الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإلياذة والأوديسة وغيرهما من آثار اليونان كانت في الأصل شفاهية

الإلياذة والأوديسة وغيرهما من آثار اليونان كانت في الأصل شفاهية
29 يناير 2009 03:21
من المعروف أن الثقافات المدونة كانت في الأصل ثقافات شفاهية، فالإلياذة والأوديسة وغيرها من آثار اليونان كانت في الأصل شفاهية، وكان هوميروس أول مؤرخ شفهي وصلتنا أعماله مدوّنة، وجاء بعده هيرودوتس Herodotus وثيوكيديدس Thucydides وهما أول من جمع بين الرواية الشفاهية والمدونة· وكان هيرودوتس يقوم برحلات عديدة في آسيا الصغرى والشرق الأدنى يجمع القصص والحكايات حول تاريخ البلاد التي يزورها· في العصر المسيحي الأول كان للروايات الشفاهية مكانة سابقة، ذلك أن أغلب المسيحيين لم يكونوا ملمّين بالقراءة، ولذا تبرز الرواية الشفاهية في أسفار الإنجيل التي امتد تأليفها على مدى خمس وسبعين سنة، ومثل ذلك يُقال عن أسفار الأبوكريفا Apocrypha وفي العصور الوسطى الأوروبية لم يكن أمام المؤرخين إلا الروايات الشفاهية مصدراً لتواريخهم· وكان جل اعتمادهم عليها وعلى مذكراتهم الشخصية أو على شهادة شهود عيان· ولهذا السبب يعتبر ''كتاب دوميزداي'' Domesday Book أول مصدر في تاريخ إنجلترا الاجتماعي والاقتصادي في الفترة النورماندية في عام 1086م· وكانت الروايات التي قدمت مشافهة هي عماد هذا الكتاب، ومثل ذلك الأغنية الشعبية القصصية ''البالد'' والشعر الإنجليزي القديم والوسيط، ونشيد ''رونالد'' وكلها آداب شفوية· إن المؤرخين العرب والمسلمين استخدموا المادة الشفاهية بشكل واسع، بل إن قدراً من التراث العربي المدوّن، في ميادين علمية عديدة، كان تراثاً شفاهياً، قوامه التداول والرواية الشفاهية، وهناك إجماع على أن المحدثين والمؤرخين والإخباريين والأدباء والشعراء الأوائل قد استفادوا من المصادر الشفاهية· فالبلاذري (ت298هـ) والطبري (ت310هـ) والمسعودي (ت346هـ) وابن خلدون (ت808هـ) يأتون على رأس المؤرخين المسلمين الأوائل الذين اعتمدوا بشكل كبير على الروايات الشفاهية عند تأليفهم كتبهم، ويكاد الشعر العربي الجاهلي برمته أن يكون شعراً شفاهياً ـ وربما من هنا أتت العلاقة ما بين هذا الشعر والشعر النبطي حيث يشتركان في كونهما شفاهيين أساساً ـ و على الرغم من طبع عدد من الدواوين النبطية في السعودية والخليج في القرن الماضي، إلا أن الشعر النبطي في الأساس شعر مسموع وصل أكثره إلينا عن طريق الرواية والإلقاء بشكل مشابه للشعر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، ولا يزال الاستماع وليس القراءة هو الطريقة المثلى لتلقّي الشعر النبطي لدى المهتمين به فجماليات وبلاغة هذا الشعر تبرز أكثر من خلال الإلقاء والاستماع أكثر من القراءة· ويرجع الفضل إلى علماء المسلمين الذين قَنّنوا قواعد علمية للاستفادة من الروايات الشفاهية· حيث أصبحت تلك القواعد فيما بعد علوماً مستقلة مثل علم الإسناد وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ومصطلح الحَديث، وغير ذلك كثير· تجربة إماراتية ولو أردنا أن نستدل بأمثلة لذلك على أهمية هذه الروايات، فيمكننا أن نتأمل تأثير الروايات الشفاهية واضحِاً في مخطوطين لأحد أبناء الامارات، وهو عبد الله بن صالح المطوع، تم نشرهما مؤخراً، ففي