الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آباء الصهيونية.. صناعة المستقبل بتزوير التاريخ

آباء الصهيونية.. صناعة المستقبل بتزوير التاريخ
26 نوفمبر 2009 00:04
تستند أصول وبدايات تاريخ معظم ـ إن لم يكن جميع ـ الشعوب والقبائل، بما في ذلك القبائل الإسرائيلية، إلى أساطير تعتمد على اختلاق ماضٍ متخيل، تحيط به وتكتنفه الأساطير والمعجزات، ومحاط بهالة قداسة دينية وبخاصة لدى الإسرائيليين، ما يمنح الروايات حوله قوة الترسخ في أذهان شرائح سكانية واسعة داخل إطار أتباع اليهودية وخارجه، ممهداً بذلك الطريق لدى البعض، لاستغلال الفهم المستمد من التاريخ المتخيل وتسخيره لخدمة أغراض سياسية. ويتضح ذلك بشكل جلي في موضوعة الوعد الإبراهيمي. خلال المائة والخمسين عاماً الأخيرة، شهدت الساحة الفلسطينية، ربما أكثر من أي بقعة أخرى، نشاطاً ملحوظاً في مجال التنقيب في المواقع الأثرية، على أمل الوقوف على آثار، تدعم ولو في جزء منها الروايات التوراتية حول أصول بني إسرائيل، إلا أن هذه لم تسفر عن شيء يذكر، ما حدا بعدد من الأساتذة، من بينهم مدير قسم الآثار في جامعة تل أبيب يسرائيل فينكلشتاين والأستاذ زئيف هيرتسوغ، للتأكيد على أن أحداثاً كثيرة، لم تجر وفق ما جاء في الرواية التوراتية، وأن قصة الخروج من مصر الواردة فيها “ليست حقيقة تاريخية”، فضلاً عن أن المكوث في مصر والخروج منها كانا في أقصى الأحوال تصرفاً قامت به عائلات محدودة، مع الإشارة إلى عدم وجود ذكر لكل من داوود وسليمان في كتابات حضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين، وأن “أعمال النصب التذكارية المنسوبة لسليمان، أشيدت على ما يبدو على يد ملوك آخرين”. وكان عدد من المؤرخين، بمن فيهم، المؤرخ الشهير شمعون دوبنوف، اعتبر الرواية التوراتية حول الاثني عشر سبطاً “بمثابة أسطورة”. التاريخ المتخيل يتمثل التاريخ المتخيل فيما أوردته الرواية التوراتية، حول أصول بني إسرائيل التي تعود وفقاً إلى شخص يحمل اسم أبرام الذي سيصبح إبراهيم، عقب أن ارتحل من جنوب العراق، وجال في أرجاء الهلال الخصيب ومصر، استجابة لأمر الإله يهوه، ليستقر به المقام في الخليل. خلال ذلك اقترن بثلاث نساء وعدد من الجواري، أشهرهن سارة وهاجر، وأنجب من الأخيرة إسماعيل الذي خلّف اثني عشر ابناً ليتناسل منهم العرب، ومن سارة إسحاق الذي خلف يعقوب (إسرائيل)، وأنجب الأخير اثني عشر ابناً، ما لبثوا أن توجهوا إلى مصر، حيث علا شأنهم هناك، بعد أن تمكن أحد الأبناء من الحصول على مرتبة وزير، والتف حوله سائر الأبناء، وتكاثروا وغدوا يشكلون شعباً، ظهر بين صفوفه نبي خلص جماعته من عبودية فرعون على إثر تمكنّه من الهرب بهم، بعون الإله يهوه الذي شق لهم طريقاً آمناً عبر البحر اجتازوها بسلام، لتطبق المياه على فرعون وجنوده، وبقي الفارون في سيناء أربعين عاماً، قبل عبورهم نهر الأردن، حيث انزاحت مياهه أيضاً، ودخولهم مناطق في فلسطين، وإقامتهم مملكة أشهر من وقف على رأسها داوود ثم ابنه سليمان، في المنطقة التي كان الإله يهوه وعد في الميثاق خليله الأب الأكبر إبراهيم، بمنحه أراضٍ، أخذت تتسع مع كل مخاطبة يجريها الإله المانح مع خليله. ففي