الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جريمة حب

جريمة حب
18 ابريل 2013 20:05
(القاهرة) - كانت الفتاة تسير بخطى واثقة وهي ترتدي ملابس أنيقة، تبدو مهندمة مهتمة بكل ما ترتديه، كل شيء على الموضة، من الفستان إلى الحذاء وحقيبة اليد والإكسسوارات التي تتزين بها، مع تسريحة شعر لا تخفيها «الطرحة» الشفافة التي كانت فوق رأسها، اقتربت من قسم الشرطة، الحراس والجنود والضباط الذين التقتهم في الطرقات اعتقدوا أنها سيدة مجتمع، في الغالب وحسب خبرتهم ربما حضرت للإبلاغ عن حادث سرقة أو نصب أو تحرير محضر لإثبات حالة. تقدمت الفتاة، وليس من السهل الحكم عليها إن كانت متزوجة أم لا، لكن على الأرجح أنها متزوجة لأن واحدة بهذا الجمال لا يمكن أن تظل بلا زواج وقد تخطت الثلاثين وهي بهذه المواصفات، ومن المؤكد أنها تمتلك سيارة أوقفتها في الخارج، ولا يستبعد أن يكون معها سائق خاص، سألت عن مكتب رئيس المباحث، وقد ذكرته باسمه وبالطبع مع رتبته وبما يليق به، أي أنها تعرفه، فاعتقد الحارس أنها تربطها به صلة قرابة، فطلب منها الانتظار إلى أن يخبره، ولم يمض أكثر من دقيقة حتى عاد إليها وفتح لها الباب وأشار إليها بالدخول. دخلت الفتاة الغامضة، الضابط لا يعرفها أشار إليها بيده لتجلس ريثما ينتهي من مكالمة هاتفية مع أحد رؤسائه للتنسيق لعمل ما، ترددت فلم تجلس، ووقفت تنتظره إلى أن يفرغ من حديثه، وعندما انتهى أشار لها وهو يقول تفضلي بالجلوس، كانت غير قادرة على اتخاذ تلك الخطوة، فكيف لها بذلك وهي لا تدري ماذا سيحدث بعد قليل، أرادت أن تستقرئ في البداية كيف تسير الأمور، ولكنها اطمأنت وجلست. لم تضيع وقتاً وفتحت حقيبة يدها الجلدية الأنيقة وأخرجت بعض اللفافات، مدت يدها بها إليه، وقبل أن يسألها بادرت بالكلام، قالت هذه مواد مخدرة، أريد أن أبلغ عن نفسي، فأنا أتاجر في السموم بكل أنواعها، أروجها بين الشباب والطلبة وخاصة في الجامعات، وهذه عينة مما أروجه، وها هي تقدم الدليل على ارتكابها الجرم وسقوطها متلبسة، وليس هناك دليل أقوى من وجود الممنوعات والاعتراف سيد الأدلة، وراحت تستعجله ليضع في يديها القيود الحديدية ويلقي بها في السجن بلا تحقيق أو إحالة إلى النيابة وأيضاً بلا محاكمة، فهذا كله تضييع للوقت ولا ضرورة له من وجهة نظرها. بالطبع لم يكن الأمر بهذه البساطة التي تريد أن يتم التعامل بها، وقد اعتقد في البداية أن الفتاة مصابة بلوثة عقلية أو مجنونة، وفي أحسن الأحوال تعاني مشكلة وتريد أن تتخلص منها بهذا الأسلوب، وتلك هي المرة الأولى في حياته العملية التي يواجه فيها حالة مثل تلك التي أمامه، وهو الذي يبذل جهوداً مضنية حتى يجمع الأدلة وينتزع الاعترافات، وفي الغالب فإن جميع من يلقي القبض عليهم لا يعترفون بسهولة. ضغط الضابط على الجرس فحضر الحارس، أمره أن يأتي بكوب من الليمون البارد للسيدة كي تهدأ أعصابها، كانت تغالب دموعاً أغرورقت بها عيناها، ونجحت في التراجع عنها ولم تسمح لها بأن تجعلها تبدو في موقف ضعف، فهي مصرة ومقتنعة بما تقول وبما جاءت من أجله، طلب منها أن تعرفه بنفسها وكل المعلومات عن حياتها وأسرتها وظروفها ولماذا تريد أن تدخل السجن بقدميها وتبلغ عن نفسها، ووعدها أنه سيساعدها بقدر ما يستطيع. قالت اسمي «أمنية» تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمري، لي ثلاثة إخوة، نشأت في أسرة لا تعرف غير تجارة المخدرات، لم التحق بالمدرسة ولم يفكر أبي ولا أمي في ذلك، وهكذا أخوتي كلهم جهلاء أميون لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم، إذ يرى أبي وأمي أن الذين يلجأون إلى التعليم هم الفقراء الذين يبحثون عن وظيفة، ونحن لسنا بحاجة لذلك، فما يحصل عليه الواحد منهم في صفقة صغيرة لا يحصل عليه الموظف في عدة سنوات، ومنذ تفتحت عيناي وأنا أرى كل أفراد الأسرة يقومون بإعداد المخدرات في لفافات، ويوزعونها على الزبائن والمتعاطين والمدمنين، في البداية لم أكن أعرف ماذا يفعلون، ولكن بعدما كبرت بدأت أفهم، إلى أن قرروا أن يستغلوني معهم، فيرسلوني إلى العملاء بالبضاعة وآتيهم بالأموال. وتساءلت كيف لا تخاف أمي خاصة، على مستقبلي وحياتي، وهي تعلم أن هناك مخاطر كثيرة من ذلك وأنني معرضة للسجن والضياع، زرعوا داخلي قسوة القلب وعدم الخوف من أي شيء مهما كان، أحياناً يجعلونني أحمل السلاح لكي أدافع عن نفسي إذا تعرضت لمكروه، وإذا رفضت يكون الضرب المبرح على الأقل هو العقاب حتى فكرت في الهروب من البيت وليكن ما يكون، لكن أين أذهب؟ ومن أدراني؟ ربما أقع بين أيدي أناس قد يكونون أكثر سوءاً من أهلي، وتذرعت بالصبر إلى أن أجد مخرجاً آمناً، وفكرت في الإبلاغ عنهم عندما يأتون بصفقة كبيرة فيتم القبض عليهم وأتخلص منهم بضربة واحدة، لكن تلك مجازفة غير محسوبة العواقب، ومن المتوقع أن تفشل وفي هذه الحالة ستكون حياتي هي الثمن. السنون تمر وتجري ونحن على هذا المنوال وفي هذا المستنقع، ولا أكذب وأقول لك إنني أنظر فقط إلى الحلال والحرام، ولكن لأنني مللت تلك الحياة بين التخفي والتهديد والأخطار التي لا تنتهي، وكثيراً ما يسقط بعض عملائنا في يد البوليس، وتصدر ضدهم أحكام قاسية تصل إلى المؤبد وأحياناً إلى الإعدام، وهذا ليس منا ببعيد فقد نكون مثلهم، ولن تسير الأمور على ما هي عليه دائماً ولن نكون في مأمن أبداً طالما نلعب بالنار ونتاجر في الحرام. وجاء اليوم الذي حملوني فيه أكبر مسؤولية، وهي التعامل مع «الرجل الكبير»، كما كانوا يسمونه، يقيم في منطقة بعيدة عنا، اختاروني لذلك لأنني بعيدة عن الشبهات، وليس لي ملف في الشرطة، بينما أبي وأمي لهما ملفات، أي أنهم من المسجلين خطر إتجار في المخدرات، فقد تم القبض عليهما عدة مرات من قبل، ولكن لسبب أو لآخر مثل الثغرات في قانون الإجراءات إما تكون الأحكام ضدهم خفيفة لا تتعدى ثلاث سنوات وإما يحصلون على البراءة، ورغم أنهما جرّبا السجون والمعتقلات والقبض عليهما والتحقيقات بين الشرطة والنيابات والمحاكم، لكنهما لم يرتدعا ولم يخشيا أن أكون في مثل هذه المواقف، ولا يريدان إلا قولاً واحداً «السجن للجدعان» يتباهان بذلك ويفخران به، وأيضاً يستغلانه في تخويف الآخرين. وبينما أنا أتردد على «الكبير» تعرفت على ابنه، كانت أول مرة يدق فيها قلبي، وجدت عنده الحنان المفقود الذي لم أجده عند أبي وأمي، يخاف أن يمسني أي سوء، هو ليس أحسن حالاً منا، فهو الآخر يعمل مع أبيه في نفس «الكار»، لكن يبدو أنه مثلي مغلوب على أمره، اللقاءات المتعددة زادت ارتباطنا، ما أحببت هذه المهام القذرة إلا من أجل أن أراه، كان جاداً في علاقته بي، فقد وعدني بالزواج وقرر أن يتقدم لأسرتي رسمياً، واعتقدنا كلانا أن الأسرتين سترحبان بتلك الخطوة، فالحال من بعضه وبيننا أشياء كثيرة مشتركة علاوة على التجارة المشبوهة فليس أحدنا أحسن من الآخر. تخطيت الخامسة والثلاثين من عمري، ولم يطرق بابي أي شاب، فكيف يقبل أي شخص أن يرتبط بواحدة مثلي من أسرة كلها من المنحرفين؟ لذا كانت تلك ربما هي الفرصة الوحيدة والأخيرة لكي أتزوج، وفاتحت أسرتي في الموضوع، لكن ما لم أكن أتوقعه أنهم رفضوا بالإجماع هذا العريس، والسبب كان مضحكاً، أنه «مسجل خطر» وتاجر مخدرات، وهذه عيوب لا يمكن إصلاحها، يتحدثون وكأنهم تجار فاكهة أو طيب، ويصومون النهار ويقومون الليل، وتناسوا أنهم مثله، وإذا كانت تلك عيوب فهم معيبون أكثر منه. منعوني من تلك المهام حتى لا أراه ولا أقابله مرة أخرى، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل دبروا له مكيدة حتى يقضوا على البقية الباقية من الأمل، دسوا له كمية من الحشيش وأبلغوا عنه وتم القبض عليه متلبساً، وقضت المحكمة بمعاقبته بالسجن عشر سنوات، ولم يكن أبوه يعرف هذه الأسرار، وإنما أخبروني بها، حتى لا أفكر فيه مرة أخرى. بعد هذا كله مللت الحياة معهم، أريد أن أتطهر من هذه الذنوب أولاً، وأريد أن أدخل السجن ثانياً، كي أتخلص من هذه الأسرة، ولأنتظر العريس إلى أن ينهي فترة العقوبة ثم نتزوج، فقد تعاهدنا من قبل هذا كله على أننا سنتوقف عن هذا النشاط الآثم ونعيش حياتنا بالحلال، لكن لم يمهلونا ورفضوا توبتنا، فهم يرفضون الاستقامة والطريق القويم. لم يجد الضابط أمامه إلا أن يحرر محضراً بكل أقوالها ويحيلها إلى النيابة، التي أمرت بحبسها تمهيداً لإحالتها إلى المحاكمة، وأمرت كذلك بالقبض على جميع أفراد أسرتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©