الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة في الجغرافيا الروحية الإسلامية

قراءة في الجغرافيا الروحية الإسلامية
26 نوفمبر 2009 00:19
يحاول كتاب “القدس في الوعي التاريخي العربي ـ الإسلامي” الذي صدر ضمن سلسلة آفاق مقدسية لمناسبة القدس عاصمة للثقافة العربية أن يستجلي الموقع الذي تحتله المدينة المقدسة في الرؤية التاريخية العربية ـ الإسلامية الكلاسيكية، وذلك من خلال تحليل تلك الرؤية من داخلها، كما يقدمها النص التاريخي العربي ـ الإسلامي المتعلق بالقدس مع التأكيد على العلاقة الوثيقة بين التاريخ والسرديات في هذه القراءة بغية الاستفادة من ذلك منهجيا وإجرائيا في الإضاءة على منطق تلك الرؤية، التي يتداخل فيها نشاط المخيلة وعملها مع طبيعة الحقيقة التاريخية، كما يقول مؤلفا الكتاب في مقدمته. في المدونات التاريخية في بداية القسم الأول يعالج الباحثان موضوع المنهج الإسلامي في التاريخ حيث يقترن التاريخ مع السرد في وحدة لا فكاك منها، وهو ما يجعل المدونات التاريخية سرديات تتحول في عملية معقدة خلال حقبة زمنية طويلة إلى “حقائق” يعتقد الوعي الجمعي العام أنها حدثت بالفعل. فالمؤرخ التاريخي لديه رؤية كانت تفرض نفسها بصورة تلقائية حين كان الأمر يتعلق بتاريخ الأماكن المقدسة. والتاريخ الإسلامي للقدس (مدونا وشفاهيا) ليس سوى تاريخ سرديته الإسلامية الذي يقدم نفسه باعتباره التاريخ الحقيقي الذي حدث بالفعل، حيث يجمع في متونه بين الزمني والروحي للمدينة في رواية واحدة. وإذ كانت النزعة التاريخية سمة راسخة من سمات الحضارة العربية ـ الإسلامية، فإنها قد تجلت في ظهور حوالي خمسة آلاف مؤرخ ما جعل التأليف في التاريخ يحتل المكانة التي احتلها الشعر قبل الإسلام. ويضيف الباحثان أن الوعي التاريخي بالقدس قد تميز بكونه يقع في إطار التاريخانية الإسلامية العامة التي ترى في الأمة الإسلامية تجسيدا ختاميا وكاملا للوحي في التاريخ، لكن هذا الوعي الإسلامي عمد إلى تدوين سرديته لتاريخ القدس في إطار سردية أشمل للتاريخ الكوني للعالم، إذ دمج القدس في صلب منظومته الجغرافية المقدسة، كما جعل قداستها قديمة وليست محدثة. وهكذا اندمج التاريخ المقدس الشعري للقدس مع التاريخ الزماني، الأمر الذي يستدعي منهما التمييز بين هذين التاريخين كما يتجليان في وعي المؤرخ القديم. ما قبل الإسلام لاشك أن الدعوة الإسلامية وضعت العرب في مركز العالم ما استدعى من المؤرخ الإسلامي إعادة بناء التاريخ العام للعالم بما يتفق وتلك المركزية. وقد اعتمدت تلك التاريخية على تقليدين أساسيين هما التقليد الاخباري المتوارث في التقاليد الشفهية للجزيرة العربية، وتقليد النص المقدس الذي يشكل النص القرآني مرجعه الأساس إلى جانب المرويات النبوية. ويبدأ هذا التاريخ العام في وعي المؤرخ المسلم بهبوط آدم من الجنة. ويضيف الباحثان أن النموذج السلالي للعرب يقسم إلى ثلاثة أقسام هي العرب البائدة والعرب العاربة والعرب السائدة. ويمثل عرب الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي العرب المستعربة. وينتقلان من البحث الأقوامي العربي إلى البحث في موقع القدس في هذا النموذج الأقوامي ما قبل الإسلام، ثم يتناولان موقع القدس في الجغرافيا الشامية بعد الإسلام والتي تأسست في السردية