مقدمة المخطوط الأول، وتحت عنوان ''الجواهر واللآلي في تاريخ عمان الشمالي'' يشير إلى الروايات المتناقضة التي سمعها، واختياره أقربها إلى الصحة وأبعدها عن التعصب والتحزّب ويذكر في مقدمة مخطوطه الثاني ''عقود الجمان في أيام آل سعود في عُمان'' اعتماده على الروايات التي سمعها من ''شيوخ متقدمين أهل صدق ويقين''· وقد لقي هذا المخطوط الأخير اهتماماً خاصاً، إذ اعتمدت عليه المملكة العربية السعودية في مذكرتها التي قدمتها أثناء التحكيم تسوية النزاع الإقليمي بينها وبين مسقط وأبوظبي سنة 1374هـ/ 1955م، المعروف تاريخياً باسم ''مشكلة البريمي''· ورغم التشكيك في المخطوط ومؤلفه من جانب كيلي Kelly المتخصص في تاريخ المنطقة، وكاتب الأساس التاريخي للمذكرة البريطانية في هذا النزاع، إلا أنه لم يملك سوى الإعجاب به· وفي الحقيقة، لم يكتف عبد الله بن صالح المطوع بالاعتماد على الروايات الشفهية فقط بل اعتمد أيضاً على الشعر العمودي والشعر النبطي في بعض الأحداث التاريخية التي تَعّرض لها· العناية بالموروث الشفاهي إن كل راوية أو شاعر من كبار السن الذين ما زالوا يعيشون بيننا هو شاهد حي على عصرٍ مضى وانقضى، نسمع عنه لكننا لم نعشه، وما لدينا من وثائق مدونة قد لا يفي في كثير من الأحيان وكثير من الحالات بالغرض المنشود في إيرادها أو الاستعانَة بها في مجال البحث العلمي· لابد أن تعترض الباحث مصاعب، ولابد أن يجد أحياناً ثغرات لابد من سَدّها، وهنا تبرز أهمية الاستعانة بما سميناه بالوثائق البشرية الحية، وفي عصرنا الحالي، أعطت بعض الجامعات ومراكز البحوث الغربية كما مرّ معنا، أهمية خاصة للروايات الشفهية أو التاريخ الشفهي· ورغم أن للرواة ''آفة جد خطيرة'' حيث ''يقحمون مزاجهم على النص الأصلي'' وآخرون يقحمون إنتاجهم الشخصي على النص التقليدي أحياناً، كما يشير أحمد رشدي صالح في كتاب ''الأدب الشعبي''، إلاّ أن عنايتنا بالرواة تتأتى من كونهم هم أوعية وَحَمَلَة التراث الشعبي، وإن ما يحملونه من كنوز تراثية في الآداب الشعبية التقليدية، والتي نجد أنها تتلاقى في قسمات رئيسية وتمتاز بها على آداب الفصحى، حيث ''تمتاز بالعراقة والواقعية والجماعية والتداخل أو التوظيف مع فروع المعارف والمعتقدات والممارسات الجارية في حياة كل يوم''· وتستمد هذه الآداب عراقتها من خلال دراسة تطور المجتمع البشري والحضارة الانسانية، فقلما يُستطاع أن يتفرغ البعض من ضرورات العمل والحياة، فينشئوا أدباً يخدم أغراض الخاصة ويشبع حاجاتهم الفنية باعتبارهم نخبة مثقفة (انتلجنسيا)، وبالتالي متميزين على الكافة وقبلما يأخذ ذلك الأدب الخاص في التميز على أدب الكافة كان ثمة آداب عامة للجماعات البشرية المتساوية على الفطرة، أو تلك التي لم يكن قد تأكد جانب الفراغ فيها، وكان ذلك الأدب يكفي حاجاتها الفنية والروحية وكان شعبياً دارجاً في محتواه ولغته وطرائق تداوله وكان يتداخل مع السحر والدين والأخلاق والتشريع· ولنا أن نؤرخ لهذا الأدب الشعبي العام باستخدام الإنسان اللغة كوسيلة للتعبير عن خلجات النفس، وإيصال انفعالات الإنسان وخواطره وأفكاره إلى الآخرين في شكل أصوات ترمز لها، وتلك فترة أقدم بكثير من اختراع الكتابة، حافظ عليه هؤلاء الرواة مُتَناقلاً من جيل إلى جيل فقد حفظوه في صدورهم ووعته ذاكرتهم، ومع ذلك