. والثاني ألكسندر كوجيف، الذي علّم كبار المفكرين الفرنسيين في القرن الماضي، والذين افتتنوا به وبثقافته، هو من أصول روسية حملته الثورة البلشفية في رحلة عسيرة إلى أنحاء أوروبا حيث استقر في باريس. الفيلسوف المنشق قد يكون إدغار موران المولود عام 1922 آخر عمالقة الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع في فرنسا. تدلّ على ذلك مؤّلفاته الغزيرة في المجالات المذكورة، ومساهماته المتعدّدة والهامّة في إذكاء الصّراعات المتّصلة بها على مدى عقود طويلة. وقد كانت حياة هذا المفكّر الذي نذر الشّطر الأكبر من حياته للدّفاع عن الحرّيّة، وعن المبادئ الإنسانيّة السّامية سلسلة من المغامرات المثيرة في البحث، وفي التأليف، وفي النّضال الاجتماعي، والسياسي حيث إنه شارك في المقاومة ضدّ الاحتلال النّازيّ لبلاده. وبعد الحرب الكونيّة الثانية، انتسب للحزب الشيوعي الفرنسي غير أنه انفصل عنه عام 1949 ليكتب نقده الذّاتي مندّدا بالستالينية، وبمعسكرات الاعتقال في ما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي. وعن ذلك كتب يقول: «ربّما يفهم انتسابي للحزب الشيوعي كما لو أنه بحث عن حماية، وعن غطاء، وعن عائلة جديدة، وكأمل في أن تعود والدتي لعالم الأحياء من جديد». كما دأب إدغار موران على المشاركة في كلّ الصّراعات التي شهدها العالم منذ منتصف القرن العشرين وحتى هذه السّاعة. وفي حوار مسهب أجرته معه مجلّة «الفلسفة» الشّهرية الفرنسية، تحدث إدغار موران عن مختلف مراحل حياته، وعن المعاني العميقة لأفكاره، ومواقفه، ومؤلّفاته. وعن اختياره الانتساب إلى حركة المقاومة، يقول إدغار موران: «كنت في العشرين لمّا احتل النّازيّون بلادي.. وكنت أرغب في أن أتعرّف على الحياة، وأن أجرّب الحبّ، والمغامرة. كنت أريد أن أعيش الحياة بقوّة وكثافة.. وكنت أرى أنه إذا ما ابتغيت الحفاظ على حياتي، فإنه يتوجّب عليّ أن أتخفّى. والحال أن الحياة تعني بالنسبة لي أن أرمي بنفسي في تلك المغامرة الهائلة المتمثّلة في الحرب الكونيّة الثّانية. وفي ذلك الوقت كنت أكتب يوميّات عن حياتي الخاصّة والسرّيّة. وذات مساء، سمعت سمفونيّة «الباخرة الشّبح» لفاغنر فكانت بمثابة النداء الذي يدعوني للالتحاق بالمقاومة. عليّ أن أنطلق إذن. فالريح تهبّ، ولا بدّ من أن نحاول أن نعيش..عندئذ كتبت في يوميّاتي: «عواصف الباخرة الشّبح، احمليني معك». والجملة تقليد لجملة شاتوبريان التي يقول فيها: «انهضوا بسرعة، العواصف الرّعديّة المرغوبة». ومن وحي تجربة المقاومة والحرب، أصدر إدغار موران كتابه الفكريّ الأّوّل الذي حمل عنوان: «الإنسان والموت». وفيه ظلّ «وفيّا» لماركس بحسب تعبيره الذي يربط الفلسفة بالتاريخ، والاقتصاد، والسياسة. وفي السّبعينيات من القرن الماضي، أصدر إدغار موران كتابه الهامّ الذي حمل