السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القابضون على الجمر...

القابضون على الجمر...
19 ابريل 2012
هي ذي فلسطين، سيدة الروح والأصابع تحضر بكل جلالها وفتنتها في القصة والقصيدة والرواية والأغنية والمسرحية وكل أشكال الفعل الثقافي، تحاول كلها أن تقولها بحبرها وحبها وحربها.. لكن كيف لي أنا الفلسطيني أن أكتب عن بهائها العالي؟ يمكن للفلسطيني، أحياناً، أن يتحدث عن فلسطينه بحنين فلسفي لا متناه.. ليس حنيناً ميكانيكياً ولا هو دخول في الوصف.. بل رغبة جامحة لقول ذلك الكسر الهائل الذي حدث في الروح.. ربما للدخول بشكل رمزي في الوطن. بيد أن الحديث يصعب، ربما يكون مستحيلاً، عن المعنى الكامن خلف نسف حتى شواهد القبور التي تحمل حروفاً عربية.. ثمة رمزية عارمة في سلوك كهذا تشي برغبة الآخر/ الصهيوني بتحطيم حتى حضور الموتى/ الأجداد/ الجذور/ لكي يتذكر الناس موتاهم بطريقة أخرى. ثمة من يريد من الفلسطيني أن يضع لسانه تحت تصرف الحرف العبري.. لا أقول هذا من قبيل التقليل من قيمة أي حرف أو لغة لكن هذا الحرف لا يعنيني أبداً. إنها العربية، عربيتي، التي أسمع في حروفها صهيل الدهر ولا أملك روحاً أخرى لأنفصل عني وأقرأ أسماء شوارع بلادي بلغة ليست لي. يفضل الباحثون في علم الاجتماع الثقافي وعلم اجتماع المعرفة استخدام المفهوم الجامع المانع للثقافة الذي يقول إن الثقافة هي مركب متجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ بها الجماعة البشرية وتشكل هويتها الحضارية، وهي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان. وتعرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” الثقافة على النحو التالي: “الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون، والآداب، وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات”. ويخبرنا التاريخ كما تخبرنا الممارسة البشرية أن الثقافة كان لها على مر التاريخ دور خطير. التاريخ القريب يقول إنها كانت باستمرار مسرباً أو مدخلاً لهيمنة أي جماعة على أعدائها، والسيطرة على وعي نخبها المثقفة بما ينسجم ويحقق أهدافها. وكانت عنواناً للتدخل العسكري والاحتلال المباشر في حالات كثيرة. لا أحد يجهل كيف جرى استخدام علوم اجتماعية لتحقيق غايات استعمارية وتبرير رؤى استعلائية. بل إن هناك من العلماء من يرى أن علم الأنثروبولوجيا هو علم استعماري نشأ بهدف دراسة ثقافة وعادات وتقاليد ومعتقدات وأنماط تفكير الشعوب والجماعات للعثور على أفضل الوسائل للتأثير فيها وإعادة صياغة وعيها. وليست بعيدة تلك المعارك التي اشتعلت حول مشروعات ثقافية (مجلة شعر أو الكتاب الفرانكفونيين أو شعراء قصيدة النثر أو بعض رموز المشروع النهضوي العربي) الذين هم في رأي بعض الباحثين نخباً متغربة تمت استمالتها أو قولبتها لكي تكون لسان المستعمر ويده في نشر ثقافته ولغته وطروحاته حول تحقيق التقدم والتخلص من (التخلف) العربي، وفي الحالة الفلسطينية ثمة حالات عن مثقفين وضعوا أو صنفوا أو اتهموا بأنهم يعملون على نشر ثقافة العدو والتطبيع معه (من حيث لا يقصدون)، وأنهم ينظرون إلى الآخر (بحسن نية) حين يعتقدون أن بين الإسرائيليين من يدعون إلى السلام. لكن حسن النية الذي كان موضع استهجان كبير في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي سيتحول مع بداية التسعينيات وتوقيع اتفاقيات أوسلو وما ترتب عليها إلى عمل قصدي لا يخلو من (سوء نية) لنشر ثقافة تسمى ظاهراً ثقافة السلام وهي في باطنها ثقافة الاستسلام، هذه الثقافة التي ما لبثت أن تكاثرت كالطفح حتى بات المثقفون الصامدون على موقفهم أشبه بأقلية ثقافية في مناخ تسود فيه تلك الثقافة المستكينة الباحثة عن الوهم. لماذا الثقافة؟ الثقافة إذن ليست خارج الصراع بل في قلبه تماماً، لكن ماذا يعني كل ذلك بالنسبة إلى الحالة الفلسطينية والمثقف الفلسطيني؟ أول ما يعنيه أن الثقافة بما هي روح الجماعة وما جنته وراكمته عبر التاريخ والعصور من خلال التفاعل المعرفي والإنساني لها مع بيئتها الجغرافية وفضائها الجيوسياسي ومعتقداتها، هي هوية الفلسطينيين وحارسة وجودهم التاريخي والحضاري والإنساني. والثاني: بما أنها الروح/ الهوية فلا بد من صيانتها والحفاظ عليها من أي تشوهات تهددها في صميميتها، وعدم السماح للآني والزائل بأن يصل إليها أو يقولبها أو يخضعها لأي رؤى سياسية قد تختزلها أو تختصرها في مشروع مرحلي. والثالث: أنها تمتلك عمقاً في التاريخ والجغرافيا ومع الإنسان والمكان يسوغ اعتبارها الضمير الحي أو الحارس الذي لا يجوز أن تصيبه الغفلة فيما يخص الوطن وإنسانه. الرابع: لكل ما سبق فإن الثقافة هي خط الدفاع الأول عن الجماعة في مواجهة كل ما يهدد وجودها أو بقاءها. وبما أنها المعبِّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية للفلسطينيين فلا يجوز لها بأي شكل وتحت أي صيغة أن تفرط إذا فرَّط السياسي أو تخضع إذا خضع. من هنا تتبدى خطورة الثقافة في الصراع، ولهذا كان التطبيع الثقافي ضمن أولويات السياسة الإسرائيلية. والغاية أن تنزاح الثقافة عن خط سيرها ووظيفتها التاريخية في دعم الفعل المقاوم لتدخل في بورصة التسويات وتبحث عن مبررات لها. من هنا أيضاً، يمكن فهم لماذا قتلت إسرائيل نماذج من المثقفين الجذريين الصامدين على فكرة الوطن التاريخي، كما يمكن فهم لماذا وضعت إسرائيل يدها على الأرشيف الهائل لمركز الأبحاث الفلسطيني عند اجتياح بيروت عام 1982. وربما يشرح ذلك السلوك الإسرائيلي تجاه المقابر الفلسطينية وآخرها مقبرة الشهيد عز الدين القسام التي بدأت الجرافات الإسرائيلية مؤخراً في إزالتها لإنشاء حدائق ومتنزهات مكانها.. إنها الرغبة في إزالة كل رموز ثقافة الصمود حتى ولو تمثلت في ذاكرة الموتى. ومرة أخرى، أفلحت جهود الصامدين في وقف العمل والحفاظ (مؤقتاً على الأقل) على المقبرة وما ترمز إليه. من أجل ذلك، كتب على المثقف الفلسطيني أن يحمل على عاتقه مهمة خطيرة وجليلة، بل وكان عليه أن يطير مراراً بعكس السرب السياسي وأن يسير بعكس اتجاه التيار رغم الثمن الباهظ الذي توجَّب دفعه للصمود على هكذا سلوك (غسان كنفاني، كمال ناصر، يوسف النجار، كمال عدوان، ناجي العلي، ماجد أبو شرار وغيرهم). في العام، تبدو الثقافة الفلسطينية صامدة.. وفي الخاص يتسع المجال لملاحظات كثيرة؛ لعل أهمها بروز ثقافتين: واحدة رسمية تسبح في بحور السلام (!!) المزعوم، وثانية صامدة تبحث في روح وذاكرة الشعب الفلسطيني التاريخية والحضارية عن كل ما يعزز الصمود ويرتقي به. ثقافة الصمود بالإضافة إلى استعادة كافة التواريخ المهمة في تاريخهم النضالي يجترح الفلسطينيون وسائل صمودهم الثقافية كل يوم. هناك تصبح القصيدة واللوحة والمسرحية والصورة والفيلم والأغنية وسيلة كفاحية تعلن الحياة في وجه الموت، وتقول وتحرس الرواية الفلسطينية، التي يراد تغييبها، بكل الطرق الفنية والفكرية والأدبية. ربما تصبح أغنية وطنية من زمن العز الثوري بمثابة فاتحة لنهارهم، أو معزوفة جماعية تؤسطر عذاباتهم اليومية على الحواجز.. وربما وجدوا في شهيد يرتقي، يودعونه بالزغاريد، حكايتهم الخاصة التي يكتبونها على الجدار العازل الذي يعزل عنهم