فهو بحاجة ماسة إلى تسجيله وتدوينه وحفظه مع تطور تقنيات الأرشفة والحفظ وتنوعها اليوم· والإخباريون أو الرواة متعددون ومختلفون من حيث أهميتهم باعتبارهم حلقة اتصال بين الباحث والمجتمع والفترة التي يُزمع دراستها، فهناك إخباريون عاديون يستمد الباحث فهم البيانات خلال المقابلات حول الموضوعات التي يستطيعون التحدث فيها ولكنهم لا يمثلون بالنسبة له مصدراً أساسياً في جمع البيانات، وهناك إخباريون رئيسيون يحتلون مراكز اجتماعية هامة، أو يقومون بأدوار حيوية في الحياة الاجتماعية، أو يتمتعون بثروة من المعلومات حول أحد المجالات الثقافية التي تهم الباحث، وإذا كان من السهل توفر النوع الأول من الإخباريين فإن توفر النوع الثاني يتطلب من الباحث بعض الوقت يتم خلاله التعارف على أكبر عدد من الأشخاص، وإعداد قائمة بالأشخاص الذين يصلحون لهذا الغرض ويكون لديهم الاستعداد للتعاون معه، وفي كثير من الأحيان يرحب الإخباري الرئيسي بهذا التعاون وبالنظر إلى ما يضفيه ذلك عليه من أهمية خاصة في نظر الآخرين، وعلى الباحث بطبيعة الحال أن يحرص على معاملته في ضوء مكانته الاجتماعية· وتُعد الوثائق الشفهية، وبالتالي حَمَلتها من الإخباريين من كبار السن، أحد المصادر المهمة في كتابة التاريخ بشكل عام، فهذا الشخص المعاصر، أو شاهد العيان، الذي يروي ما شاهده بعينيه أو شارك فيه بنفسه، يمدنا بمعلومات مباشرة تتميز بوفرة التفاصيل الدقيقة· وفي هذه الروايات تصوير لروح العصر، مما قد لا يجده الباحث في الوثائق الرسمية والمراجع التقليدية إذا اقتصر عمله عليها· ان تراث الأمم والشعوب والذي ينطوي تحت ما يسمى أو بالأحرى ما يعرف بالتراث الشعبي أو الموروث الشعبي هو في واقع الأمر ما ينبع من روح الأمم والشعوب، وهو الحلي التي تتحلى بها الأمم والشعوب، ونقاوته وصفائه تجعلانه سمة خالدة في أعماق النفوس في أي دهر أو عصر من العصور· والموروث الشعبي ليس حكراً على أمة أو شعب أو جنس دون غيره لأنه وبكل الأحوال يعكس أحزان وأفراح جميع المجتمعات وطرق وأنماط وسياقات رزقها وحياتها الاجتماعية· فلا عجب أن تسعى كل أمة من الأمم وكل شعب من الشعوب ومنذ أقدم الدهور للحفاظ وللدفاع عن موروثها الشعبي بشتى الطرق والوسائل وتبذل الغالي والنفيس في سبيل اظهاره بالمظهر الذي يليق به· وفي حقيقة الأمر فإن الموروث الشعبي وكما هو سائد ومعلوم يقسم إلى شقين وكل شق منهما يحتوي على شعب وأبعاد ومضامين لا تشبه الواحدة الأخرى إلا أنها تكمل الواحدة الأخرى في كثير من الأحيان· الشق الأول يعرف بالتراث الشعبي المادي أو الملموس وهو كل ما يدخل في الأعمال الحرفية وغيرها من الأمور الملموسة الأخرى كالمباني الأثرية والتاريخية وهو بعيد عن عملنا هذا ولكن هذا لايمنع ان نشرح معاني كلمات كثيرة لها علاقة بالبيئة البحرية أو الصحراوية أو الجبلية كأدوات الصيد وأنواع سفن الغوص والتجارة وما الى ذلك مما يرد ذكره في الأشعار والامثال والحكايات الشعبية، أما الشق الثاني فيعرف بالتراث الشعبي غير المادي أو غير الملموس، وفي الآونة الأخيرة استبدل المصطلح الثاني من قبل منظمة اليونسكو وأمسى يعرف بالتراث الشعبي الشفاهي وهذا يشمل وعلى سبيل المثال لا الحصر الأشعار والحكايات الشعبية، والخرافات، والقصص الخيالية والنثر وهو يشكل صلب هذا العمل· وقد