الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محاكمة كلب تؤسس لأدب النباح الحر

محاكمة كلب تؤسس لأدب النباح الحر
10 سبتمبر 2008 23:55
''يوم محاكمتي كان يوماً مشهوداً· رأيت صورتي في الصحف تتصدّر الصفحات الأولى، ورأيت الحشود التي جاءت لرؤيتي· أنا لم أخيب ظنّهم، فقد رأيت بريق الخوف والإعجاب في عيونهم، حين سألني رئيس المحكمة عن هويّتي طفقت أصرخ قائلاً وقد غصّ فمي بالنباح ''أنا كلب، نعم أنا كلب، وأعتز بذلك، ولا أتشرّف بالانتماء إلى فصيلة ''بوكرعين'' (الإنسان)· أنا كلب ابن كلب من خيرة الكلاب، أرفع رجلي حين أبول، وآكل البراز إن اقتضى الأمر، لكنني أتقيأ حين أرى وجه الإنسان، وأضرط كلما اسمع صوته· ضجّت الجموع الحاضرة، وهدّد رئيس المحكمة بإخلاء القاعة· فكانت كلماتي تلك، بداية لما اعتبرته الصحافة طيلة الأيام الموالية، كأغرب محاكمة في هذا العصر· كنت أثناء هيجان الحاضرين، أحاول الإمساك بتلابيب لا شعوري والخروج من جسدي، لأرى الكلب الرابض في أعماقي· كنت أسمع نباحه، وأشعر بذيل ينبثق من مؤخّرتي، غير أنني لم أتمكن تلك اللحظة، من تصديق قرار دائرة الاتّهام، ولم أتذكّر أني حرّضت على القتل، أو حاولت القتل، ثم اجتزت الحدود البحرية بطريقة غير قانونية· رمقني رئيس المحكمة باستهزاء، تشوبه الرهبة وقال: ـ والله، أقنعنا انك كلب حتى وان كنت بلا ذيل، ولكن كفّ عن النباح وأجب بدقة عن أسئلة المحكمة· (···) اعتدل رئيس المحكمة في جلسته، وأشار إليّ بإصبعه وقال: ـ أذكرك أنّ اسمك ''عرّوب الفالت''· أنت تريد أن تحاكم ككلب ؟ حسناً، ولكن اعلم أننا سنصل إلى معرفة الحقيقة ولن تنجو من العقاب المستحق''· بين المتخيل والواقع هكذا تبدأ رواية ''محاكمة كلب''، وهي رواية عجيبة من تأليف الكاتب التونسي عبدالجبار العش، يختلط فيها المتخيّل بواقع حياة المؤلف نفسه، وتتمازج أحداثها بالسيرة الذاتية للكاتب، إذ يكشف عبدالجبار العش في حاشية بآخر الرواية أنّ البطل ''عرّوب الفالت'' هو الكاتب ذاته، وأنه هو نفسه ابن غير شرعي وانه ابن بالتبني، ويعرّي في روايته حياته الشخصية في جرأة نادرة، ويعترف - على لسان بطله - بأنه تمّ اغتصابه جنسياً وهو طفل، وانه أصيب في فترة من حياته بالعجز الجنسي، وهذه الجرأة الذي أظهرها الكاتب تشبه وربما تفوق ما طالعناه لحنا مينة، أو للروائي المغربي محمد شكري، ولو قدّر لهذه الرواية أن تنتشر وتشتهر عربياً لأحدثت دويّاً، ولكان لها شأن كبير· فهي تثير في القارئ أسئلة حارقة عن الإنسان في حيرته الوجودية أمام حياته ومصيره، ومثلما يؤكد الناقد محمد القاضي: ''إننا أمام كتابة سيرة ذاتية تتخفى وراء الكتابة الروائية·· إذ يتطابق الراوي والشخصية والمؤلف، ويعلو صوت الراوي باحثاً في غمار الماضي وأحداثه المتشظية عن معنى حياته''· ولا تخلو الرواية رغم استنادها الى السيرة الذاتية للكاتب من رمز من ذلك مثلاً انه أثناء مرافعة المحامين