الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بهجة النوستالجيا المتبخرة

بهجة النوستالجيا المتبخرة
19 ابريل 2012
47 فيلما كانت هي حصيلة الأعمال السينمائية التي حجزت لها مقعدا بارزا للمنافسة على جوائز مسابقة الأفلام الروائية القصيرة في مهرجان الخليج السينمائي الذي أقيم مؤخرا في دبي، وبدت هذه الأفلام في النسخة الخامسة من عمر المهرجان وكأنها تمثل روح الحدث ومطلبه الأساس من أجل صياغة حالة سينمائية زاهية ومتفاعلة مع حاجة المكان وانشغالاته، ومتوائمة أيضا مع رغبة السينمائيين الخليجيين أنفسهم في تقديم أفلام تتحدث عن رؤاهم وخيالاتهم وعن الهواجس الآنية لهذا المكان، وتستنطق ـ في سياق مواز ـ بهجة النوستالجيا المتبخرة، وملامح الماضي المحتشدة بالقصص البعيدة والمتوارية والضاجة كذلك بأصوات البشر الذين تركوا حكاياتهم ومضوا إلى المجهول، بينما بقت هذه الحكايات مثل إرث ذهبي ينتظر من ينقب عنها ويعيد تجسيدها من خلال كاميرات الديجيتال والوسائط البصرية الحديثة والمذهلة، والتي تحول من خلالها المحتوى السينمائي في المنطقة إلى عنصر إبداعي جديد بات يزاحم الفنون المجاورة التي وجدت لها أرضا صلبة وقاعدة ترسّخت خلال العقود الماضية مثل المسرح والتشكيل والدراما التلفزيونية وغيرها. أصبحت السينما في الإمارات والخليج الآن وبعد انتباهات فنية وإبداعية تراكمت في العشر سنوات الماضية، أشبه بمنصة بارزة للتعبير الجمالي والإنساني الأكثر حرية وانفتاحا وتمازجا مع لغة العصر ومع أنساقه البصرية المتطورة ، خصوصا وأن الإمكانات الهائلة لهذه اللغة الشفافة يمكن أن تخترق الحواجز والموانع الكثيرة التي كانت تعرقل طموح الفنون الأخرى وتحرمها من التواجد في مناسبات إقليمية ودولية عديدة. النضج التقني بدت الفعاليات المصاحبة والمسابقات الموازية في المهرجان وكأنها معدة ومبرمجة كي تخدم صناع الفيلم الروائي القصير سواء الطلاب منهم أو الهواة وحتى المحترفين والذين وجدوا في المناخ الحميمي والتثقيفي والتفاعلي للمهرجان، ما يمكن له أن يعوضهم الكثير من الجهد والتقصي والبحث عن منافذ وهويات ومعارف سينمائية مغايرة وناضجة ومتقدمة، تواصل السينمائيون الخليجيون مع هذه البيئة الإبداعية المشجعة وتلمسوها عن قرب من خلال برنامجي (أضواء) و(تقاطعات)، ومن خلال المسابقة الدولية للأفلام القصيرة ،ومسابقة السيناريو، وكذلك من خلال الورش التخصصية حول إعداد الممثل، بالإضافة إلى الندوات المفتوحة التي حملت عنوان ليالي الخليج، والتي طرحت عددا من الأسئلة الحاضرة والملحة والمهمة حول راهن ومستقبل صناعة السينما في الخليج. جاءت الأفلام القصيرة للمهرجان من اليمن والكويت والبحرين وعمان والإمارات والعراق، مع غياب غير مبرر للفيلم القطري، رغم مرور ثلاث سنوات على انطلاق مهرجان سينمائي كبير في قطر وهو مهرجان: (الدوحة ـ ترايبيكا) الذي كان مؤملا منه أن يخلق قاعدة مبشرة من صناع الفيلم القطريين، ولكن هذا لم يحدث للأسف، على الأقل حتى الآن. لجأت معظم الأفلام التي احتضنتها