ظل التراث الشعبي بشقيه تتوارثه الأمم والشعوب جيلاً بعد جيل لحين انطلاق شرارة ما يعرف بصرعة أو بالأحرى ما يعرف بجرعة العولمة والتي تحمل ما بين طياتها وأمواجها العاتية اغراق كل موروث شعبي وبالتالي استبداله بموروث عالمي تحتذي به كل الأمم والشعوب الغالبة منها، والمغلوبة علي أمرها! وبسبب هذا السيل العارم أحيانا والهالك في أحيان أخرى بدأت كثير من مفاهيم التراث الشعبي يدب في أنحاء روحها قبل جسدها مخاطر التشتت والانحسار وبالتالي الانقراض، مما حمل كثيراً من الأمم والشعوب الحريصة على موروثها الشعبي الحفاظ عليه من الضياع الآن وليس قبل فوات الأوان وبالتحديد التراث الشعبي الشفاهي والذي هو عرضة للضياع قبل غيره، وبعد أن تيقنت بعض من الأمم والشعوب لهذا الخطر المحدق وبدأت بقرع نواقيس الخطر خوفا على تراثها، أدركت منظمة اليونسكو أن الوقت قد حان للقيام بأعمال إيجابية الغاية منها العمل على إنقاذ هذا الموروث لذلك عمدت وخلال السنوات القليلة الماضية على تنظيم حملات إعلامية غايتها تنبيه الأمم والشعوب الى خلق آليات تعنى بالحفاظ على الموروث الشعبي الشفاهي والذي وحسب قولها يكاد أن يكون الآن في طي النسيان، خاصة في الدول التي لا تستطيع تحمل تكاليف جمعه وبالتالي حفظ موروثها الشعبي· أو تلك الدول التي لا تملك الطاقات الكافية لجمع وتوثيق موروثها الشعبي· من هذا المنطلق حرصت كثير من الأمم والشعوب على اعادة النظر بالوسائل الكفيلة للحفاظ على موروثها الشعبي والبعض استعان باليونسكو لمد يد العون في هذا المجال أو ذاك· ومن منطلق وحرص الأمم والشعوب الحفاظ على موروثها الشعبي الشفاهي عقد في الآونة الأخيرة كثير من الندوات والمؤتمرات والدراسات الاقليمية والمحلية والوطنية جميعها تنادي وتطالب بالحفاظ على موروثها الشعبي الشفاهي قبل فوات الأوان لاسيما أن تيارات وأمواج العولمة باتت على وشك جرف قيم وما تبقى من هذا الموروث الحي· إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن التاريخ الشفهي مصدر مكمّل يحدد أو يصحح الوقائع التي وثقتها المصادر التقليدية، وفى ظل عدم توفر الوثائق لأسباب تتعلق بالمدة القانونية للاطلاع أو لأنها فقدت، يستدعي ذلك أحيانًا الاعتماد على الشهادات والروايات الشفهية لاعتبارات أنها ستكون المصدر الأساسي للتوثيق التاريخي· لا وثائق يعني لا تاريخ··· لقد كان ذلك هو الشعار التقليدي في تناول المواد غير الوثائقية في البحث التاريخي، ولكن العصر الحديث بكل ما استجد فيه من تكنولوجيا المعلومات منذ بداية ظهور أجهزة التسجيل الصوتي وأجهزة تصوير الفيديو وصولاً إلى البريد الالكتروني والإنترنت فرض تغيير ذلك الشعار· وبالنظر لطبيعة الشهادات الشفهية من حيث أنها منتجات ثقافية مركبة ليس فقط لأنها تملأ الفراغات التي قد توجد في التاريخ المكتوب، ولكن لأنها تجمع بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، وبين الخبرات الماضية والأوضاع الراهنة والتمثيل الثقافي للماضي والحاضر· وبكلمات أخرى، فإن الشهادات الشفهية تتأثر بالممارسة وبالألفاظ المتداولة في الوقت الحاضر، رغم ظهورها بالانتماء لزمنها الماضي· وقد أسفرت التغيرات التكنولوجية والاقتصادية في القرن العشرين عن تراجع كيفي في الوثائق الورقية، وكنتيجة للتنوع في أشكال المواد الشفهية