الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بينما القاهرة تحترق...»

18 ابريل 2012
رمزية هذا العنوان تعود بنا إلى أيام الإمبراطورية الرومانية منذ 3000 عام، وكما يوضح المقال قد يكون احتراق القاهرة اليوم مجازاً. لكن جاء اختيار هذا العنوان المثير والمؤلم في نفس الوقت قبل أكثر من أسبوع من الحريق الذي نشب في مصافي تكرير البترول في السويس، وكان من سوء حظي أن أكون بالصدفة على بعد 34 كيلو متراً من السويس ورأيت في السماء أعمدة الدخان التي تتصاعد، ثم مع عودتي إلى القاهرة عرفت أن الخسائر المبدئية هي قتيل و24 جريحاً وحوالي 12 مليون دولار ... وهو فعلاً تقدير مبدئي، ولكن حريق السويس جعلني أخشى أكثر على القاهرة. عنوان المقال قبل حدوث حريق السويس يُشير إلى القصة المعروفة عن نيرون أيام الإمبراطورية الرومانية كانت عاصمة الإمبراطورية - روما - تحترق فعلاً بينما الإمبراطور وحاشيته في عالم آخر من السفسطة والجدل واللهو غير واعين أو عابئين بأن تأخير كل دقيقة في الحسم تعني مزيداً من تدمير روما تحت وطأة النيران، وبالتالي أصبح تعبير "بينما روما تحترق..." رمزاً لاختلال أولويات النخبة وحتى عدم تحمل مسؤولية الدفاع عن الصالح العام والذي قد يصل إلى حد الخيانة. أصبح هذا القول ومغزاه يتنقل معنا من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر ليتحدى بذلك محددات الجغرافيا والمكان، وقيود التاريخ والزمان، وبالتالي فهو يصلح لفك طلاسم ما يحدث في مصر الآن، وحتى قد يرشدنا إلى تشريح أي مرحلة انتقالية وكيفية الخروج منها - من تونس إلى ليبيا أو اليمن أو حتى سوريا بعد نهاية حربها الأهلية. رسمياً تعيش مصر مرحلتها الإنتقالية منذ أربعة عشر شهراً الآن، أي منذ تنحي الرئيس السابق مبارك رسمياً في 11 فبراير 2011، كلنا يتذكر هذا اليوم، حيث اعتقد المفرطون في التفاؤل -أو عن جهل بالتاريخ - أن كل مشاكل مصر ستُحل بين ليلة وضحاها. ولم يكن هذا ممكناً. وهكذا أصبح هذا الإفراط في التفاؤل أول فخ في المرحلة الانتقالية، لأنه كان من الطبيعي أن يعقب هذا الإفراط خيبة الأمل، بل تزداد خيبة الأمل مع مرور الوقت دون حل المشاكل المستعجلة أو على الأقل منع تفاقمها. مسؤولية النخبة هنا أنها - رغم علمها بالحاجة إلى وقت لحل هذه المشاكل - لم تملك الشجاعة للاعتراف صراحة للجماهير بأن مشكلات الفساد والبطالة والتعليم ستأخذ وقتاً في إيجاد الحلول اللازمة. مشكلة النخبة - ثانياً - والتي تؤكد رمزية "بينما روما تحترق..." أنها بدلاً من أن تركز على دراسة هذه المشاكل الحياتية وإيجاد مخرج لها استهلكت كل إمكانياتها ووقتها في مشاكل جدلية تأخذ وقتاً حتى يتم حسمها، مثل المادة الثانية من الدستور الخاصة بدور الشريعة، دور الدين في المجتمع عامة، العلاقة بين المدنيين والعسكريين في إدارة شؤون الدولة .... هذه المشاكل بالطبع أساسية بالنسبة لتقنين الخروج من المرحلة الانتقالية وحتى تحديد مستقبل مصر. ولكنها مشاكل لا يمكن حسمها فوراً، بل إنها عوامل خلاف في داخل أطياف النخبة وكذلك المجتمع، وبالتالي لا تستطيع الجماهير انتظار حلها بينما مشاكل مثل أسعار المواد الغذائية الأساسية، أو نقص الوقود واختلال الأمن تتفاقم، وخطورة تفاقم هذه المشاكل لا يؤدي فقط إلى زيادة خيبة أمل الشارع في الثورة، ولكن يؤدي إلى فقدان ثقته بالثوار وقد ينفض عن صفوف الثورة، مما يضعفها ويترك الباب مفتوحاً للانقضاض عليها من جانب الثورة المضادة المتربصة. ومما يساعد نجاح الثورة المضادة هو - ثالثاً - تفكك النخبة الثورية الجديدة وعدم تمكنها من طرح أجندة موحدة تكون هداية وإرشاداً واقعيين وعمليين لكي تصل هذه المرحلة الانتقالية الحرجة إلى بر الأمان، فمثلاً بدأت مصر بمرحلتين للحوار الوطني، وهي البداية السليمة، ولكن معايير التطبيق من حيث اختيار المتحاورين وطريقة إجراء الحوار كانت مختلفة، وبالتالي أصبح الحوار الوطني خلافاً وطنياً. ثم جاء دور المؤسسات من المجلس الاستشاري إلى اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، وأيضاً شابها الخلل من حيث معايير الاختيار أو التوجه العام، وانتهى الأمر بأن استقال ما يقرب من نصف أعضاء المجلس الاستشاري، بينما قررت المحكمة الدستورية العليا بطلان معايير تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، ولتتوقف قبل أن تبدأ عملها. من الممكن الاستمرار في ذكر الأمثلة، ولكن النقطة المهمة هو بذل الجهد الجهيد في النقاش والجدل حول موضوعات ومؤسسات لها قيمتها ولكن دون حسم، بل بعد مزيد من الوقت والطاقة يعود المصريون إلى المربع الأول ونقطة البداية "وبينما القاهرة نفسها تحترق..." مجازاً الآن ولكن قد يتحول إلى واقع غداً. د.بهجت قرني أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية -القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©