مسابقة الفيلم الروائي القصير بمهرجان الخليج إلى خيار السرد ببعده الدرامي مع تفاوت ملحوظ في طرق وتقنيات المعالجة البصرية والأساليب الإخراجية المعبرة عن مستويات هذا السرد، واتكأت أفلام أخرى قليلة في المسابقة على الأسلوب التسجيلي الصرف، وأسلوب المزج بين التسجيل والدراما (الدوكيودراما)، بالإضافة إلى أربعة أفلام لجأت لأسلوب التحريك (الأنيميشن)، واستخدام تقنية الأبعاد الثلاثية (فيلمي “الأسطورة”، و”انتظا”ر، وكلاهما من إنتاج شركة تو فور فيفتي فور في أبوظبي)، ولكن بدت هذه المحاولات الجديدة وكأنها تتلمس طريقها في مكان معتم لم يتم التعاطي معه بعد بشكل احترافي ومتواصل، كما هو الحال مع النمط الدرامي القياسي والمتعارف عليه في الفيلم الروائي القصير، ورغم التوهان الموضوعي والحماس المفرط لعرض القصة على حساب الصورة في عدد من أفلام المسابقة إلا أن أغلبها شهد نضجا تقنيا واضحا مقارنة بالدورات السابقة للمهرجان، كما أن الحلول الإخراجية اعتمدت على الترميز والإسقاط والتأويل، بينما ظل بعض المخرجين أسرى لأسلوبهم النمطي الذي شهدناه في الدورات السابقة من حيث الإصرار على اللغة الوعظية المباشرة، والتقطيع الزمني التراتبي الخالي من الإدهاش والتجريب واستثمار الطاقة الجمالية للصورة السينمائية، بكل إيقاعاتها وزواياها ودفقها التأثيري العميق على المتفرج. وهنا قراءة في بعض الأعمال التي احتضنتها مسابقة الأفلام الروائية القصيرة في المهرجان، ورغم الزخم العددي الملحوظ لهذه الأعمال، ورغم وجود أفلام كثيرة ملفتة ومتجاوزه في طريقة سردها ومعالجتها بصريا، إلا أننا أخترنا نماذج متفاوتة في قوتها وقيمتها الفنية حتى لا يتم الحكم عليها بشكل انتقائي بل مواز لأنماطها ومشاربها ومناهجها السينمائية المختلفة. اقتناص الدهشة في فيلم “دوربين” الذي يعني في اللهجة المحلية الإماراتية (المنظار المقرّب) قدمت المخرجة والفنانة التشكيلية الإماراتية منى العلي، عملا أقرب للفيديو آرت الذي يعد من الأساليب البصرية والتجريبية المعاصرة في عالم الفن التشكيلي، ولكن اعتماد الفيلم على الحكاية والإصرار على أخذ هذه الحكاية إلى منتهاها وخاتمتها، قلل كثيرا من البعد التشكيلي فيه، حيث يروي الفيلم قصة صبي يعاني من ضعف البصر ومن ضعف الشخصية أيضا، ما يجعله عرضة لمضايقات أطفال الحي الذي يسكنه، وعندما تتحطم نظارته في إحدى هذه المناوشات يلجأ لاستخدام منظار من الكرتون المقوى، ويفتح له هذا المنظار طاقة القدر والدهشة والسحر، فيبدأ في اكتشاف عالم مختلف ملئ بالألوان وكريات الزجاج الملونة التي تسقط من السماء مثل حبات بلورية لامعة، ويتحول هذا المنظار إلى صديقه الوحيد الذي يكتشف من خلالها مباهج الطبيعة الخافية والسرية المتضامنة مع أحلام اليقظة والمتجاوزة لقشرة الواقع الخشنة والضبابية والعدائية أيضا. في فيلم “نكرة” أو (لا أحد) يعالج المخرج السعودي عبدالرحمن العايل وبأسلوب سينمائي أخّاذ، قضية الأشخاص المهمشين والمنسيين في المجتمع، والذين يبقون دائما في الجانب المقصي واللامرئي