وميض الحياة، ويدخلهم كبشر في أتون معزل نفسي واجتماعي ينفيهم عن تاريخهم. في فلسطين تبدو الصورة مختلفة قليلاً عن الأماكن الأخرى؛ فالفلسطينيون لا يملكون سوى رغبة الرفض التي يترجمونها في أفعال بسيطة في ظاهرها لكنها عميقة في أثرها. وفي هذا النزال غير المتكافئ مع (أكذوبة الإسرائيلي التاريخية) لا بد من حكاية مضادة وليس أفضل من استلهام الموروث الحضاري التاريخي منذ الكنعانيين وحتى الإسلام، وهو ما يجد تجلياته في الخطاب الثقافي بشكل عام. وليس من المستغرب أن يكون للثقافة هذا الدور الهام، ففلسطين كانت منذ بدايات القرن العشرين مركزاً ثقافياً عربياً مهماً، صنعت حضوره حركة ثقافية نشطة على صعيد التأليف والنشر وإصدار الصحف والمطبوعات فضلاً عن النوادي الثقافية التي ما تزال إلى الآن علامة من علامات الصمود. ولا يجهل أي متابع للثقافة الفلسطينية أن فلسطين منذ البداية شهدت نوعين من الثقافة: ثقافة النخبة أو المثقفين أو الثقافة البرجوازية بالمفاهيم التي يفضلها الكتاب الماركسيون، وثقافة شعبية كانت تنمو وتتعمق وتبدع أشكالها وأوعيتها في ظل التحدي اليومي الذي تفرضه الأحداث السياسية المتواترة. ولفترة طويلة ظلت الثقافتان تسيران في خط متقارب على مستوى فكرة المقاومة والصمود في الخط العام لكنهما كانتا تفترقان أحياناً في التفاصيل والممارسة الواقعية على الأرض. ومثلما حدث في الماضي يحدث اليوم، ثمة مثقفون يعيشون تخبطات على مستوى العمل السياسي ومضامينه، ويشّرقون ويغرّبون في فهمهم للوطن، وثمة مثقفون ينحازون للمجتمع وذاكرته النضالية ويصمدون على إبداع مقاوم وصامد بامتياز. وأما على صعيد الثقافة الشعبية، وخلافاً لما يعتقده بعض المثقفين الفلسطينيين، الذين يحلو لهم ليّ عنق الحال الفلسطينية لتنسجم مع قوانين الماركسية العامة في حركة التاريخ والذين وصلوا بسبب ذلك إلى بعض النتائج المشوهة أو غير العلمية في دراسة المجتمع الفلسطيني، فهذه الثقافة تنتج اليوم، كما أنتجت في الماضي، قولاً إبداعياً وفنياً وشعرياً ومسرحياً وتشكيلياً وروائياً يعزز الصمود ويدعو إلى الثبات والحفاظ على الأرض والوطن بكل السبل الممكنة بما في ذلك الموت والاستشهاد، والنماذج لمن شاء كثيرة يعجزها الحصر. ومن المعلوم، تاريخياً، أن الشعر والفن التشكيلي بشكل خاص، مارسا دوراً صميمياً في إنتاج ثقافة الصمود ولم يكتف الشعراء بالغوص في بحور الشعر بل ولجوا بحر السياسة وخاضوا لجته المعتمة وقاوموا أمواجه العالية دفاعاً عن الوطن. وفي ثلاثينيات القرن الماضي برزت كوكبة من الشعراء الفلسطينيين ممن تصدوا لمهمة تثوير الجماهير وتحريضها على الصمود والدفاع عن الأرض والعرض: (إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي الشهير بـ (أبو سلمى)، عبد الرحيم محمود صاحب القصيدة الشهيرة التي خاطب بها الأمير سعود الفيصل عندما جاء لزيارة فلسطين: المسجد الأقصى، أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه؟ وهو الشاعر الذي عقد قراناً لا ينفصم بين الكلمة المقاومة والفعل المقاوم حيث استشهد في معركة الشجرة لتبقى قصيدته بعده نشيداً يردد في كل مظاهرة واعتصام واحتجاج يقوم به الفلسطينيون طوال تاريخهم النضالي وكفاحهم وانتفاضاتهم المتواترة: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيط العدا أما الشاعر إبراهيم طوقان فتحولت بعض قصائده “الفدائي” “وطن يباع ويشترى” إلى علامات في الذاكرة الشعرية للفلسطينيين، فيما صارت “الثلاثية الحمراء” التي نظمها عن إعدام المناضلين الثلاثة: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي بياناً يفتتح كل فعالية ثقافية أو سياسية لسنوات طويلة. ولقد كان هذا الشعر المقاوم الذي سيحمل رايته بعد ذلك شعراء مثل: محمود درويش، سميح القاسم، راشد حسين، توفيق زياد، وغيرهم، من أبرز مظاهر صمود الجماهير الفلسطينية. وفي كل يوم تفرض الممارسات الاحتلالية أشكالاً جديدة من الممارسة الثقافية يجري إبداعها، وهذه ليست بدعة في التاريخ الفلسطيني، فثمة تحديات ثقافية وسياسية كثيرة تكيفت معها الثقافة الفلسطينية عبر وسائل وآليات للصمود. في كل مرة كان على الثقافة الفلسطينية أن تخرج من صرّتها ما يناسب الظرف المستجد، تسندها عراقتها ومرونتها والأصالة التي تحرص عليها. في البدء استجابت حركة النضال الفلسطيني لتحد يخص الفكرة الصهيونية نفسها التي تزعم أن فلسطين هي أرض الميعاد، وانبرى كتاب وباحثون ومؤرخون لمواجهة هذا الزعم والرد على المزاعم التاريخية الصهيونية لاسترداد التاريخ الفلسطيني القديم والحديث، ثم كان الرد على محاولات التذويب والتهويد عبر كافة أشكال التعبير الثقافي فظهرت ثقافة المقاومة التي منحتنا بعض أجمل الأسماء في الأدب والشعر والمسرح والثقافة بشكل عام. ثم اتسعت الرؤية للتعبير عن المضامين الوطنية في أشكال وأوعية وأبنية ثقافية وفنية متقدمة سواء عبر الفيلم التسجيلي أو السينمائي أو الرواية، ناهيك عن الدور المهم الذي لعبه الباحثون المتخصصون في الشأن الفلسطيني سواء من الفلسطينيين أو العرب الذين كانت لهم نتاجات جليلة على هذا الصعيد. وبعد بلعين واجتراحاتها البصرية على مستوى مناهضة الجدار العازل، تأتي الحواجز لتنتصب كتحد آخر في وجه الفلسطينيين. وعلى الحواجز، وفي الساحات العامة، وعلى جدار الفصل العنصري، وعلى حيطان غزة المحاصرة حتى النخاع يرسم الفنانون التشكيليون الحاليون صورة الوطن، كما فعل آباءهم من الفنانين التشكيليين (اسماعيل شموط، تمام الأكحل، بشير سنوار، كامل المغني، عبدالرحمن المزين، مصطفى الحلاج وآخرين...)، ويخترع المسرحيون صمودهم باللغة والإيماءه والسينوغرافيا، ويكتب الشعراء حكاية الفلسطيني التي لا تنتهي... وبمناسبة الحواجز لا يمكن فهم سبب وجود أكثر من ستمائة منها على مداخل ومخارج القرى والبلدات والمدن الفلسطينية من دون فهم الخلفية الأيديولوجية العنصرية التي تحكم نظرة الإسرائيلي إلى العربي/ الفلسطيني. فالحواجز ليست سوى الترجمة الميدانية للفكر الصهيوني الذي يرى في الآخر/ العربي حشائش ضارة ينبغي جزّها والتخلص منها. وتشكّل الحواجز العسكرية في عمقها الفكري والأيديولوجي بنية متماسكة منظّمة للقهر والإذلال، وهي لا تعدو كونها وسيلة فذة مبتكرة لتدمير الإنسان الفلسطيني من الداخل، لتدمير الروح النضالية أو القتالية في عمقها.. وبخصوص الحواجز وما يجري عليها يتسع القول لأسىً كثير.. لكن الكوب الممتلئ من الكأس يسمح لنا بأن نتقصى وسائل الفلسطينيين وهم يجترحون صمودهم حتى على الحواجز من خلال المحبة. تقول الأخبار الواردة من هناك، أن الفلسطينيين أسسوا إذاعة تسمى “طريق المحبة” تقوم ببث أخبار الحواجز، وترشد المواطنين إلى ما هو مغلق منها (الغالبية العظمى) حتى لا يعلقوا عليها، وما هو مفتوح (يعد على الأصابع) وكم هو الوقت الذي سيقضيه العابر من خلال هذه الحواجز. تماماً كما تقوم الدول المتقدمة ببث الأخبار حول الطرق السالكة والطرق الشائكة عند حدوث عاصفة ثلجية مثلاً أو وجود مطبات وحفريات. بالنسبة للفلسطينيين المطبات دائمة والعواصف لا تنتهي أبداً، ولهذا... يلزم التنويه والتحذير. أكثر من ذلك، بات الحاجز مكاناً للحياة أو ممارسة