التاريخية العربية ـ الإسلامية على مفهوم وحدة الجغرافيا البشرية في إطار وحدة الجغرافيا البشرية العامة لمنطقة وادي الرافدين والشام والجزيرة العربية حيث تمثل فلسطين فيها الشام الأولى لاعتبارات معيارية. مدونات فضائل القدس في القسم الثاني من الكتاب يجري تناول مدونات فضائل القدس الدينية في التاريخ البلداني العربي بعد أن تبلور هذا النوع من التاريخ في القرن الخامس الهجري. وقد تميزت تلك المدونات بأنها مدونات تصنيفية تجميعية لكل المرويات الإسلامية عن القدس. ويقدمان كشفا بالكتب التي أولفت في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن وحتى القرن الرابع عشر الهجري، إضافة إلى الكتب المجهولة التاريخ والناقصة والكتب المخطوطة. ويتناول الفصل الثالث فضائل القرن الخامس الهجري من خلال كتاب الواسطي عن فضائل بيت المقدس أثناء السيادة الفاطمية عليها والذي أبرز فيه أربع فضائل للقدس هي موقعها في الديانات التوحيدية الثلاث عموما وفي الإسلام خصوصا، وموقعها في الرؤية الإسلامية لنهاية العالم أو يوم الحساب ووجود أهم المواقع المقدسة فيها (المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وبوابات القدس وقبب المعراج....)، وأهمية الصلاة فيها والتبرك بمشاهدها. كذلك يتناولان كتب الربعي المالكي وكتاب ابن المرجي فضائل بيت المقدس والخليل وفضائل الشام. ويظهر المنهج التاريخي في البحث من خلال اعتماد التسلسل التاريخي في دراسة تاريخ القدس إذ ينتقلان من القرن الخامس الهجري إلى القرن السادس الذي شهد الغزو الصليبي وازدهار مؤلفات كتب الفضائل نظرا لما شكله الغزو المغولي في مرحلة لاحقة في الوعي الإسلامي من شعور كارثي بالمصير الوجودي والتاريخي المهدد، ما جعل القرن السابع الهجري يشهد نهضة تاريخية تمثلت في ظهور 325 مؤرخا في قرن واحد. وقد دفع احتلال القدس بالمؤرخين لإعادة ترسيخ فضائل القدس التي استمر التدوين التاريخي عنها بعد استردادها من الفرنجة بوصفه تأكيدا لمكانتها فيحاول الباحثان تقصي تلك المدونات والتعريف بها. وينتقلان في الفصل التالي إلى الحديث عن مدونات الفضائل المقدسية في العصر المملوكي الذي جعل منها مركزا علميا مشعا، إذ ظهرت على أساس ما تبقى اليوم من تلك المدونات خمس عشرة مدونة جعلت هذا العصر يشهد أعلى معدلات الإنتاج الأدبي التاريخي الفضائلي لبيت المقدس والشام. وعلى غرار ما سبق يقدمان تعريفا بتلك المدونات وبأهم ما تضمنته حول تلك الفضائل، ثم ينتقلان لدراسة تلك الفضائل في العصر العثماني حيث يوليان أهمية خاصة لكتاب “الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل” للقاضي مجبر الدين الحنبلي الذي ظهر في الفترة الفاصلة بين حقبتي المماليك والعثمانيين لينتقلا منه إلى كتب الفضائل الأخرى في الحقبة العثمانية التي اعتمدت بصورة أساسية على الكتاب السابق فيقدمان تعريفا بتلك الكتب وما تضمنته من تاريخ فضائلي للقدس والشام. ويخلص الباحثان إلى أن التأليف في هذا الحقل الفضائلي عن القدس كان محكوما برغبة التبرك بها وخدمتها بغرض المثوبة وذلك من خلال حرص المؤلف فيها على حشد أكبر عدد ممكن من الرؤى والطقوس والأحاديث وتفسيرات الآيات والنظم الرمزية والحكايات العجائبية والكرامات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©