البداية، اقتصرت التخوم على مجال الرؤية البصرية في أرض كنعان: “جميع الأرض التي ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد”. ثم اتسعت لتشمل كل أرض كنعان” وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكاً أبدياً، وأكون إلههم”. لتستقر في النص الأخير، وتلامس تخومها ضفتي النيل والفرات. “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”. ويبدو أن أرض كنعان بينابيعها وأنهارها وثمارها استهوت كتبة التوراة، فهي كما ورد على لسان الإله مانح الأراضي “...أرض جيدة، أرض أنهار من عيون وغمار تنبع في البقاع والجبال، أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمان، أرض زيتون زيت وعسل”. واستهوت فيما بعد الكثيرين. وغدت في العصر الحديث محط تطلع أنصار حركة ولدت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وسط التيار العلماني بين صفوف أتباع اليهودية في أوروبا، حيث توزعّت تطلعات هؤلاء، حول الفقرتين، الثانية والثالثة من الميثاق، الذي رأى فيه دافيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل، بمثابة حدث حاسم في التاريخ اليهودي “الحدث الكبير الذي ينطوي على معنى حاسم في التاريخ اليهودي، يتمثل في ضمان أرض كنعان لنسل إبراهيم وسارة”. من الملاحظ واللافت للنظر أن بن غوريون عمد إلى التلاعب بالنص التوراتي المتعلق بالميثاق، بإضافة اسم سارة، لتقتصر وراثة الأراضي الممنوحة على نسلها فقط، دون مشاركة أحد من نسل الأخريات، سعياً منه لاستثمار الأيديولوجية الدينية وتوجيهها في المسار الذي يريد. لم يكن بن غوريون أول من سعى لحرف الميثاق وإخضاعه لفهم خاص يخدم هدفاً سياسياً، فقد سبقه كثيرون، أبرزهم شاؤول الطرسوسي (بولس الرسول) الذي أعطى الوعد تفسيراً خاصاً حيث غدت كلمة “لنسلك” لا تخص المتناسلين من زوجاته، وإنما تعني كل من آمن، بغض النظر عن الجنس أو اللون، بالمعتقد الجديد الذي يبشر به، ويدعو إليه “فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذن من نسل إبراهيم، وحسب الوعد ورثه”. مفهوم العبري قبل الانتقال للوقوف على بدايات وأصول بني إسرائيل، سنقف حول كنية “العبري” التي لصقت بهم. لا تدل هذه الكنية على الانتماء الإثني لشعب معين، وإنما تتعلق بالمكانة الاجتماعية لشخص أو قطاع من الناس; فهي بالأصل مصطلح أو مفهوم، ذو معنى طبقي، ينطوي على معنى لمكانة اجتماعية متدنية في السلم الاجتماعي. لذا كان بنو إسرائيل عقب استقرارهم في أرض كنعان وسط أهل العمران، ينفرون من هذه الصفة التي تترد على ألسنة الكنعانيين والفلسطينيين والمصريين عند حديثهم عن قبائل بني إسرائيل، وفق ما ذهب إليه المستشرق يسرائيل ولفنسون، لكونهم حسب رأيه “صاروا ينفرون من كلمة عبري التي تذكرهم بحياتهم الأولى، حياة البداوة والخشونة، وأصبحوا يؤثرون أن يعرفوا ببني إسرائيل فقط” اعتقاداً منه أنهم كانوا في بداية أمرهم بدواً متنقلين. ويرى أن صفة العبري كانت تطلق على مجمل القبائل التي كانت تنتقل في مناطق من بادية الشام وسيناء، بما في ذلك القبائل الإسرائيلية والتي كانت في بداية الاستقرار، تحمل عادات وتقاليد وأخلاق اجتماعية قريبة من عادات وتقاليد العرب في الجاهلية. يشارك