عن المتهم عرّوب الفالت، أخذ الكلمة للدفاع عنه عميد المحامين العرب ليؤكد أمام المحكمة: ''أن عروب الفالت ليس متهماً عادياً في قضية عادية، بل انه في تقديرنا يمثل، بل يختزل نسغ روح هذه الأمة· انه التكثيف المأسوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة، لذا أطالب باسم كافة المحامين العرب الشرفاء، أن تكون المحكمة عادلة في حكمها لأن محاكمته هي محاكمة تاريخنا: فمن في مقدوره محاكمة التاريخ ؟''· بوح تبدأ الرواية بسرد بطلها لمحاكمته، ويجد القارئ نفسه إزاء شخصية ملتبسة، وقضية لا تقل عنها التباساً، فالمتهم له مواصفات الإنسان، ولكنه يحمل في ظاهره ملامح من الكلب وفي باطنه شعوراً عميقاً بالتكلب· ويقول الناقد محمد القاضي في تقديمه للرواية إن الكلب المتحدث عنه ليس قناعاً للشخصية، وإنما هو جزء من حقيقتها الاجتماعية والانطولوجية وحتى الجسدية· وفي الرواية مراوحة بين فضاءين: قاعة المحكمة والزنزانة، ومقامين: الدفاع عن النفس والبوح بمكنونها· يصف بطل الرواية (وهو ذاته الكاتب)، وهو ابن غير شرعي من أم تخلت عنه وتركته لأسرة تبنته، لحظة لقائه بأمه بعد بحث طويل: ''اندفعت هادئاً وفي داخلي حريق· صامتاً وفي حنجرتي نهر من الكلمات· مشيت ببرود رجل يمشي للمرة الألف في جنازة· الرهبة خاشعة، والخوف وجل· من أين انبثقت تلك القوة؟ من أين؟· أمام الباب كانت واقفة، احتضنتني وأدخلتني بسرعة·· وبكت· أنا لم ابك في تلك اللحظة، كأنني استنفدت كل الدموع التي في مقدور الإنسان أن يذرفها· نشحت، صرت بئراً بلا ماء، غيمة بلا مطر· هل كان ذلك أسلوبي اللاواعي في العتاب، في العقاب؟· نزعت خاتماً من إصبعها وأرادت وضعه في إصبعي، داهمني خجل آت من مجاهل سحيقة· امتنعت عن أخذه، كأني بها تخطب ودي، خطبة الأمومة· أنا لم أرفض أمومتها فلماذا رفضت الخاتم؟· خرجت من الغرفة، ثم عادت بمنديل جيب صغير، وضعته في جيبي· وحين عدت إلى منزلنا فتحته لأشم رائحتها، فاكتشفت في أحد زواياه، الحرف الأول من اسمها، مطرزاً باللسان الفرنسي''· في مهبّ الرياح ويروي ''عرّوب الفالت'' (الكاتب نفسه) مأساته منذ سنوات طفولته الأولى إلى عهد كتابة الرواية· يقول الناقد محمد القاضي في قراءة له لـ''محاكمة كلب'': ''فجأة نجد أنفسنا أمام صبي ما إن فتح عينيه على الحياة حتى توالت عليه المحن والصدمات· صبي رقيق يكاد لفرط رقته أن ينكسر، ومجتمع قاس تتفتت تحت قدميه الصم الجلاميد· مع هذا الصبي نشهد خيوط الحيرة والبراءة والانطواء في عالم تعمره الفظاظة والمكر والعربدة الفاجرة· فهو يكتشف في وقت مبكر أنه ابن بالتبني، فيسعى بكل سبيل إلى معرفة سر مأساته· وهو في بحثه عن أبويه الحقيقيين يرتفع وينخفض قشة في مهب الرياح العاتية''· أراد المؤلف أن يسقط الأقنعة وان ينقلنا من خطاب الرواية الذي يتنزّل خارج المرجع إلى خطاب التصريح الذي لا يحتمل التأويل ولا ينكر صلته بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وفي هذه الحركة المسرحية المباغتة الحاسمة يؤكد لنا أنه كان ابناً بالتبني، وان صديقه أفاده أن والدته أخبرته أن أم البطل الراوي ـ المؤلف قد حاولت فعلاً قتله بوضعه تحت قصعة معدنية، ولكن تشبث الوليد غير الشرعي بالحياة جنبه الموت· هذه الشهادة جاءت في إضافة في آخر الرواية وسماها المؤلف ''حاشية''، وهو أمر لم نر مثيلاً له في الروايات العربية أو حتى الأوروبية· يقول المؤلف في حاشيته: ''إن صديقي المحامي فاجأني يومها، التقينا في المقهى الحانة ''القصر''، ليعيد لي المخطوطة (مخطوطة الرواية)· تردد قليلاً، ثم سألني بلا مقدمات قائلاً: ''هل أن اسم أمك الحقيقية الذي عوضته في الرواية بكلمة والدتي هو (····) وهل أن (ن) هي خالتك الكبرى؟ في تلك اللحظة كنت لا أزال أغازل القارورة الأولى، لم يتعتعني النبيذ بعد، وكل حواسي مستنفرة· كان صديقي المحامي مبهوتاً أكثر مني رغم علمه المسبق بكوني ابناً بالتبني، لكن لا هو ولا أحد من معارفي أو أصدقائي على علم بأسماء أفراد عائلتي الحقيقية· المحامي أخبرته أمه أنها تعرف والدتي: قالت له: كانت تزورنا أحياناً في البيت للتظلم أو لطلب شيء ما نظراً لكون والدك كان مسؤولاً بارزاً في تلك المنطقة· وأثناء إحدى الزيارات أخبرتني أنها تشتغل معينة في بيت بعض الموظفين، فحذرتها منهم حين علمت أنهم عزاب، لكن حصل ما تخوفت منه، وجاءتني لتخبرني بعد أشهر قليلة بمصابها· حاولنا مساعدتها غير أن الأمر خرج عن السيطرة وحان أوان الوضع وكان ما كان''· النباح الحر صمت صديقي المحامي برهة ثم سألني: هل أنت في وضع يسمح لك بتقبل خبر مرير؟ فأجبته بالإيجاب· فقال: تساءلت في الرواية ما إذا كانت والدتك قد حاولت كتم أنفاسك حين وضعت على وجهك كومة من الأغطية، أعلم إذن أن الرواية التي بلغتك من خالتك غير صحيحة، اذ لم تضع على رأسك أغطية بل إنها قلبت عليك قصعة معدنية تحرم من يكون تحتها من الاكسجين، لقد اعترفت لوالدتي انها حاولت كتم صوت الفضيحة غير انك تشبثت بالحياة لتدمر حياتنا·· قال ذلك وانخرط في ضحك صاخب يضوع منه الحب''· ثم يختم الكاتب حاشيته مخاطباً قراءه: ''الرجاء من كل من لديه معلومات قد تفيد عروب الفالت في بحثه عن الحقيقة مراسلته على عنوان صديقه كاتب قصته''· ثم يضع عنواناً بريدياً هو طبعاً العنوان الحقيقي للكاتب عبدالجبار العش الذي انشأ موقعاً الكترونياً سماه ''موقع النباح الحر''، وقد وشحه بمقدمة ذكر فيها: ''من هذا الموقع انبح في وحشة الليل، فيجيبني نباح إخوتي الكلاب، فاعرف إني لست وحيداً· هنا موقع النباح الحر·· موقع الكلاب الضالة الشريدة التي لا مأوى لها· هنا موقع المنبوذين والمهمشين·· موقع اللقطاء والمومسات المبدعات·· هنا موقع جامعي القمامة، موقع المجانين والصعاليك·· موقع الشحاذين، والعشاق المنكسرين، والطوبائيين والفوضويين''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©