كان لابد للمهنة الأرشيفية أن تتضمن قواعد صارمة للانتقاء والتقييم، فالأرشيفيون اليوم ليسوا مجرد حفظة محايدين للوثائق، ولكن لابد لهم من تدبير معايير انتقاء دقيقة·· بمعنى آخر لابد لهم من ''بناء'' أرشيف ''شفهي'' وتقرير ما سيحفظ فيه وتعيين ما سيتم إعدامه أو التخلص منه، وما يلزم إنتاجه أيضاً، وينبغي أن يكون الأرشيفي واعياً بطرق حفظ وتداول وتقييم الشهادات الشفهية لإدخالها في مكانها في ترتيبها الأرشيفي، وعليه أن يقرّ ما يضم إلى المجموعات، وأعمال إعداد ما قبل وأثناء المقابلات الشخصية، وتعيين ما يحتاجه في أعمال الفهرسة والتصنيف، وما المواد التي سيتم نسخها، وإمكانية الربط بين الفهرس والنسخة والتسجيل الصوتي، وما الذي سيحفظ وكيف، ومن المسؤول عن الملفات الصوتية؟··· الخ، وبمعنى آخر فإن الأرشيفي سيقوم بمهامه ولكن مع مادة وثائقية أصيلة ومتفردة وغير معتادة تتطلب منه الخروج بأفقه الأرشيفي إلى آفاق أكثر رحابة من الأعمال التقليدية المعتادة، فالحال هنا هو تأسيس تراث وثائقي متكامل، تظهر من خلاله العناصر المنسية في التاريخ وتكتمل ثغرات الوثائق المكتوبة في المستودع الأرشيفي، الذي سيتحوّل إلى مركز توثيق لمشروعات كتابة التاريخ الشفهي· شروحات وتعريفات يعتبر الأدب الشعبي فرع من فروع التراث الشعبي، وهو الفرع الأقوى لأنه حارس الفروع الأخرى والمهيمن عليها والمتحدث بلسانها· فمنذ البدايات الأولى للاهتمام بالتراث كانت تلك الهيمنة للأدب حتى ان التراث الشعبي ذاته كان يسميه بعض المهتمين أدباً شعبياً، الى أن شاع علم الفولكلور، وهو المدرسة المتخصصة في التراث، والتي قسّمت التراث الى أربعة أقسام رئيسية أحدها الأدب الشعبي، أما الأخرى فهي العادات والتقاليد والمعارف الشعبية، الثقافة المادية، المأثور الصوتي والحركي· بعد التقسيم سالف الذكر أخذ الأدب الشعبي في الأنحسار بعض الشيء ،خصوصاً بعد زيادة الاهتمام بالفروع الأخرى للتراث، وعلى الأخص الثقافة المادية والمأثور الصوتي والحركي، لما يمثلانه من ثقافة ملموسة وسريعة التذوق والإبهار عكس الأدب الذي يعتمد على المشافهة في العرض والنقل· في العقد الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الجديد تشكلت الكثير من اللجان في منظمة اليونسكو لإيجاد صيغة ملائمة للتعامل مع تراث الشعوب وتوسيع التلاحم الإنساني من خلال ثقافاتها المختلفة وتراثها المنوع، واعتمد على نعت هذا الجنس الثقافي بـ ''التراث الثقافي'' وتقسيمه إلى فرعين رئيسيين كما أسلفنا، هما: التراث المادي، والتراث غير المادي· يندرج تحت المادي المنقول وغير المنقول منه، وتحت غير المادي تندرج أربعة فروع رئيسية، هي: التعبير الشفهي، فنون الأداء، الممارسات الاجتماعية والطقوس والحفلات والأعياد، المعارف والممارسات المرتبطة بالطبيعة· وقد روعي في تعريف التراث غير المادي والمصطلحات الدالة عليه عنصران أساسيان، هما: أن يكون له طابع الاستمرارية والخلق، وأن يكون متخيّلا، ومتجاوزا في تعبيره عن كل ماهو يومي وعادي· وهذا المنهج يختلف قليلا عن نظرة الفولكلوريين للتراث، فالتركيز هنا يأتي في مصلحة التراث الشفهي أي غير المادي وهي المدرسة التي تنعت التراث برمته بالأدب الشعبيى· وهو مربط الفرس في هذا الطرح الذي يبيّن أن الأصل في التراث هو الكلمة التي تشكل