من الحياة، ويجسد دور هذه الشخصية المهمّشة شاب يعيش على إحدى الجسور العالية في وسط المدينة، ولكنه لا يريد مغادرة مكانه، لأن لا شي ولا أحد بانتظاره في الأسفل، وعندما يقرر النزول والذهاب لأحد الاستوديوهات الشعبية من أجل التقاط صورة توثق لملامحه قبل أن يجرفها الزمن، نكتشف بعد تحميض الصورة عدم وجود شخص في الصورة، يقوم الشاب بعدها بتعليق نسخ من صورته الغائبة على أعمدة وجدران وحوائط المدينة إمعانا منه في تأكيد المتاهة التي يعيشها، والتي يتوجها بربط النسخة الأخيرة من الصورة الفارغة بحبل ورمي الحبل من الجسر الذي يسكنه، وكأن ثمة رغبة في الانتحار تتأجج في داخله، ولكن حتى هذه الرغبة التمردية والتدميرية، سيكون مصيرها غامضا، ولن تفضي لأية نتيجة، يتحدث الفيلم هنا اليأس العدمي والمطلق، ولكن طريقة التعبير عنه تبشر بولادة مخرج واع ومتمكن من الأدوات السينمائية التي يستخدمها بحنكة وخصوصية ورهافة. في الفيلم العراقي/ الكردي “بايسكل” أو (الدراجة) يعود بنا خرج رزكار حسين إلى عوالم الطفولة المحتشدة بالرغبات والصراعات التي تظل محاطة ببراءتها وحياديتها مقارنة بالصراعات البشعة والضارية في عالم الكبار، فعندما يحلم الطفل “هزار” باقتناء دراجة هوائية يكتشف أن المبالغ الزهيدة التي يجمعها من بيع المخلفات لن تكفيه لتغطية الثمن الباهظ للدراجة، ومع تواجد طفل جديد ويملك دراجة هوائية ثمينة في الحي، يحاول هزار الاقتراب من هذه الطفل الثري ومصادقته حتى يظفر بنصيب قليل من متعة القيادة، الطفل الثري بدوره يكشف عن جانبه الاستغلالي ويعامل (هزار) بحس متعال، ولكن تدخل الشقيق المعاق لهزار يضع حدا لهذا الاستغلال ويعيد لأطفال الحي كرامتهم وعفويتهم الذي سلبها هذا الطفل الغريب والشرير والجشع. استخدم مخرج فيلم “بايسكل” اللغة البصرية الشعرية المتلائمة مع البيئة الرعوية والجبلية المحيطة بالمكان ، ولجأ في أكثر من مشهد إلى اللقطات البانورامية الواسعة الأقرب إلى (السليلويد) حيث يتحول الأطفال في الخلفية المضيئة والشاسعة للأفق إلى ما يشبه الكائنات الخيالية المنبعثة للتو من صفحات القصص الخرافية الشيقة والمقاومة لصرامة الواقع وخشونته. الصدى السحري واتسم فيلم “خسوف” للمخرجين البحرينيين عبدالله السعدي وأحمد الفردان بجرأته وحساسية الموضوع الذي يطرحه ولكنه وقع في إشكالية التناقض بين أفكاره وبياناته الصارخة والمباشرة، وبين المعالجة الإخراجية التي اعتمدت التجريب والارتجال، وجاء الشكل العام للفيلم أقرب لمناخات المسرح خصوصا في الأداء الجسدي للممثلين، وفي الحوارات والمونولوجات المطولة والمسترسلة، والتي أثرت في النهاية على اللغة التعبيرية المكثفة والمقتصدة في السينما والتي لم يمتلكها فيلم “خسوف” رغم الحماس الفني الكبير الذي حمله معه، ولكن هذا الحماس ذهب إلى الحافة الخطرة وخسر الكثير من ألقه وتوهجه. في الفيلم الإماراتي “آمال” للمخرجة ناديا فارس، كان حجم الآمال والتوقعات لنجاح الفيلم أكبر من مما رأيناه مجسدا على الشاشة، وكان السبب في ذلك