الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة ناقدة

سيرة ناقدة
17 ابريل 2013 20:46
قراء الناقدة اللبنانية يمنى العيد ومتابعيها من المهتمين بالنقد، كانوا على موعد مغاير هذه المرة.. يمنى العيد التي عرفت بدراساتها النقدية الرصينة والحديثة، وتعاطيها النقد طيلة عقود في كتب نقدية مثل «تقنية السرد الذاتي» و»فن الرواية العربية» و»معرفة النص» وغيرها.. تعود هذه المرة بسيرة ذاتية تحت عنوان «أرق الروح». وبسرد درامي مميز تذهب بنا إلى تلك الحكايات التي ساهمت في تكونيها، والتي بقيت في غرف الذاكرة الداخلية مدة من الزمن. الناقدة التي طالما تناولت السرد الروائي تحلق هنا وببراعة في أكثر من حكاية متفرقة على مراحل العمر، تمرر هذا الشريط الذي حاول اختزال حياتها المليئة بالطفولة في صيدا ومفارقاتها وأسئلتها الأولى والمفاهيم الاجتماعية المختلفة التي تشعل فتيل السؤال على كل اتجاه، مرورا بحكاية اسمها الحقيقي: حكمت.. الذي لم تكن تستسيغه فضلا عن معناه الذي لم يرق لها، لتختار يمنى الاسم الذي راح مع مرور الزمن يؤرقها: «أنا يمنى أقول. فهل طوى الزمن حكمت أم يمنى وحكمت لاتزالان تتصارعان في داخلي؟». تمضي يمنى إلى تواريخ الحرب 1941، حيث الذاكرة تأبى أن تجف بتلك الصور من الروح، أصوات الجموع، الاحتجاج، الصراخ، أصوات القذائف، والدعاء. تتذكر ذلك الزمن، وتحن ليس شرطا للمكان الأول في عمرها، بل إحساسها بمكان في خلاياها يجعل كل العيوب تتلاشى، «أو كما يقول باشلار جمالية المكان ليست في الظاهر منه بل في الداخل العميق الذي يشعرنا بالطمأنينة ويشد الحنين الجميل فينا»، هي كما تقول يمنى العيد «التجاويف التي تشبه الأرحام حيث يولد أول نبض في الحياة»، وهذا ما سيستمر طيلة النص ليكون في مجمله حكاية ذلك الأرق المزمن في الروح، وليكن كل ذلك ما يقود العيد لكتابة تبررها المراحل بكل ما فيها من احتراقات وسعادة وأسئلة وأحداث وليس كونها الناقدة والكاتبة فقط، لذا فكتابة يمنى لا تسعى إلى البحث عن نهاية أو خلاص أو دهشة، بل الحياة كما هي بعيدا عن كل تلك النقديات والنص الذي كتب نفسه بجدارة ودون الدخول في رهانات الفن وما يفرضه الناقد نفسه. حكايات الطفلة وصيدا واللعب والتي تنهي بها فصلها الأول ذاهبة بنا إلى جمر الصمت، تشكل الوعي الأول، والشرارات الأولى حيث تتقصاها بلذة البحث عن مربط الفرس، البلد والإضراب والقلق، وما يدق جدران المستقبل بأيد تشبه النجوم، وقلوب لها ضياء القمر.. الوطن ومن سرقوه في وضح النهار، من جعلوا أنفسهم أوصياء عليهم، ويمر هذا الشريط بكل تلك اللحظات والأحداث الذاتية ليمنى العيد، ترصد الألم واللحظات السعيدة المنتصرة، وأصوات أحذية المحتل الثقيلة تركض هنا وهناك، والنضال والإصابة التي رافقتها بقية العمر، لتنعطف بعد هذا الفصل المجمر بالصمت إلى (مدرسة وحلم) حيث تقرأ تحولاتها والمدراس الأولى والمقاصد الإسلامية والراهبات الفرنسيات وعبرين والمدينة الجديدة عليها، التي أدخلتها في الحب الذي يتوج بزواج بينما