المؤرخ شمعون دوبنوف المستشرق ولفنسون الرأي بأن بني إسرائيل يشكلون أحد مكوّنات العبريين. ويقف مع وجهة النظر هذه العديد من المؤرخين من أبرزهم البروفيسور أدولف لودس (أستاذ في جامعة السوربون عند أواسط القرن الماضي) الذي يرى أن بني إسرائيل كانوا في بداية أمرهم بدواً يعتمدون في معيشتهم على تربية الماشية، ولا يختلفون وفق وجهة نظره، في تقاليدهم وأعرافهم ونمط معيشتهم عن العرب في شيء. وإذا كان العرب يقسمون إلى فئتين حضر وبدو، مزارع وراع، فهم بلا شك، وفق اعتقاد لودس كانوا ينتمون إلى فئة الرعاة البدو. على المنوال نفسه سار رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب الأستاذ فينكلشتاين، بإرجاعه أصول قسم كبير من سكان يهودا إلى الرعاة. لقد سبق هؤلاء العالم الألماني الشهير ألبرخت ألت (أستاذ في جامعة لايبزغ في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي) حين توصل مع مجموعة باحثين ألمان إلى وجهة نظر تقول بدخول بني إسرائيل أرض كنعان سلماً. إذ كانوا قبل استقرارهم فيها بدواً يرتحلون وفق المواسم من مكان إلى آخر، إلى أن تم استقرارهم في أجزاء من أرض كنعان. ويمكن تشخيص هؤلاء عند بداية استقرارهم في القبائل التي أطلقت عليها المصادر المصرية المستمدة من رسائل العمارنة في صعيد مصر، صفة العبيرو أو الخبيرو، وشاسو. يجمع معظم المؤرخين من خارج المدرسة الكهنوتية، على أن توغل قبائل بني إسرائيل إلى جانب قبائل أخرى في أجزاء من أرض كنعان، حدث مع أفول الحكم المصري في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، خلال حالة الفوضى التي سادت البلاد، ما مهد السبيل أمام غزوات أخذت تتسع وتتعاظم لقبائل متنقلة وشبه متنقلة من جهة الشرق، أي من القطاع الشمالي للجزيرة العربية. لقد شملت موجة الترحال تلك مجموعة القبائل المؤابية والعمونية والأدومية والأمورية والإسرائيلية التي أخذت تتوغل ببطئ، على امتداد سياق تاريخي، في مناطق من شرق الأردن وفلسطين، في حين كانت القبائل اليطورية زميلتها في موجة الترحال تلك، تتوجه صوب حوران والجولان لتستقر بكثافة في البقاع اللبناني، وعلى سفوح الجبال المحيطة به شرقاً وغرباً، وكذلك في منطقة الجليل حيث غدت فيما بعد هي السائدة فيه. تشكّل كيانات مع مرور الوقت، أخذت هذه القبائل تتشكّل ضمن كيانات خاصة بها، فالقبائل التي استقرّت في شرق الأردن، وشرق وغرب وادي عربة حتى تخوم غزة أسست كياناً خاصاً بها، ما لبث أن تحّول إلى دولة تحمل اسم الأنباط وعاصمتها البتراء. ودرج المؤرخون بما فيهم يوسيفوس فلافيوس، إطلاق صفة “بلاد العرب” على هذا الكيان الذي تمتع أكثر من غيره، لبعده عن المركز، بإدارة ذاتية مستقلة. ووصل أوجه إبان عهد الملك الحارث الثالث الذي بسط سيطرته على مدينة دمشق أيضاً، عقب أن علا شأنه جراء انتصاره على آخر ملك سلوقي، انطيوخوس الثاني عشر، وإلحاقه الهزيمة بعد ذلك بزعيم مقاطعة يهودا الكسندر يناي في معركة حديد قرب اللد. شغلت مقاطعة يهودا التي عرفت في العهد الفارسي الذي امتد قرابة مئتي عام باسم “يهود”، وعرفت في العهد اليوناني باسم “يودايا”، منطقة صغيرة حول القدس، تمتد شمال وجنوب المدينة قرابة عشرين