الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن رشد حلقة وصل عقلانية بين الفلسفة والشريعة

14 سبتمبر 2008 02:05
يتجلى اسهام ابن رشد التجديدي في دعم الحركة العقلية في الإسلام، كونه طالب بتحكيم العقل، ولم يعني ذلك بأي حال من الأحوال رفض التعاليم الدينية أو التقليل من شأنها ليس فقط على المستوى النظري، بل وأيضاً على المستويين العملي والتطبيقي· ويشير محمد عابد الجابري في كتابه ''ابن رشد سيرة وفكر''، الى الدور التنويري البالغ لابن رشد الذي يعتبر أحد أهم أركان تاريخ الفلسفة الإسلامية، على الرغم من الجدل الكبير بشأنه، وتحديداً خلافه مع أحد أئمة الفقه، وهو الإمام أبو حامد الغزالي· وعلى الرغم من انتشار الجانب الفلسفي له، فإن لديه جانبا فقهيا لا يقل اهمية، فلم يترك ابن رشد الفقيه شاردة أو ورادة من النظم التي تحكم معاملات الناس في المجتمع إلا وتناولها بالشرح والتفسير بقصد الخروج بأحكام عامة تحكم تلك التعاملات· وليس من الإنصاف أن نقتطع جانباً من فكره ونهمل الجوانب الأخرى بناء على افتراضات أو أحكام مسبقة، على حد قول فرح أنطوان في كتابه ''ابن رشد وفلسفته'' والذي يشير الى ''ابن رشد الفيلسوف'' الذي هاجم الإمام الغزالي في كتابه ''تهافت التهافت'' مدافعاً عن العقل الإنساني، ورافضاً لكل إنقاص من دور العقل، هو نفسه الذي يقول تالياً في كتابه ''فصل المقال'': ''فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له''· بهذا يؤكد أنطوان، أن ابن رشد الفيلسوف لا يناقض ابن رشد الفقيه العالم، فالحقيقة لديه واحدة وإن كانت لها وجوه عّدة، وهو ما ميزه على كثيرين· فليس لديه حقيقة دينية يمكن التسليم بها تتناقض مع حقيقة فلسفية، لكونه لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أصلاً ما دامت الحقيقة واحدة· ويرى أنه إذا بدا أن هناك نصاً دينياً يفهم في ظاهره أنه يتعارض مع حقيقة عقلية، فيجب تأويل النص لإزالة ما قد يكون هناك من تعارض ظاهري، وقد ذهب إلى مثل ذلك العديد من المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم الإمام الغزالي نفسه· ولذا كان ابن رشد على اقتناع تام بعدم وجود أي تناقض بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، وقد دافع عن اقتناعه هذا بكل قوة، مما عرضه للغضب والنفي وحرق كتبه واتهامات مغرضة· ولم يشأ أن ينتقص من إحدى الحقيقتين لحساب الأخرى، ولذلك ظلت علاقة كل من الحقيقتين بالأخرى في فكره متزنة ترتفع فيها كل التناقضات· فالحكمة -كما يقول- ''صاحبة الشريعة والأخت الصغرى، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة ''· والى جانب الفلسفة والفقه، فإن ابن رشد عالم موسعي -على حد قول الجابري- فهو الفيلسوف والطبيب والفقيه الأندلسي، من أهم كتبه في الطب كتاب ''الكليات'' الذي حوى أول وصف علمي لوظيفة شبكة العين، وكان فيه أول من لاحظ أن من يصاب بالجدري لا يصاب به مرة ثانية· وبالكتاب أيضاً عرض واف لعلميّ التشريع ووظائف الأعضاء، غير أنه لم يصمد أمام منافسه كتاب ''القانون في الطب'' للعالم الفذ ابن سينا، وأهم كتبه الفقهيه ''بداية المجتهد''· وثمة حقيقة يؤكدها ماجد فخري في كتابه ''تاريخ الفلسفة الإسلامية'' لم يلفت إليه الكثيرين، هي بالرغم من كونه في كتبه الفقهية والفلسفية حرص ألا يُجابه الناس بكل ما يعرف، وعلى أن يعرض آراءه بصورة غير