عنوان: «الطريقة»، وفيه يرسم صورة عميقة لمنهجه الفكريّ مستفيدا من الفلاسفة الكبار، خصوصا هيغل. وفي هذا الكتاب هو يدافع عما يسمّيه بـ»الفكر المعقّد» الذي لا يعني التّعقيد وإنما الطّموح إلى الكمال الفكريّ الذي يحرّرنا من الفكر المجزّأ، والمقسّم، والمختزل. وملخّصا مضمون كتابه المذكور، هو يقول: «الطريقة ليست برنامجا للمعرفة، وإنّما هي استراتيجيّة المعرفة التي على كلّ واحد ممارستها». وفي نفس هذه الفترة، أي السّبعينيات، انطلق إدغار موران إلى كاليفورنيا ليعيش تجربة فكريّة أخرى، ففي ذلك الوقت، كان الشباب الأميركي يعيش تجربة «الهيبّبيز». وكان أدب ما أصبح يسمّى بـ»البيت جينيرايسون» رائجا ومؤثّرا في الحياة الثّقافيّة، والفنّيّة، والفكرية عاكسا نمطا، وأسلوبا جديدا في الحياة داخل المجتمعات الرّأسماليّة، والاستهلاكيّة. ومن وحي تجربته الكاليفورنيّة، كتب يوميّات جمع فيها بين الفكر والأدب. وعن الاهتمام العالمي الذي أصبحت تحظى به أفكاره حتى أن بعض الجامعات في جنوب أميركا أطلقت اسمه عليها، يقول إدغار موران: «لماذا يهتمّ الطلبة والأساتذة والمثقّفون في جنوب أميركا بأفكاري؟ والجواب هو أن المعرفة هناك ليست مقطوعة عن الحياة الاجتماعيّة كما هو الحال في فرنسا. ويبدو لي أنّ هناك حيوّية تراجيديّة رائعة في تلك البلدان التي وسمتها جراح مؤلمة وعديدة. وعلينا أن نضيف إلى كلّ هذا، التّنوّع الجنسيّ، والثقافي، والعرقيّ، والذي يحرّض على الانفتاح الفكري، وعلى الثقافات الأخرى، وأعتقد أن رواية متعددة الأصوات والأساليب مثل «مائة عام من العزلة» هي في الحقيقة نوع من «الفكر المعقّد» الذي عنه تحدّثت قبل قليل». فيلسوف الأحد المعجبون به، والذين كانوا يحضرون محاضراته عن هيغل، يقولون إنّه كان من أعظم فلاسفة القرن العشرين، ومن أكثرهم عمقا، ومعرفة بالتّراث الفلسفي منذ الإغريق. ذلك هو ألكسندر كوجيف (1902 ـ 1968) الذي كان يحذق لغات عدة، ويتكلّم بها بطلاقة ويسر. لذلك اختارته الدّول الأوروبيّة لكي يكون موظّفا ساميا في منظّماتها الكبيرة. وقد أحاط ألكسندر كوجيف حياته بالغموض والألغاز، حتى إن البعض حوّلوه إلى أسطورة. وكان الكاتب الفرنسي المرموق رايمون كينو صاحب «زازي في الميترو» يلقّبه بـ»فيلسوف الأحد» لأنّه كان ينصرف إلى التأمّل الفلسفيّ في عطلة الأسبوع. ولد ألكسندر كوجيف في موسكو عام 1902. وهو ينتمي إلى عائلة ثريّة. وعقب وفاة والده في حرب منشوريا ضدّ اليابان عام 1904، تزوّجت أمّه من واحد يدعى ليمكول. وهذا الأخير انشغل بتربيته، وفتح ذهنه على عالم الأفكار والنظرّيّات الفلسفيّة مبكّرا. على عتبات المراهقة، قام قطّاع طرق بقتل ليمكول في الغابة، فتدهورت الأوضاع الماديّة للعائلة. وعند اندلاع الثّورة البلشفيّة عام 1917، اعتقل الشيّوعيّون ألكسندر كوجيف بتهمة