كيلومتراً، وتحتل مساحة تناهز 1500 كم2. واعتبرها البطالسة والسلوقيون ذات خاصية إثنية، وتمتعت بحكم ذاتي واسع الصلاحيات، وقف على رأسه رجل دين يحمل لقب “الكاهن الكبير”. ويترأس مجلس شيوخ يدعى “جروسيا” يقوم أعضاؤه كممثلين للعشائر والأسر الكبيرة بمساعدته في الشؤون القضائية. وقد تعاظم شأن هذه المقاطعة في عهد الأسرة الحشمونية، عند أواخر العهد اليوناني، حيث حكم أبناؤها قرابة مئة عام. إلى الجنوب من مقاطعة يهودا، أقامت القبائل الأدومية، التي أخذت جرّاء التدافع للقبائل من الشرق إلى الغرب كياناً لها في منطقة الخليل والنقب الشمالي، بعد أن غدت هي السائدة هناك خلال القرن السابع قبل الميلاد. وأخذ أبناؤها يدخلون طور الاستقرار جراء تحول الكثرة منهم إلى فلاحة الأرض. وعرفت منطقتهم التي اكتسبت خاصية إثنية خلال العصر الهيليني باسم “أدوميا عرابيا” وعاصمتها مدينة ماريسا (بيت جبرين). ضمت مقاطعة أدوميا من جهة الشرق معظم الساحل الغربي للبحر الميت، بما في ذلك عين جدي ومسادا، ومن الشمال جبال الخليل بما في ذلك الخليل ودورا وبيت صور وماريسا وبيت شيمش. وتحاذي تخومها من الجنوب بئر السبع، ومن الغرب عسقلان وغزة. وقد عرّفت هذه المقاطعة في معجم يودايكا بأنها “بلاد العرب الأدوميين”. لقد اتسمت العلاقات بين مقاطعتي يهودا وأدوميا بعداء مستحكم. عند أواخر العهد الهيليني وصلت الدولة المركزية حالة من الضعف إلى تلك الدرجة التي لم يكن بوسعها فرض سيطرتها الفعلية على العديد من المناطق التابعة لها، وكانت فلسطين وشرق الأردن من أكثر البلدان تأثراً بذلك، فشهدت ساحاتها سلسلة من الحروب بين مكوناتها الإثنية والقبلية، ما أسفر عن حدوث تغييرات على الخريطة الجغرافية والتشكيلية السكانية. في تلك الفترة كانت الخريطة السكانية في الشطر الجنوبي من بلاد الشام تتشكل من فئات سكانية متعددة، الأنباط العرب سادوا في أجزاء من شرق الأردن وأجزاء من جنوب سوريا. وكانت منطقة النقب بدءاً بوادي عربة، ومروراً بمدينة عبدات، وحتى تخوم غزة جزءاً من الكيان النبطي، داخل فلسطين. ويلي ذلك شمالاً في مناطق الخليل الأدوميون العرب، ويليهم أتباع اليهودية في منطقة القدس، والسامريون في منطقة نابلس، أما السهل الساحلي ومرج بن عامر، حيث العديد من المدن ذات الطابع اليوناني، التي تحتضن أيضاً عناصر يونانية، فقد ساد فيها العنصر الفلسطيني والكنعاني، بينما ساد في الجليل وعاصمته الإدارية صفورية (سبورس) العنصر العربي. في هذه الفترة حدث أمران ينطويان على أهمية كبيرة في تطور اليهودية، يتمثلان في تهود شعبين عربيين في بداية عهد الأسرة الحشمونية، على يد يوحنان هوركنوس (135 ق.م ـ 104 ق.م) وابنه يهودا اريستوبولوس (104 ق.م) حيث هاجم الأول مقاطعة “أدوميا عرابيا”، ودمر العاصمة ماريسا ودورا، ووضع السكان أمام خيار التهود أو الرحيل عن أراضيهم، وأشار المؤرخ يوسيفوس فلافيوس إلى أن قبولهم الجماعي للتهود ناجم عن سياسة التهديد بالطرد التي انتهجها زعيم مقاطعة يهودا، والقاضية بترحيل كل من لا يقبل ذلك. فقد ذكر أن هوركنوس “بعد أن أخضع جميع الأدوميين سمح لهم بالبقاء في البلاد إذا ما طبقوا الختان. وقد خضع الأدوميون للختان، وتحويل حياتهم إلى النمط اليهودي جراء تمسكهم بأرض آبائهم. ومنذ ذلك التاريخ غدوا يهوداً”. وذكر الجغرافي سترابو أنهم قبلوا التهود، وأشار إلى أن أصل الأدوميين يعود إلى الأنباط. وفي العام 104 ق.