مباشرة، حتى لا يصدم مشاعر قومه· فقد هُوجم بما لم يهاجم به مفكر من قبله، وألصقت به تهمة الإلحاد، وأحرقت كتبه، واستنكر الناس منه قوله بقدم العالم وإنكار حشر الأجساد، وما ذهب إليه من أن الله تعالى لا يعلم عن الجزئيات أكثر مما يعمله الحاكم عن جزئيات تنفيذ مرؤوسيه لسياسته العليا· غير أن إنجازاته الفلسفية كانت في كتابين: شروح لأرسطو، وعطاء أصيل، كانت بمثابة عطاء لا ينضب لمن أتى بعده· وقد كانت شروح ابن رشد لأرسطو غنية بعطائه الفكري الخاص، غير أن له أيضاً إلى جانبها مساهمة أصلية من ميدان الفلسفة، وتحديداً فيما يتعلق بمشكلة العلاقة بينهما وبين الدين· وذلك في كتابين شهيرين هما: ''تهافت التهافت''، والذي ردّ فيه على كتاب الغزالي ''تهافت الفلاسفة''، و''فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال''· وفي هذين الكتابين دافع ابن رشد دفاعاً قوياً عن الفلسفة ضد تهمة الإلحاد، فهو لا يرى الفلسفة مختلفة في جوهرها عن الحقيقة كما بيّنها الأنبياء، وأن كان من الصعب أحياناً إيراد براهين فلسفية على بعض ما تذكره الديانات، كالقول بخلود الروح أو فكرة المعاد· كما أكد أن التراث الفكري الإغريقي لا يتعارض مع الإسلام، وأنه من الممكن التوفيق بينهما، قائلاً إن الحقيقة واحدة يمكن أن يتصورها الإنسان بصور مختلفة· ويرى عابد الجابري، أن ابن رشد حاول في كتابه ''فصل المقال'' أن يثبت وجود الله عن طريق السببية، إذ لا شيء يمكن أن يحدث دون مسبب، والأسباب جميعها تنتظم فتفضي إلى العلة الأولى وهي منشئ الكون، أو العلة الخّلاقة المتحركة التي تتجدد تلقائياً نتيجة للتغيرات التي تطرأ لحظة بعد لحظة· وهي فكرة مهدت السبل أمام نظرية النشوء والتطور، وإن كان فقهاء المسلمين قد رأوها تتعارض بشكل كبير مع الآية الكريمة كن فيكون· وفق العديد من المؤرخين المحدثين الذي حاولوا إنصاف الرجل كما حاول الجابري، فإن تجديد ابن رشد كان له جناحان: جناح ديني وآخر فلسفي·· وكما أن الطائر لا يستطيع أن يطير بجناح واحد، فكذلك تجديد ابن رشد لا يجوز أن يفهم فهماً أحادياً· فكلا التنوير العقلي والديني مطلوب·· وأن كلاً منهما مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالآخر، وأن نجاح أي منهما في عالمنا الإسلامي متوقف على نجاح الآخر· ويضيف الجابري، أن تنوير وتجدد ابن رشد كان يختلف في أهدافه ووسائله عن ذلك الذي ساد المجتمع الأوروبي بدءا من القرن السادس عشر، ليس لاختلاف الظروف والملابسات التي سادت البيئتين العربية والأوروبية في كلا التطورين فحسب، بل أيضاً لاختلاف الغاية منهما· فالتنوير الأوروبي اتخذ طريق العقل بعيداً عن الدين، فيما انصهر الدين في بوتقة العقل عند ابن رشد، في تآخ منقطع النظير· وقد ساعدت العقيدة الإسلامية ابن رشد علي اتخاذ هذا الموقف· ولذا وجدناه يدعو كما يقول الجابري إلى أن·· ''العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدنية الجديدة''· ولذا نجد ابن رشد يدعو إلى موقف منفتح على ثقافات الآخرين، فالحكمة عنده ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، ومن هنا يبيّن ابن رشد أن واجب الاطلاع على تراث الآخرين واجب شرعي ما دام الهدف يقصد به ذات المقاصد التي حثنا عليه الشرع الحكيم، وهي النظر العقلي في الموجودات وطلب معرفتها· ؟ ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©