وجود خلل كبير في توصيف وتحديد طبيعة الشخصيات التي يتناولها الفيلم، فهي من جهة شريرة ومن جهة أخرى متصالحة مع أفكارها وطريقة تصرفها، كما أن مقولة الفيلم لم تكن واضحة فيما يخص بتشتت الهوية وازدواجها، ففي النصف الأول من زمن الفيلم اعتقدنا أن المخرجة تدين هذا الشتات الاجتماعي الذي تسبب فيه الأب (الفنان حبيب غلوم) عندما تزوج من أجنبية وترك ابنته تعيش لسنوات طويلة في أميركا (بلد والدتها) ولكن النصف الثاني من زمن الفيلم كان متحيزا وبشكل واضح للفكرة التي أدانها في البداية، خصوصا في القصة الأخرى الموازية للفيلم عندما يتعرف شاب إماراتي على فتاة أجنبية من خلال مواقع التعارف في الإنترنت ويقرر فجأة استضافتها في البلد والزواج منها، الخيوط السردية في الفيلم كانت تائهة وهذا التوهان أثر على تعاطف المتفرج مع الشخصيات، وبالتالي فقد الفيلم تأثيره وبريقه وبقى معلقا في فراغ قاحل وتأويل متناقض وقصة مبتورة كانت بحاجة لعمل أكثر وإلى جهد إخراجي أكبر. في فيلم التحريك “آخر قطرة نفط” قدم المخرج البحريني محمد جاسم تصورا كارثيا للحياة في المنطقة بعد نفاذ آخر قطرة من وقود المدنية الحديثة، واستطاع من خلال الدمى الطينية التي استخدمها بجهد كبير أثناء التصوير والتي لم تكن ملحوظة على الشاشة، أن يصيغ أجواء الدمار الذاتي والاجتماعي بعد هذه الكارثة المروعة، وكان الاقتصاد والتكثيف هو سمة هذا الفيلم المعتنى به والأنيق جدا، رغم مقولته المرعبة ورغم مناخاته الكابوسية المقلقة. المخرجة الإماراتية الشابة راوية عبدالله قدمت في فيلم “مكتوب” حكاية شاب يضطر للسفر والدراسة في الخارج كي يتناسى الجرح الذي سببته له فتاة أحلامه وبنت الجيران الذي تعلق بها في مراهقته، والتي كان زواجها المبكر من شخص غريب، أشبه بالصدمة الداخلية العنيفة التي شوهت كل خيالاته الرومانسية الطاهرة والبريئة والصافية، إلى هنا يمكن الحديث عن القصة بأنها مشروع لتقديم فيلم يمكن أن يلامس وبشكل مرهف ذلك الزمن الفالت الأشبه بالصدى السحري الذي أضعناه وبتنا نفتقده في المدن الإسمنتية العالية، ولكن المعالجة الإخراجية التي لجأت لها المخرجة راوية عبدالله جاء أقل من الطموح الذي انتظرناه من مخرجة قدمت في الدورة السابقة من المهرجان فيلما جيدا ومتماسكا بعنوان “اللون المفقود”، في حين أن “مكتوب” عانى كثيرا من التشتت على صعيد البناء الدرامي للحدث، وحتى لجوءها إلى خلخلة الإيقاع الزمني والاعتماد على الفلاش الباك جاء بشكل معاكس لمقاصد الفيلم في خلق التنويع وخلق المفاجأة وتكثيف اللحظة الصادمة، الفيلم بأجوائه ومناخاته ومواقع تصويره وحتى الشخصيات التي نفذته (الممثل الشاب عمر الملا)، جاء أقرب إلى النسخة القصيرة من فيلم نواف الجناحي “ظل البحر” وكان من المستغرب أن تلجأ راوية عبدالله لهذا الاقتباس المكشوف والانتحال المشهدي غير المبرر، رغم أن فيلم الجناحي ما زال ماثلا وحاضرا وطازجا في ذاكرة المشهد السينمائي المحلي والخليجي أيضا!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©