السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تأملات في أرض متلاشية

تأملات في أرض متلاشية
29 يناير 2009 03:26
بين روابي رام الله وسهولها ودروب أريحا وبساتينها طبيعة برية خلابة، طالما اختزنت في ذاكرة أهل فلسطين ذكريات جميلة لزمن حنون· كان المشي فوق تراب الوطن آمنا، والهواء الذي يداعب أشجاره حرا، والعيون التي تحتضن فضاءه باسمة وادعة· اليوم·· لم يعد لهذه الصورة وجود حتى في الخيال· فلقد طمس الإسفلت الأسود معالم العشب الأخضر، وحلت المستوطنات الأسمنتية محل القرى والبيارات الفلسطينية، واختنقت السرحات والنزهات بالحواجز المسلحة والأسلاك الشائكة· كانت هنا ربوة عليها أثر قديم سويت بالأرض، وكانت هناك أشجار ليمون وزيتون عطشت واقتلعت من جذورها، أما هنا فكان بيت جارنا وسور مدرستنا وبئر تروي قريتنا ومئذنة تجمعنا على الفلاح·· قتل الجار وُهدمت المدرسة وُردم البئر وصمتت المئذنة· إذ أردت أن ترى السياسة تمتزج بالتاريخ، والأسفار تعانق الذكريات، والجغرافيا تحتضن الحكايات في مزيج سحري فريد فإليك هذا الكتاب· ''سرحات فلسطينية·· غزوات في أرض متلاشية'' والذي صدر باللغة الإنجليزية في يونيو 2008 للمحامي الفلسطيني الناشط في مجال حقوق الإنسان رجاء شحاده· إذ يستعرض شحاده في لغة أدبية رقيقة ونبرة واعية هادئة حجم التغيرات التي طرأت على المعالم الطبيعية والجغرافية والسكانية والمعيشية للضفة الغربية تحت وطأة الاحتلال الصهيوني· ويروي ذكرياته من خلال جولات تأمل للطبيعة قام بها بين قرى رام الله وأريحا على مدى 25 عاما معبرا عن مشاهداته ودلالاتها السياسية ومعانيها التاريخية ومبينا ملامح الأراضي الفلسطينية التي يتعمد الاحتلال محو هويتها يوما بعد يوم· سرحات·· وحسرات ويضم الكتاب ست سرحات في ربوع الضفة الغربية· وكلمة سرحة في الثقافة الفلسطينية هي تعبير فلاحي أصيل يعني الخروج في نزهة حرة لا يحدها وقت أو مكان· هي تمشية تحت الندى في ساعات الصباح الباكر سيرا على الأقدام وسط الطبيعة والحقول بهدف التدبر والتفكر· ونجد الكاتب يصر على استخدام هذه الكلمة في كتابه الصادر بالإنجليزية تأكيدا على تمسكه بالثقافة الفلسطينية ورغبته في إيصال مفهوم التأمل أثناء المشي· وهو ما جعل القارئ يدرك صعوبة العيش في ربوع وطن تتلوى فيه الأسلاك الشائكة فوق الأشجار، وتتكاثر فيه نقاط التفتيش على الطرقات، وتعلو فيه أسوار الفصل العنصري فوق المدن، وتتمدد فيه أذرع الحواجز المسلحة بين البيوت! في مقدمة كتابه يستعرض رجا شحاده صورة تاريخية لطبيعة فلسطين كما رسمها الرحالة والأدباء الذين زاروا الأرض المقدسة قبل القرن التاسع عشر، ومن بينهم الأديب الأميركي مارك توينبي والرحالة العربي المقريزي· وكان شحاده أمينا في نقل انطباعاتهم ومشاهداتهم الإيجابي منها والسلبي· ثم ينقلنا بانسيابية إلى تأملاته هو عن ملامح الطبيعة الفلسطينية التي عاصرها وعايشها قبل أن تنهشها أسنان الجرافات الإسرائيلية· ويأخذنا شحاده في رحلة ثقافية إلى عمق الطبيعة الجغرافية للضفة الغربية، تكاد تنطق فيها الكلمات بالتداخل المذهل بين هذه الأرض وشعبها، بين تاريخها وتضاريسها، بين من يعانون فوق أرضها اليوم ومن نعموا بالعيش فيها قبل آلاف السنين· وفي النزهة الأولى يصف لنا الطبيعة الساحرة في قريته ''قصر'' القريبة من مدينة رام الله· كان المشهد ثريا فهناك نبتات الزعتر