م تمكن يهودا أريستوبولوس من احتلال الجليل، وفرض اعتناق اليهودية على سكانه العرب. ويستفاد مما كتبه المؤرخ يوسيفوس والجغرافي سترابو أن عملية التهود جرت عن طريق الفرض. وأكد ذلك المؤرخ دوبنوف، حين ذكر أن يهودا أريستوبولوس، عقب احتلال الجليل، “أرغم سكانه العرب أبناء يطور على التهوّد”. تأتي عن تهود شعبين عربيين، فضلاً عن جهات أخرى، أن تعززت اليهودية بعد أن بقيت ردحاً من الزمن تراوح مكانها في منطقة صغيرة. إلا أن الأسرة الحشمونية التي فرضت التهود، ما لبثت أن وجدت نفسها تشاطر علية القوم من بين صفوف الأدوميين إدارة الحكم. وبرز من بين صفوف الأدوميين أنتيباس جد هيرووس الذي عين رئيساً لأدوميا وغزة في عهد ألكسندر يناي، ومالك الذي صعد نجمه في مطلع العصر الروماني، وحظي باحترام وتقدير من قبل زعيم روما يوليوس قيصر، وغدا صاحب النفوذ الأقوى لدى الأسرة الحشمونية، ومهد الطريق لوضع حد لعهدها الذي استمر قرابة مئة عام، وتدشين عهد جديد (37 ق.م 95م) لتقلد زمام الأمور في القدس، على يد أسرة أدومية عربية بزعامة ابنه هيرودوس. وقد لعب الفينيقيون، وبخاصة في شمال أفريقيا، دوراً في انتشارها عقب تهود أعداد منهم. وتطرق عدد من المؤرخين. ومن أبرزهم عبد الرحمن بن خلدون (المتوفى 1406م) إلى تهود تلك القبائل، حين ذكر أن “بعض هؤلاء البربر دانو بدين اليهودية، أخذوه عن بني إسرائيل... كما كان جراوة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابرة أفريقيا، وفندلاقة ومديونة وبهلولة وغياتة وبنو بازار من برابرة المغرب الأقصى”. وفي المشرق أحرزت حركة التهود خلال القرن الأول الميلادي نجاحاً لها في شمال العراق بتهود الأسرة المالكة في إمارة حدياب المعروفة باسم أديابيني. وتشكل منطقة أربيل قاعدة لها، علماً أن سكانها ينحدرون من أصول آرامية. وحدث التهود إبان عهد الملك منباز وزوجته الملكة هيليني. ظهور المسيحية في الوقت الذي وصلت فيه اليهودية ذروة انتشارها وغدت ديانة عالمية، خرجت من صلبها حركة خلاصية ناجحة، تمثلت بالمسيحية التي ما لبثت أن انتشرت في مختلف الأماكن، وخاضت معها منافسة شديدة طوال قرنين ونصف، أسفرت عن إحرازها قصب السبق، ما ادخل اليهودية طور التراجع، عقب اعتماد الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديناً رسمياً، بعد أن اعتنقها الإمبراطور قسطنطين (306-337م). لقد تميز العهد البيزنطي في فلسطين بتعاظم حجم أتباع المسيحية، وتضاؤل أعداد أتباع اليهودية; إذ شكل اليهود في فلسطين في عهد الإمبراطور هيراكليوس (هرقل) أقلية لم يتعد تعدادها ثمن (1/8) السكان. وكان يمكن لهؤلاء، بسبب وقوفهم مع الفرس أثناء الصراع بين فارس والرومان مواجهة مزيد من الضغوطات، لولا حدوث تغير جذري في ميزان القوى في المنطقة جرّاء ظهور الإسلام. في الجزيرة العربية لم تكن الجزيرة العربية بمنأى عن بروز وتكون تجمعات يهودية في هذه المنطقة أو تلك، بفعل انتشار الفكرة اليهودية. وتؤكد كتب التراث والمراجع