السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ربيع مستنير

ربيع مستنير
29 يناير 2009 03:33
لدينا بيئتان عربيتان عرف شعرهما بالولع الحقيقي بتمثيل الطبيعة والشغف بصورها؛ البيئة الشامية والأندلسية، ومع أن الأولى أسبق زمنيًّا وأقرب مكانيًّا فإن الثانية التي اشتهرت بعشق الطبيعة، ربما لأن خصوصيتها مخالفة للأولى، ولن نجد لها على كل حال صدى في مختارات السريّ الرفاء المشرقي، فكل ما جمعه من هذه الدائرة يقع في الشام والعراق تقريبًا حتى منتصف القرن الرابع الهجري· ولعل الصنوبري الذي كان يلقب بشاعر الزَّهريات (342 هـ) والذي كان يحضر مجلس سيف الدولة بحلب أن يكون من أشهرهم، وهو يقدم لنا صورة عن تفاضل الفصول قبل أن يتغنى بالربيع في قوله: إن كان في الصيف ريحان وفاكهة فالأرض مُستَوقَدٌ والجو تَنوَّرُ وإن يكن في الخريف النخلُ مُخترِفًا فالأرض محسورة والجو مأسورُ وإن يكن في الشتاء الغيمُ متصلاً فالأرض عريانة والجو مَقْرور ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا جاء الربيع أتاك النَّوْر والنّـُور فالأرض ياقوتةٌ والجو لؤلؤة والنَّبْتُ فيروز والماء بلُّور الصيف موسم الفواكه وبعض الرياحين على ما فيه من لهب الحرّ الذي يجعل ''الأرض مستوقدًا والجو تنور''، أما الخريف فهو يخترق النخل أي ينضج ثمره، غير أن أرضه محصورة وجوه مأسور· والشتاء موسم الغيم الدائم تتعرّى فيه الأرض وجوه مفعم بالبرد والقدّ· حتى يصل إلى الربيع فيصفه بتلك الصفة الطريفة ''مستنير'' ليفصح عن اشتقاقها من ''النَّور'' وهو الزهر، ومن ''النُّور'' أيضًا بمعناه الحسي والمعنوي الذي نتكئ عليه الآن في هذه الصفة، عندئذ تصبح الأرض جوهرة من الياقوت والجو لؤلؤة والنبات فيروز والماء بلور· هنا تغلب القيمة المادية في المعادن الثمينة على حس الشاعر خضوعًا لما كان سائدًا في عصره من منطق التثمين والتسعير للطبيعة والإنسان أيضًا· ثم يكمل الشاعر لوحته الطبيعية الباذخة بإضافة عناصر جديدة إليها بقوله: لا تعدم الأرض كأسًا من سحائبه فالنبت ضربان: سكران ومخمورُ فيه جنى الورد منضود مُوَرَّدةٌ به المجالس، والمنثور منثـورُ هذا البنفسجُ، هذا الياسمين وذا النسرين، ذا سوسنٌ بالحسن مشهورُ حيث التفتَّ فقمْـرىٌّ وفاضته وبلبلٌ ووارشينٌ وزرْزُورُ تبارك الله ما أحلى الربيعَ فلا يغْرُزْ مقايسه بالحسن تغـريرُ يكتمل مهرجان الطبيعة بأزهاره وأطياره، وتنداح حالات الإنسان الذي تأخذه نشوة الجمال على كل الكائنات، فالأرض تشرب من كأس الربيع، ويترنح النبات سُكرًا بخمره، وتنتظم أنواع الورود والأزهار في مجالسه، من بنفسج وياسمين ونسرين وسوسن، أما الأطيار فهي التي تمنحه بعده الموسيقى حيث تتحول صحارى الربيع إلى حانات ودور، ولا ينسى الشاعر المفتون بالزهريات أن يهتف ''تبارك الله ما أحلى الربيع'' الذي لا يضاهيه جمال في الكون والخلق والطبيعة، فهل ما زال الربيع يوحي لنا بكل هذا البذخ الوصفي البديع؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©