والزنبق وشقائق النعمان، أشجار السمر والجميز والزيتون والبرتقال، قطعان الغنم والغزلان والخيول، سماء رحبة تلامس أفقا مخمليا أخضر، وديان وسهول وروابي وسلاسل حجرية، قرى بيوتها متراصة في تناسق مع الانحناءات الطبيعية للأرض، صوت مزامير الرعاة تصدح في الصباح وسمرات الشعر والأهازيج تؤنس ساعات المساء· جماليات القبح ثم يصدمنا شحاده بضوء يسلطه فجأة على جماليات القبح التي فرضتها هندسة الهيمنة والاستحواذ الإسرائيلي على الطبيعة الفلسطينية· فمن خلال شهادات يختزنها أفراد عائلته في ذاكرتهم يحكي لنا عن أحد أقربائه الذي اعتاد أن يمشي في ربوع قريته ويتأمل دروبها ويخيم في آثار قصر حجري قديم يعلو ربوة خضراء زاخرة بالحياة البرية· لكنه اليوم يستلهم هذه الصورة من بقايا ذاكرته· فلقد تغيرت معالم المنطقة وتحولت التلة البرية الجميلة إلى مستوطنة إسرائيلية أسمنتية تدعى ''دوليب''· شيدت عنوة فوق بيوت القرية ومزارعها فطمست معالم البراري واختفت الأشجار والأحجار والبيوت والبشر· وكذلك حدث مع كل القرى الممتدة بين رام الله وأريحا· فالمخطط الاستيطاني التوسعي مزق القرى دون رحمة وقطع أوصال أهلها وطمس معالم طبيعتها· مخطط وضعه الكيان الصهيوني منذ عام 1948 لتشويه وتدمير معالم الحياة الحضارية والإنسانية والحيوانية والنباتية في فلسطين وطمس كل أثر للذاكرة الجماعية الواعية للشعب الفلسطيني· ورغم تلك المحاولات الصهيونية القاسية إلا أن الكتاب يحدثنا عن مدى ارتباط الفلسطينيين بأرضهم واستماتتهم في الدفاع عنها· ويقول ستظل أصغر زيتونة في فلسطين أكثر تجذراً من أكبر مستوطنة تجثم على أرضنا· فالمحامي رجا شحاده يحكي عن تجربته الطويلة في الدفاع عن مزارع الفلسطينيين ودورهم ضد قرارات المصادرة والهدم الإسرائيلية· وينقل لنا مرارة شعوره بالفشل أمام الهيئات القضائية الإسرائيلية التي تغلب القوة على الحق والعدوان على القانون· ويبدي شحاده تخوفه من وجود جيل جديد من المستوطنين يعثون في الأرض فسادا على هذه التلال ويزيدون حياة سكانها تعقيدا· وعلى امتداد فصول الكتاب تتوالى السرحات الست· ويستشعر القارئ التفاصيل التي ينثرها الكاتب في كل الزوايا وكأنه قادر على لمسها وحسها· وهي قدرة متفردة على السرد تعكس مدى اندماج رجا شحاده مع مفردات بيئته حتى التوحد· إذ لم ينفصل شحاده يوما عن بيئته الفلسطينية· فباستثناء سفره لدراسة القانون في بريطانيا لم يبرح رام الله فهو لا يزال يعيش ويعمل ويناضل فيها· فهو محام لامع اشتهر بمرافعاته في قضايا الفلسطينيين ضد الممارسات الظالمة للسلطات الإسرائيلية بمصادرة أراضيهم وبيوتهم· وهو أحد مؤسسي منظمة ''الحق'' للدفاع عن حقوق الإنسان المنبثقة عن اللجنة الدولية للقانونيين· وهو أديب وروائي نشرت له روايتين هما ''عندما توقف البلبل عن الغناء'' و''غرباء في البيت'' بالإضافة إلى كتب عديدة عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط· ولقد استطاع شحاده أن يستخدم وعيه القانوني بأهمية الدفاع عن الواقع الفلسطيني وحسه الوطني بحماية البيئة الفلسطينية المهددة بالتلاشي والزوال في وضع لبنة جديدة في جدار الصمود الفلسطيني من خلال التأريخ للتغيرات التي تطرأ على الطبيعة الفلسطينية والحفاظ على الذاكرة الراصدة للأراضي الفلسطينية الجميلة قبل أن يطمسها الاحتلال·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©