روح الأدب الشعبي الذي ينتقل عبر المشافهة ويتقولب باللامادية· وهذا الأدب الشعبي الشفهي هو تعبير جماعي عن تجربة إنسانية من منظور جمعي ''يتوسّل بجماليات اللغة''، وينقسم الى قسمين رئيسيين: مرسل وموزون· 1 ـ المرسل: أساطير، حكايات شعبية، حكايات خرافية، سير، ملاحم، أمثال، ألغاز، عبارات دارجة، كنايات شعبية، معضلات لسانية· 2 ـ الموزون: شعر شعبي، أراجيز، أهازيج، مواويل ''زهيريات''، أغاني العمل، حكايات مغناة ''خريريفات''· المصدر الشعري إن أول مايجب أن نهتم به ونفرد له مجالا أوسع في البحث والتقصي ثم بالتدوين والشرح هو الكلمات الواردة في الشعر الشفهي، أو مايسمى بالشعر النبطي (أو البدوي، الشعبي)، وهي كلمات حسب اطلاعنا لاتحصى مازالت مع ذلك مبعثرة في بطون الكتب والدواوين المطبوعة فقط، هذا فيما لو وجدنا لها شروحا في الهوامش، سواء قام الشاعر نفسه بشرح معاني الكلمات الواردة في قصائده، أو المحقق أو المعد لذلك الديوان، وقد يمثل هذا المدون (المطبوع) نسبة قليلة جداً أمام المحفوظ في صدور الرواة والشعراء، لذلك نحن ندعو الى بحث ميداني موسع أكثر للبحث عن شروح معان لكلمات أكثر، ثم الكلمات الواردة في مايسمى بـ (سالفة القصيدة)، أو السبب الذي قيلت من أجله هذه القصيدة، أي سبب نظمها من قبل الشاعر· ويشير الدكتور سعد العبدالله الصويان في كتابه ''جمع المأثورات الشفهية'' أن من الأشياء التي يمكن أن نتفحصها أيضا في الإطار الأدائي الشفهي هو فهم العلاقة التي تربط الراوي أو الشاعر بالمستمعين، وكذلك مدى ثبوت النص من خلال الرواية الشفهية وبالتالي ملاحقة معاني المفردات المستخدمة بمختلف الروايات، وماهي العوامل التي تتحكم في هذا التغير، ومادور البعد الزماني والمكاني في ذلك· وكل ذلك سيساعدنا على استنباط معايير نقدية تتلائم مع الطبيعة الأدبية والوظيفة الأجتماعية والنفسية لنوع واحد من أنواع الفنون القولية وهو الشعر النبطي· كذلك نصبو من خلال هذا البحث، الى إيجاد تصور شامل للمحيط الحضاري والاجتماعي والسياسي الذي نشأت في هذه الفنون القولية الشفهية على اختلاف أنواعها، ولو أخذنا الشعر النبطي نموذجا للبحث، فمن خلال وجود الرواة معنا خلال عملية التسجيل سيمكننا من جمع المعلومات الضرورية عن حياة الشعراء المشهورين، وظروفهم المعيشية، ليس فقط للتعرف على مصادر إلهامهم، بل أيضا للتعرف على مكانتهم الاجتماعية والدور الذي يلعبونه في تحريك الأحداث السياسية والاجتماعية· وفي رأينا أن عملية جمع ماتناثر من معاني كلمات وردت في سياق فن من الفنون القولية من شعر نبطي، أوحكاية شعبية (خروفة أو خاروفة)، أوسير شعبية، أو ألغاز، أو في سياق فن من فنون حركية أدائية خاصة الرقصات الشعبية سواء ما اختص منها بالبادية أو البحر، وأمثال شعبية وغيرها من الفنون الشفاهية، باتت عملية جمعها وتدوينها في معجم واحد يجمع شتات جلّها ولانقول كلها وتقديم نماذج منها، هي عملية إنقاذ مايمكن انقاذه قبل أن تفوت الفرصة ويضيع كل شيء· ولايكفي أن تكون مبعثرة في بطون (بعض) ماطبع من دواوين منشورة، أو كتب ومراجع تعني بمختلف فروع تلك الفنون القولية الشفاهية، يجهد الباحث نفسه ويضيع الكثير من وقته في البحث عنها في مصادر عديدة قد لاتتوفر له· لذلك نأمل أن يكون هذا المعجم مصدرا جامعا من المصادر التي