الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السنغال: درس ديمقراطي من الجنوب

18 ابريل 2012
منذ بداية الحراك العربي، يُثار الحديث حول أصدائه في أفريقيا، فهل يا ترى يمكن أن يكون الدرس الديمقراطي السنغالي من عمق القارة السمراء مناسبة لهذا الصدى؟ السنغال دولة في غرب أفريقيا تتسم بتعددية عرقية ولغوية ودينية، فالمجتمع السنغالي ذو بنية اجتماعية متنوعة اللغات والأجناس مع اختلاف معتقداتهم الدينية، إلا أن هذه الاختلافات لم تمنعه من تحقيق المصلحة الوطنية للجمهورية السنغالية، بعيداً عن حسابات السياسيين كما هو حال بعض الدول (لبنان، البحرين،…). درس ديمقراطي أو بالأصح منجز تاريخي تمكن السنغاليون من تحقيقه في غضون شهري (فبراير ومارس الماضيين)، من غير "ربيع" كالذي عاشته تونس ومصر واليمن، ولا تدخل أجنبي كما كان حال ليبيا، ولا حرب أهلية وجلسات الأمم المتحدة ومؤتمرات صديقة، كالتي يعيش على إيقاعاتها الشعب السوري حالياً. لقد تمكنت قيم المواطنة من غرس جذورها في التربة السنغالية، بعدما تنسم السنغاليون نسائم الحرية إبان خروج المستعمر الفرنسي، فصاروا من أشرس من يذود عن هذه النسائم. ففي قارة تعاني من العنف العرقي والسياسي الذي يكون ملاذاً لحل كل الخلافات، ما انفكت السنغال تقدم نموذجاً متفرداً من زاوية إيجابية للغاية عكس السائد في هذه القارة. شرع النظام الحاكم -بعد فترة ما بعد الاستقلال المضطربة- ابتداء من السبعينيات بالتحرر تدريجياً على المستويين السياسي والاقتصادي، بقيادة الرئيس الشاعر "ليوبولد سيدار سنجور"، فقد وجدت التعددية الحزبية فضاءات حرة مكنت "عبدو ضيوف" من تقديم نفسه كزعيم للمعارضة وقوة بديلة ذات مصداقية. تخلى "سنجور" الرئيس الشاعر عن السلطة في سنة 1980 قبل انتهاء فترة ولايته، تولى زعيم المعارضة عبدو ضيوف الحكم في البلاد لعقدين من الزمن، تخللتهما فترات متناوبة من الانفتاح الديمقراطي البطيء. تخلى عبدو ضيوف بدوره سنة 2000 عن منصبه لخصمه القديم عبدالله واد، في ما وُصف آنذاك بواحدة من أولى الانتخابات الحرة والنزيهة في غرب أفريقيا. لقد مكنت هذه الانتخابات السنغاليين من تقديم درس في "الديمقراطية الناشئة"، في وقت كانت فيه ساحل العاج تغرق في أزمة ما بعد "هوفويت بوانيي". عزم "عبد الله واد" القطع مع هذا المسار الديمقراطي، بخوضه غمار الانتخابات لولاية ثالثة، متحدياً القواعد الديمقراطية استعداداً لتوريث ابنه. غير أن إرادة الشعب السنغالي كانت أقوى منه حين منحت أصواتها لرئيس الوزراء الأسبق "ماكي سال"، في عرس ديمقراطي متفرد قادته جبهة عريضة تضم كل أطياف المعارضة (ليبراليين، اشتراكيين و ماركسيين) ومكونات المجتمع المدني، أطلقت على نفسها اسم حركة 23 يونيو، التي ضمت كل المرشحين الذين انهزموا في الدورة الأولى من الرئاسيات، والذين دعوا للتصويت لصالح "ماكي سال" ضد "عبدالله واد".‏ جبهة توفقت في إنجاح هذا الدرس الديمقراطي الناشئ، أمام أعين جارتها الشمالية مالي التي تغرق في إحدى حلقات المسلسل الانقلابي الأفريقي ذي المصير المجهول. هذه الديمقراطية الناشئة كانت من وراء بقاء السنغال من الدول القلائل في القارة السمراء التي لم تعرف في تاريخها انقلاباً عسكرياً واحداً. هي ذاتها التي أتاحت هامشاً كبيراً من حرية التعبير التي جعلت البلد يفتخر بصحفه المستقلة والساخرة، التي بوأته المرتبة 47 في حرية الصحافة وفقاً لتصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود". إن مقومات نجاح التجربة السياسية السنغالية ذاتياً بامتياز قياساً بتجارب جيرانها "الفاشلة" (موريتانيا، ساحل العاج، مالي وكينيا) القائم على قاعدة القهر والاستبداد والقمع ومصادرة الحريات والاستئثار بالسلطة وتغييب مشاريع التنمية كلياً. تجربة أحاطت نفسها بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات والتنوع الذي يعرفه المجتمع السنغالي بغية ضمان نجاحها. تجربة حرص روادها على توظيف العوامل الداخلية لصالح بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على إحقاق مواطنة كاملة لمختلف مكونات المجتمع السنغالي لا لخدمة مصالح أقلية معينة. ولا شك أن حُسن توظيف هذه الخصوصيات، قد مكّن الشعب السنغالي من تجاوز بعض الحواجز (قضايا الإثنية، الهوية والجهوية)، التي لا تزال تنخر النسيج الاجتماعي لدول غرب أفريقيا. هذا دون تجاوز معطى جوهري عزز هذه التجربة يكمن في حياد المؤسسة العسكرية عن السجال السياسي، حيث ظلت تمارس وظائفها الدستورية رافعة شعار الشعب مصدر كل السلطات. لاشك أن دولة السنغال ليست بالنموذج المثالي للديمقراطية، فكل ما سلف لا يعدو أن يكون سوى الحصة الأولى من سلسلة دروس الديمقراطية الطويلة الأمد والعسيرة المخاض التي تنتظر السنغاليين حكومة وشعباً. بيد أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة كما ورد في الأثر، خطوة تكشف عن تباشير نموذج رائد يلوح في الأفق يلزم فقط مواكبته بما يضمن له الاستمرارية من جهة. ومن جهة أخرى ينبغي الاهتمام بالجانب الاقتصادي، الذي يعد أكبر ضمان لبقاء ونجاح هذا المسلسل الشائك والشاق. فلا ريب أن إقامة قواعد تؤسس للمبادرة الحرة وتكرس الشفافية ومبادئ المنافسة تفتح أفاقاً كبيرة لانخراط البلاد في اقتصاد السوق الذي يضمن تنمية مستدامة تواكب متطلبات التحول الديمقراطي. محمد طيفوري باحث مغربي ينشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©