التاريخية على انتشارها وسط عدد من القبائل العربية، وحسب ما ذكر الأبشيهي، نجد المسيحية منتشرة وسط ثلاث قبائل، بينما اليهودية في خمس: “كانت النصرانية في ربيعة وغسّان وبعض قضاعة. وكانت اليهودية في نمير، وبني كنانة، وبني الحرث، وبن كعب، وكندة”. كما وأن يهود الحجاز، بما في ذلك يهود المدينة، هم عرب متهودون، حسب ما ذكر اليعقوبي، فيهود بني النصير هم “فخذ من جذام، إلا أنهم تهوّدوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به...”. أما يهود بني قريظة فهم كما يقول “... فخذ من إخوة النضير. ويقال إن تهودهم كان أيام عاديا السموأل، ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه”. وقد انتشرت اليهودية في اليمن على إثر اعتناقها من قبل أسعد بن كرب، وفق ما جاء في السيرة النبوية لابن هشام “... فأصفقت (أجمعت) عند ذلك حمير على دينه، فمن هناك، وعن ذلك كان أصل اليهودية في اليمن...” في حين يذكر اليعقوبي أن اليهودية انتشرت بين العرب وعمّت اليمن “...فأما من تهوّد منهم فاليمن بأسرها.. وتهوّد قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهوّد قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسّان وقوم من جذام. في هذا الوقت كان التبشير بالمسيحية قد أحرز نجاحاً في مناطق متعددة من اليمن، وبخاصة في نجران ذات الأكثرية المسيحية والتي يحكمها مندوب من الحبشة، ما أدى إلى اشتداد وتيرة التنافس بين الكنيسة والكنيس في منطقة تصبو إليها أنظار كل من بيزنطة وفارس، وحدوث محرقة نجران، عندما قام الملك الحميري زرعة ذو نواس (يوسف عقب التهوّد) بحملة عسكرية في العام 523م، واحتل مدينة نجران، وخيّر أتباع المسحية من أهلها بين اليهودية أو الأخاديد الملتهبة. وقد هلك جراء ذلك، وفق رواية ابن هشام، قرابة عشرين ألف شخص، في حين هبط رقم ضحايا الأخاديد لدى المؤرخ دوبنوف إلى 340 شخصاً من وجهاء المدينة. شكلت أحداث نجران ذروة الصراع بين العرب من أتباع الديانتين المسيحية واليهودية. وبدا للوهلة الأولى أن أتباع اليهودية الذين يملكون دولة مستقلة قد كسبوا المعركة، إلا أن أثيوبيا اتخذت من المحرقة ذريعة للانقضاض ثانية على اليمن بدعم من الإمبراطورية الرومانية. وتمكن الأحباش بين 523 ـ 525م من بسط سيطرتهم على اليمن، ما أدى إلى انتعاش أتباع المسيحية ودخول أتباع اليهودية طور الدفاع عن النفس حتى العام 575م، حيث أسفرت جهود سيف بن ذي يزن (يهودي) بدعم من القوات الفارسية، عن تخليص اليمن من السيطرة الحبشية، ليقع تحت الهيمنة الفارسية. القوة الثالثة في الوقت الذي شكلت فيه كل من الخلافة الإسلامية في دمشق ومن ثم في بغداد، والإمبراطورية الرومانية في بيزنطة الدولتين الأعظم، كانت الخاقانية الخزرية، التي اتخذت من مدينة إتل عند مصب نهر الفولغا في بحر قزوين (الخزر) مقراً لها، تهيمن على مناطق واسعة، وتحتضن أجناساً مختلفة، وتشكل الضلع الثالث وإن كان الأضعف في ميزان القوى. وسبق لها أن خاضت أكثر من مرة معارك مع قوات الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. عند أواسط القرن الثامن الميلادي، في عهد زعيمها الملك بولان الذي كان معاصراً للخليفة هارون الرشيد، غدت