تفيد الباحثين في التراث والثقافة الشعبية، يمكن أن يجدوا فيه كل مايخص الفنون الشفاهية الشعبية، من تعريفات لمصطلحات تتعلق بمختلف جوانب تلك الفنون، وشروحات وافية لكلمات قد ترد في قصيدة نبطية، أو في متن حكاية شعبية، أو مثل أو لغز أو ما الى ذلك من فنون تنحصر في المجال الثقافي الشعبي الشفاهي تحديدا· إن الآداب الشفهية الشعبية التي تستقي مواضيعها من حوادث التاريخ، وقيم المجتمع، وممارسات الناس اليومية ومعاناتهم، تعتبر ثروة أدبية ضخمة، وظاهرة من ظواهر الأدب الشعبي الفريدة من نوعها التي تخص مجتمع الجزيرة العربية دون غيره من المجتمعات الأخرى· فهي فنون فريدة في شكلها ومضمونها، كما أنها فريدة في وظيفتها الأجتماعية ومكانتها الأدبية· لذا فهي تعتبر مصدرا مهما لايمكن التغاضي عنه لمن يزمع القيام بدراسة جدية ومتمعنة لجغرافية الجزيرة العربية، وتاريخ سكانها من حاضرة وبادية، وتاريخ الأحلاف والهجرات القبيلية، وأنساب القبائل، ولهجاتها، ومواطنها، اضافة لما تقدمه هذه الفنون من مصادر لدراسة الأحوال السياسية والاجتماعية لمجتمعات الجزيرة العربية في فترات تاريخية مهمة مثل فترة ماقبل اكتشاف البترول· ونحن نعلم أن عناية الغرب بهذا النوع من المعاجم المتخصصة بالثقافة الشعبية قديم، وقد صدرت العديد من المعاجم المتخصصة في نوع معين من أنواع الفنون القولية كاللهجات مثلا، فقبل سنوات قليلة صدرت في ألمانيا أطروحة دكتوراه لباحثة ألمانية تحت عنوان ''اللسان الحلو'' وهي عبارة عن رصد لعبارات التهنئة والعزاء وغيرها في حي من أحياء مدينة دمشق· كما أصدر المعهد الأميركي للدراسات اليمنية في صنعاء عام 1997م، مجموعة من الدراسات الأنثروبولوجية المترجمة المهمة، وهي جزء من بحوث متعلقة باليمن ومنشورة باللغتين الانجليزية والفرنسية قام المعهد بترجمتها ونشرها في سلسلة من الإصدارات، حيث احتوى الكتاب على عرض لاثنتي عشرة دراسة أنثروبولوجية تناولت نواحي مختلفة من الحياة الاجتماعية والثقافية في اليمن، كان للثقافة الشفاهية منها نصيب حيث قدم ستيفن كيتون دراسة بعنوان ''سلام وتحية: دلالات صيغ التحية في مرتفعات اليمن'' وهي دراسة تعالج كيفية إعادة إنتاج الأدوار الاجتماعية من خلال الحدث الكلامي· حيث ركزت الدراسة على صيغ التحية باعتبارها مقدمة للتفاعل الاجتماعي، واعتبار أن الحدث الكلامي لايعكس أو يعبر عن الشخص فحسب بل يخلقه أثناء التفاعل الاجتماعي، وكيف يتم تشكيل تلك الشخصية من خلال صيغ التحية· إن شخصيات أدبية مشهورة في العالم قد حققت شهرتها العالمية من خلال إغراقها في المحلية ومعالجتها لخصوصيات مجتمعاتها· نذكر هنا الكاتب الداغستاني الشهير والشاعر رسول حمزاتوف وكتابه ''داغستان بلدي'' الذي أصبح أدباً عالمياً ترجم إلى العديد من اللغات· وتأتي أهميته بالدرجة الأولى من خلال إغراقه في الخصوصية، حيث عالج حمزاتوف أموراً يومية عادية تجري في قريته الصغيرة التي لم يسمع بها أحد قبل صدور كتابه عنها، والآن أصبحت معروفة على المستوى العالمي· وفي تراث الشعوب جوانب عديدة تنتظر من يبحث بها ويبعث فيها الحياة من أجل إغناء التنوع الثقافي العالمي وكسر الاحتكار الثقافي الذي تمارسه القوى التي تفرض ثقافاتها على العالم أجمع aalsanjari@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©