الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كارلو جوارماني.. الجاسوس الإيطالي الأفّاق

كارلو جوارماني.. الجاسوس الإيطالي الأفّاق
26 نوفمبر 2009 00:18
هذا كتاب يحوز قصب السبق، فعلاً، في إطلاع القارئ العربي عليه، بسبب ندرته أولاً واتهام العرب لصاحبه بالتجسس لصالح الأتراك أو لنابليون الثالث. مؤلفه كارلو كلاوديو كاميلو جوارماني الذي ولد في شمال إيطاليا عام 1828، وبعد خسارة والده في التجارة قرر الهجرة إلى المشرق، فاختار بيروت التي كانت من أهم المراكز التجارية البحرية في شرقي البحر الأبيض التوسط إبان فترة عهد التنظيمات الخيرية العثمانية وكان ذلك في عام 1850م. في بيروت اشتغل جوارماني بالتجارة ولم يتلاءم معها، فاختار وظيفة ممثل البريد الامبراطوري الفرنسي في القدس. من هنا بدأت رحلته الأولى إلى بلاد الشام، وقبل ذلك كان جوارماني قد برع في دراسة سلالات الخيول العربية الأصيلة واشتغل بتجارتها التي كانت مربحة آنذاك. هذه التجارة جعلته يمتلك معرفة وثيقة بأغلب شيوخ البدو في بر الشام والحماد ونواحي الأردن وأنه قام برحلة أولية إلى الجوف في عام 1851 وكان عمره آنذاك 23 عاماً بعد سنة من التحاقه بوظيفة ممثل البريد الامبراطوري الفرنسي في القدس. وعرف عن جوارماني إجادته للغة العربية وتكيفه مع حياة البداوة ومعرفته بعادات وتقاليد البدو وتمرسه في اللهجات المحلية للعشائر المنتشرة في شمال جزيرة العرب. ويوعز الدكتور أحمد ايبس مترجم كتاب جوارماني “نجد الشمالي.. رحلة من القدس إلى عنيزة في القصيم” والصادر حديثاً عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ضمن سلسلة رواد المشرق العربي بمناسبة مئوية المغفور له الشيخ زايد الأول “زايد الكبير” (1909 ـ 2009) إلى أن جوارماني كان يمتلك بشرة إيطالية زيتونية مكّنته من الاختلاط بالعرب بعد أن لفحته الشمس فتأقلم مع العرب في القدس وأهلها. حكاية التجسس والخيل ألف جوارماني كتاباً نفيساً في معرفة أرسان ـ جمع رسن ـ الخيل العربية سمّاه “الخمسة” نسبة إلى الأرسان الخمسة الأساسية لخيل جزيرة العرب وهي كحيلان وحقلاوي وعبيّان وحمداني وهديان، وقد نشر الكتاب في مدينة بولونيا بإيطاليا عام 1864 أي في نفس العام الذي قام فيه برحلته الثانية إلى نجد الشمالي في 26 يناير من شتاء عام 1864م. قصة الكتاب “الخمسة” كانت سبب الرحلة ـ كما يدعي جوارماني نفسه ـ بينما يشكك العرب في الجزيرة بهذه القصة وهي: قبل أن يهدي جوارماني كتابه “الخمسة” إلى ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل الثاني (1861 ـ 1878) استدعاه إلى فرنسا في سبتمبر من عام 1863 وزير الزراعة الفرنسي ليعرض عليه مهمة شراء خيول لامبراطور فرنسا نابليون الثالث، ومن باريس استدعي أيضاً إلى تورينو في مهمة مماثلة ثم في ديسمبر عاد إلى “القدس” في فلسطين وقد كلف بشراء جياد فحول إلى الحكومتين الفرنسية والإيطالية فاستيقظ في ذهنه حلم قديم كان يراوده بأن يزور نجد الشمالي موطن العشائر والخيول العربية الأصيلة. هل هذه الحكاية هي الحقيقة؟ أم أن هناك حكاية أخرى خلف ستار الولع بالخيول العربية، من أجل أن يتنقل تحت غطاء لا يشك فيه أحد؟ ونتساءل أيضاً من أين تولد الشك العربي في طبيعة هذه الرحلة التي سجلها جوارماني في كتاب كامل بث فيه شكوك أمراء العرب إزاءه حين التقى بهم. رحلة خليل آغا انطلق جوارماني من القدس في 1864 ومعه خادمه محمد الجزيني فحلّ ضيفاً على عشائر فلسطين التعامرة والكعابنة وبني حميدة وعبر نهر الأردن إلى وادي زرقاء معين، وتابع إلى الحماد القبلي وهي ديرة بني صخر وأخذ منهم رسائل إلى شيوخ نجد وزودوه بدليل صار له عوناً مع محمد الجزيني في رحلته هذه وهو “الدريبي”. في بداية رحلته التقى بشيخ الرولة طلال بن فيصل الشعلان الذي زوّده برسائل أنقذت حياته، وكان عمر جوارماني آنذاك 36 عاماً. عاش الثلاثة (جوارماني ومحمد الجزيني والدريبي) رحلة قاسية على متن الأباعر ولاشيء يقتاتون به إلا حليب النوق أو يأكلون الجراد، وتابعوا طريقهم صوب تيماء وفي الطريق التقى بأمير تيماء عبدالكريم الرمان الذي زوّده برسائل إلى أمير جبل شمر في حائل طلال بن عبدالله بن رشيد. من تيماء إلى حائل.. كان سؤال جوارماني عن الخيول الحرّة العربية ومن الغرابة أن جوارماني عندما دخل “تيماء” تقمّص شخصية آغا تركي وادعى أنه ناظر اصطبلات والي دمشق الشهير فؤاد باشا وسمى نفسه “خليل آغا”.. ولكن لماذا؟.. وهل هذه تكفي لكي نفهم تخوف جوارماني من افتضاح شخصيته؟ لنتابع القصة كما جاءت في كتابه “نجد الشمالي.. رحلة من القدس إلى عنيزة في القصيم”. كفلت شخصية “خليل آغا” لمتقمصها جوارماني احترام جل العشائر التي زارها ما عدا الموقف الذي اتخذه منه الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي آل سعود فعدّه جاسوساً تركياً. وقد نسأل اليوم، هل كان الأمير عبدالله بن فيصل مصيباً؟ ولمن كان يعمل جوارماني؟ هل كان يعمل جاسوساً لنابليون الثالث أم للأتراك؟. دخل جوارماني إلى مدينة خيبر وتابع طريقه إلى جبل طي. وهناك اشترى أربعة رؤوس خيل من جياد عتيبة الشهيرة بقوّتها. خلال هذه الفترة تعرض جوارماني إلى تسمم من ماء فاسد من إحدى حويات الحرة فأنقذه دليله علي الفداوي بمعونة بعض الجوالين من الصليب ومن ديرة الهيثم في جبل طي، ثم تابع جوارماني إلى القصيم رحلته الشاقة، فمرّ على مضارب الأمير عبدالله بن فيصل آل سعود حيث أُخذ أسيراً، ورفض الأمير استقباله. “وبعد أن قرأ جميع رسائل التوصية التي كانت بحوزتي ردّها لي” كما يقول جوارماني نفسه. ونقل جوارماني إلى عنيزة “وهي أكبر قرى نجد وتعتمد تجارتها الرئيسية على تربية الأمهار التي يشتريها تجارها من البدو، وعلى تصديرها إلى الكويت على الخليج العربي” بحسب ما جاء في رحلته. كان “عنيبر” هو قائد الحرس الذي ذهب بجوارماني إلى “عنيزة” من رعايا فيصل بن سعود إلا أنه يقر بالطاعة إلى طلال بن رشيد حاكم جبل شمر كما يذكر جوارماني. وعرّفه “عنيبر” على أمير عنيزة الشاب زامل السليم الذي كان خصماً لآل سعود والذي أصبح بعد 4 أعوام أميراً على عنيزة في 1868 م حتى مقتله في معركة “المليدا 1891م” على يد خصمه محمد بن عبدالله بن رشيد أخي طلال. يقول جوارماني: “إن الأمير زامل قد ظنّني مسلماً وموظفاً تركياً، فقد أولاني اهتماماً كبيراً، كان حديثه عذباً ممتعاً، حيث إنه يمتاز بثقافة رفيعة، وكان نفوذه في المدينة يفوق نفوذ الحاكم الذي هو ابن عمه”. من هذا النص نقرأ ما كان جوارماني يكرسه في أذهان أمراء وحكام المنطقة آنذاك كي يخفي شخصيته. لفت انتباه جوارماني سوق عنيزة التي تعد المركز الرئيسي لتصدير خيل نجد إلى الكويت ومنها إلى بومباي بالهند، وفي هذه السنة التي زار جوارماني عنيزة وصل خبر منع باشا بغداد وفقاً لأوامره إلى ابن سعود بتصدير الخيل عن طريق البحر. ويتوجه جوارماني بالارتحال