الظروف ناضجة للتخلي عن الديانة الشامانية الوثنية وتبنّي دين توحيدي، ولكن بعيداً عن الوصاية الروحية أو السياسية لهذا الطرف أو ذاك. ولاشك بأن الدافع السياسي، وليس بالضرورة عامل الإيمان، قد فرض نفسه على صاحب القرار في اختيار اليهودية ديناً رسمياً للخاقانية؛ ذلك أن هذا الاختيار لم يبعد فقط شبح الوصلية من جانب بغداد أو القسطنطينية، وإنما أيضاً منح الدولة الخزرية إمكانية حيازة وصاية على أتباع الدين الجديد. وردت أخبار الدولة الخزرية اليهودية في كتب الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب والمسلمين مثل؛ المسعودي، المقدسي، البكري، الأصطخري، ياقوت الحموي، إلى جانب رسالة أحمد بن فضلان. وفي العصر الحديث تناولها بالبحث والدراسة عدد من المؤرخين والباحثين اليهود، مثل ألبرت هركابي 1835-1919م (روسي)، أرجع أصول يهود روسيا إلى الخزر، وشمعون دوبنوف (روسي) 1860-1941م. وآرثر كوستلر (هنغاري) 1905-1983م صاحب كتاب “إمبراطورية الخزر وميراثها ـ القبيلة الثالثة عشر” وصل فيه إلى استنتاج بأن الغالبية العظمى من اليهود في العالم تعود إلى أصل خرزي قوقازي. وأبراهام بولاك (أوكراني) 1910-1970م. هاجر إلى فلسطين وغدا من كبار الأكاديميين في جامعة تل أبيب، بعد أن نشر العديد من الدراسات حول مصر وسوريا في القرون الوسطى، إلى جانب دراسات قدمها للجيش الإسرائيلي. إلا أن كتابه الذي يحمل عنوان “خازاريا ـ تاريخ مملكة يهودية في أوروبا” يحتل مكانة مرموقة بين الكتب التي تناولت بالبحث موضع الدولة الخزرية التي يرى في قيامها بمثابة معجزة لها فضل كبير في إنجاح المشروع الصهيوني في فلسطين. فقد ذكر في كتابه، مع الحرص على إبداء امتنانه لصاحب الفضل، أنه “..لولا حدوث معجزة أوروبا الشرقية، لكان عدد اليهود اليوم أقل من مليون... يفتقرون إلى أي أمل لإنقاذ أنفسهم، وليصبحوا شعباً حراً. إن امتناننا لهذه المعجزة، يجب أن يوجه، قبل كل شيء، إلى المملكة الخزرية، لكونها هي التي رفعت للمرة الأولى يهود أوروبا إلى الدرجة التي يشكلون فيها تجمعاً يهودياً كبيراً وقوياً”. بقيت الخاقانية الخزرية اليهودية محافظة على كيانها، واستمرت كقوة ثالثة قرابة مئتي عام، وفق معظم المصادر، قبل أن تتلقى ضربة قوية على يد أمير كييف. في حين يرى المؤرخ أبراهام بولاك ويجاريه في ذلك آرثر كوستلر، أنها لم تسقط بشكل نهائي على يد الروس في القرن العاشر الميلادي، إنما على يد المغول في القرن الثالث عشر الميلادي، أي أنها استمرت كدولة يهودية قرابة 440 سنة، ما دفعه للاعتقاد أن خازاريا شكلت لفترة طويلة نواة صلبة، انتشرت منها اليهودية وسط عدد من الشعوب في أوروبا الشرقية، فضلاً عن حركات التهود التي كانت تظهر بين الحين والآخر في العديد من المناطق، ما ساعد على تشكيل التجمع الأكبر لأتباع اليهودية في أوروبا الشرقية وروسيا. وسط هذا التجمع، انبثقت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حركة سياسية، عبّرت عن نفسها في المؤتمر الشهير الذي انعقد في بازل في العام 1897م وتمخض عن قرارات كان لها تبعاتها الخطيرة على مسار حركة التاريخ في المشرق العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©