ممارسة التجارة في السّوق السّوداء. وكاد يعدم غير أنه تمكّن من الفرار. وعندما حاول مواصلة دراسته، اعترضته عراقيل كأداء. وخشية القبض عليه من قبل البلاشفة، غادر موسكو سرّا عام 1919. وبرفقة صديقه جورج فيت الذي تعرّف عليه في السّجن، وصل إلى بولونيا. وفي فرصوفيا تمّ اعتقاله مرّة أخرى لكن بتهمة التّحريض على الشّيوعيّة هذه المرّة. وخلال فترة الاعتقال، فقد مؤلّفه الأوّل الذي حمل عنوان «دفاتر فلسفيّة». بعد إطلاق سراحه، توجّه ألكسندر كوجيف إلى برلين الخارجة للتّوّ من الحرب، غير أنه لم يمكث فيها إلاّ قليلا. وفي إيطاليا، انصرف إلى كتابة ملاحظات وأفكار عن الفنّ المتأثّر بالبوذيّة. وعند عودته إلى ألمانيا وهو في سنّ الثّامنة عشرة، انتسب إلى جامعة هايديلبارغ ليدرس اللّغات الشّرقيّة، الصّينيّة بالخصوص. وفي سنّ الرّابعة والعشرين، انتقل إلى باريس ليدرس الفيزياء والرياضيّات الحديثة. في الآن نفسه تابع المحاضرات الفلسفيّة التي كان يلقيها أساتذة مرموقون في جامعة السّوربون مثل كويري، وهو روسيّ ترك بلاده بعد انتصار الثّورة البلشفيّة. ومعه سيرتبط بعلاقة حميمة، وبواسطته سيتعرّف على رايمون كينو، وعلى جورج باتاي، وعلى نخبة من المفكّرين والكتاب والشعراء والرسّامين. وعندما غادر كويري إلى القاهرة، ترك كرسيّه الفلسفي لكوجيف. وظهيرة كلّ يوم اثنين يلقي الأستاذ الشّاب أمام جمع من المعجبين من أعمار مختلفة محاضرات عن هيغل. من بين الحضور يمكن أن نذكر رايمون آرون، ميشال ليريس، موريس مارلو، بونتي جان هيبوليت، روجيه كايوا، أندريه بروتون، وآخرين سيصبحون من المشاهير في ما بعد. وجميع هؤلاء كانوا يخرجون من تلك المحاضرات مفتونين بسعة معرفة صاحبها، وبقدرته على تبليغ أفكاره بأسلوب غاية في الرشاقة، وبلغة خالية من الغموض المصطنع. وبعد الحرب العالميّة الثّانية، وبحكم وظيفته السّامية، أخذ ألكسندر كوجيف يتنقّل كثيرا عبر العالم، وينزل في أفخم الفنادق، ويلتقي بكبار الشّخصيّات السياسية، والعلميّة، والأدبيّة. وعندما كانت المظاهرات الطلاّبيّة تهزّ باريس، والعواصم الغربيّة، توفّي «فيلسوف الأحد» فجأة، وذلك يوم 4 يونيو 1968. حدث ذلك خلال اجتماع أعضاء السّوق الأوروبيّة المشتركة في بروكسيل. ترك كوجيف العديد من الوثائق بالغة الأهمّيّة في مجال الفلسفة، وآلافاً من الصّفحات التي سجّل فيها أفكاره، وآراءه في العديد من القضايا. ومن كتبه المنشورة يمكن أن نذكر «مقدّمة في قراءة هيغل»، و»الإمبراطور جوليان وفنّه في الكتابة»، و»الفلسفة والدولة»، و»نهاية التّاريخ». ويعتبر كتاب الإيطالي ماركو فيلوني «فيلسوف الأحد» عن حياة ألكسندر كوجيف وفكره من أهمّ الكتب التي تمكّن القراء من التعرّف على أفكاره وعلى مختلف جوانب حياته الشّخصيّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©