مدرسة الابتدائية «عائشة أم المؤمنين» تلوح في الذاكرة وبدء الإشكالية والأسئلة حول اللغة وغيرها ينبت بذوره الأولى. ويبدو أن الحوار المبكر والإيمان بالاختلاف قاد يمنى إلى تكوين شخصيتها وثقافتها ووعيها من وقت مبكر لتستمر في دورها الثقافي والوطني، ولتستمر في التنقل نحو بيروت وسنوات باريس.. تقول: «سأقدم على المساهمة في تكوين وعي وطني لا طائفي، لدى الناشئة في البيت مع أطفالي وفي المدرسة حيث سأدرس.. سأتفتح على حياة لي، أشعر فيها بذاتي، بصباي، بالعائلة، بالحب، بالأسئلة عن معناه، عنه مع الزواج، عنه خارجه..». ذاكرة الحرب مرة أخرى مع جيش آخر من ذاكرة الفقد ورحيل الأب ـ الأم.. والموت من حولها والاغتراب، تقتطف من ذاكرة عقود طويلة ومتراكمة ما يجعل من هذا النص برانيّا مهما في قراءة التحولات وأرشيفا سريعا على أهم محطات لبنان وعالمنا العربي، مراجعة بلغة الفن، بين الذاتي الإبداعي والممتع وما تفضي إليه الحياة وتفضحه من تصورات أخرى لما يقع حولنا، إذ يصعب على مثقفة كيمنى العيد أن تنسل من هذه المحطات السياسية والتحولات الفكرية دون أن يصاب بها النص، من الفردي إلى الإنساني، ومن تأطير الكتابة إلى فضاء مفتوح يلغي الحدود بين أجناس الأدب، نص سردي رشيق بلغة مثقفة تفهم ما تريد أو ما يريده النص تماما، لنقرأ في نهاية الأمر ما نريد أن نعرفه نحن قراء يمنى العيد عن حياتها أو ربما عن أرق الروح.. لم تتحفظ يمنى العيد على حكايات النضال والدور الثقافي البارز وذاكرة الألم مع المحتل والحروب الأخرى والحزب الشيوعي اللبناني أوائل السبعينات، وعلاقة وطيدة مع مثقفيه، ومن ثم الصحافة والكتابة الأدبية التي توظفها سياسيا، وذلك النشاط الحزبي خارج أوقات الدوام. ومن جهة أخرى لم تنج يمنى العيد أحيانا من الناقدة في داخلها إذ تنعكس المرايا لنرى بوضوح ناقدة الحياة، تلك الإشارات الخاطفة من عتبة إلى أخرى، ناقدة ساخطة على العادات، على الجهل، على ما يسود من طائفية، وعلى الوطن المشتت.. صراع لتحقيق الحلم الذي يمتد أكثر فأكثر مع مرور كل يوم، ويصبح أطول مما تصله الذراع، أكثر من أن يعيق أرق الروح حيث تختار يمنى العيد عنوانا لهذه السيرة، وكأنما ثمة موعد آخر مع سيرة أخرى، نحو جهة مختلفة ربما، تختار يمنى العيد أن تنشر سيرة ذاتية في هذا الوقت تحديدا، ربما لأن التجربة الحياتية والإبداعية تلزمها الآن وتلح عليها أكثر من أي وقت مضى، شهادة مثقفة على زمنها بكل ما فيه، فضلت أن تقدمها بلحظة وعيها الأول في بيتهم القديم في صيدا، وحتى عودتها إليها بعد كل ذلك المدار، ضمن حكايات لا نكاد نشعر بتفرقها حيث تشابك الأزمنة والاتصال الذهني المميز بين فواصل العمر، تقول: «حكمت زمن مضى، لكنها داخل يمنى تطرح اليوم أسئلتها عليها وتوقظ ذاكرتها بزمن لايغادر الذاكرة.. وربما هي يمنى تعود من زمن حاضر الى حكمت لتسلط أضواءها الكاشفة عليها»، وهذا ما فعلته يمنى العيد طيلة النص الذي يحمل عنوان «أرق الروح».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©