إلى “بريدة” عاصمة القصيم القديمة التي وصفها بأنها “مدينة متداعية بأطلال خربة على الرغم من أن الأمراء والتجار يقيمون فيها”. وتجارها أغنى من تجار عنيزة وسوق الخيل فيها رائجة ترد إليها من قبيلة “مطير” وفي عنيزة من قبيلة “قحطان”. ويتعرف جوارماني في القصيم على الأمير بندر بن طلال بن رشيد الذي كان ينزل بمضاربه في البادية لتضمير خيل أبيه، غير بعيد عن طريق الحج العراقي. ويستقبله بندر بترحاب ولطف كبيرين ويصحبه إلى جبل شمر حيث الأمير طلال والأمير عبيد اللذين لم يخرجا عن حاكمهما الأمير فيصل بن تركي آل سعود الذي كافأ أباهم عبدالله بن علي بن رشيد ليصبح حاكماً على الجبل في عام 1835م بعد أن صرع الأخير قاتل والده الأمير تركي في عام 1834م ولكن الأعوام التالية بعد زيارة جوارماني تشهد تغيرات كبرى في حياة كل من الأمير فيصل وطلال وبندر. قصة اليهودي وجوارماني يتوجه جوارماني إلى حائل بعد أن غادره “عنيبر” حيث كان مرافقه “علي” في طابة ويقول “دخلنا يوم الأول من ابريل بعد غروب الشمس إلى حائل، وعند باب المدينة كانت ملقاة جيفة يهودي عجمي، قتله الدّهماء لادعائه بأنه مسلم ولرفضه بعد افتضاح أمره النطق بشهادة الإسلام”. كان هذا اليهودي ـ بحسب جوارماني ـ قد دخل إلى نجد قادماً من الحماد وراح يطلب شراء خيول لشاه إيران.. ويتدخل جوارماني برواية القصة قائلاً: “وإذا شئنا الحقيقة” ينبغي إدراك أنه يستحق إلى حد كبير هذا المصير البائس الذي لقيه، فطالما كان الإنسان سيلقي نفسه في مهمة عسيرة، عليه قبل كل شيء، لكي يكون النجاح حليفه، أن يقرر استخدام جميع الوسائل الممكنة، وحتى أن يبذل المستحيل، وعليه ألا يتوانى ولا يتقاعس أمام أية عقبات كائنة ما كانت”. حسناً ولنتابع صلة جوارماني بقصة مقتل اليهودي العجمي يقول جوارماني: ساد الاعتقاد في كل من مصر وفلسطين، بأن من قُتل كان أنا وليس اليهودي، ذلك لأن الخبر انتقل من تيماء إلى تبوك وإلى باقي منازل “طرق” الحج إلى مكة، ودريت في القاهرة بأن المونسنيور غوبا أسقف الكنيسة الانجليكانية في القدس، وبطريركنا في المدينة المقدسة قد أتاهما الخبر من الاسكندرية، وانتشر الخبر بسرعة بحيث إن عائلتي راحت تندب موتي”. ويضيف جوارماني أهم ما رواه وما يحمل من سخرية مبطنة يصف فيها ذكاءه وتفوقه على المسلمين: “بينما كنت أنا أتنعم بأكل عصيدة التُّمن “بيلاف” وكنت أؤدي فروض الصلاة “الركعات” بكل التقوى والمواظبة المعتادين، متوجهاً فيها إلى الله بقلبي، وتالياً بكل احترام اسم محمد بشفتيّ”. ويصلي جوارماني في المسجد مع الأمير بندر في حائل ويصف كيف كان يوهم الأمير بصلاته الكاذبة (ينظر ص76 من الكتاب)، ثم يذهب به الخادم إلى دار بناها الأمير لضيوفه ويصف جوارماني بعد ذلك جولته في سوق حائل كونها سوقاً رثة ويقول كان ثمة العديد من التجار التي تعود أصولهم إلى بغداد والبصرة. العودة إلى حائل ويعود جوارماني من حائل مع علي ومحمد والدريبي مرافقيه الثلاثة وهنا يصف فيقول: “وقمت في العودة بالتجوال من جديد على الدرب ذاته الذي سلكته عند مجيئي، وهذا ما أكد لي أنه لا يتعين عليّ القيام بأي تقويم لخارطتي أو أن آخذ أية ملاحظات جديدة حول تضاريس للأرض”. ومن خلال هذا النص يمكن أن نقرأ الكثير عن هذا الرحالة الغامض الذي لم يشتر سوى 7 خيول في كل رحلته التي تجاوزت الأربعة أشهر على أرض مليئة بالموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©