شيء منها قصراً لا طوعاً: نساء يلدن على الحواجز لكي تتخلق في قلب ثقافة التدمير والموت ثقافة الحياة. طلاب يدرسون أو يحلون واجباتهم لكي تنولد في عمق ثقافة التجهيل ثقافة التعلم. إعلاميون يجرون المقابلات مع السكان لينشأ إعلام آخر يعبر عن ثقافة إعلامية غير تلك التي يراد لها أن تسود. والمحصلة أنه تم إنشاء أرشيف توثيقي شفاهي، من خلال هذه المقابلات مع الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الذين عانوا من الاحتلال، يمكن القول إنه سيرة الكفاح الفلسطيني مع الحواجز السوداء. وهي سيرة زاخرة بكل أشكال القمع الإسرائيلي والصمود الفلسطيني وما على الكتاب المبدعين إلا أن يشمروا عن زنودهم ويكتبوا ما شاءوا من الروايات الحقيقية التي تفوق في سورياليتها وسحريتها أي سوريالية مخترعة. على الحواجز أيضاً، أبدع مثقفون فلسطينيون ما زالوا على عهدهم ولم يبدلوا “مشروع القراءة، وتداول الكتب عند تلك الحواجز” كي لا تذهب ساعات العالقين عليها هدراً، وتستثمر فيما يفيد. الحواجز أيضاً شحذت الذكاء أكثر من مرة وألهمت مخرجا مسرحيا فلسطينيا فكرة مسرحية يرتدي فيها الأبطال ثياباً مفتوحة عند منطقة البطن حيث يفتش الجنود عادة عن أحزمة ناسفة، وهكذا تظهر المنطقة عارية ولا يحتاج الفلسطيني لإذلال التفتيش الذاتي. لكن الفلسطيني الذي يمارس ثقافة صمود شاملة في كل مناحي حياته، هو في أشد الحاجة إلى ما يبل الريق الثقافي، ويطور ويصلّب ويحصّن هذه الثقافة فلسطينياً وعربياً، لأن ثقافة الصمود، هي الضوء الذي ينير نفق الفلسطينيين الطويل لا سيما أهل غزة منهم الذي يعيشون بلا ضوء، فيما اجتراحات صمودهم على كل الصعد وليس الثقافية فقط لها من الضوء ما يبهر العيون. ثقافة الرسميين ليس صعباً فقط بل يكاد يكون مستحيلاً أن يتناول المرء الثقافة في فلسطين بعيداً عن السياسة. هذا فصل تعسفي (يشبه جدار الفصل العنصري الذي يفصل بين المرتبطين بحبل سري واحد). في فلسطين لا يمكن فك الاشتباك أو الارتباط بين الثقافي والسياسي لأنه ببساطة هو الواقع القائم على الأرض. وما دمنا في العلاقة بين الثقافي والسياسي وإشكالاتها لا بأس من الإشارة إلى الجفاء التاريخي والقديم بينهما على صعيد المسألة الفلسطينية، حيث يرى الباحث سعيد مضنية أن “الهوة مستمرة بين المثقف والسياسي، الذي همّش الثقافة والمثقفين بشكل أضر كثيرا بالقضية وقدرتها على مواجهة التحديات، وأن الجفاء بين السياسة والثقافة تقليد فلسطيني يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين شعر المثقفون بالخطر، بينما كان الساسة والانتهازيون وشيوخ عشائر يمضون الليالي في حضرة المندوب السامي”. ولإبراهيم طوقان ومجايلييه موقف متقدم جداً في مسألة العلاقة بين السياسي والثقافي تجلت غير مرة في قصائدهم ومقالاتهم كما سبق القول. والحقيقة، أن المرء لا يستطيع التفاؤل كثيراً بالدور الذي يمكن للمثقف الفلسطيني أن يقوم به في حال خضع للسياسي. فالسياسي مأزوم على المذاهب الأربعة، والأزمة التي يعيشها المشروع الفلسطيني سياسياً (هذا إذا ظل هناك مشروع أصلاً ولم يتبخر على الطريق إلى خارطة الطريق) تنعكس على الثقافي شئنا أم أبينا!. وبمناسبة الطريق وخارطته تحضرني تلك العبارة الشهيرة للمبدع الحاضر أبداً محمود درويش: “كنت أعتقد أن البيت أجمل من الطريق إلى البيت، لأكتشف لاحقا أن الطريق إلى البيت أجمل من البيت”... بالطبع الطريق الذي يعنيه درويش هو الطريق المناقض تماماً لـ (طريق) خارطة الطريق. إنه طريق النضال والكفاح الذي بدت فلسطين في سمائه أجمل فكرة وأحلى وطن. إن المعنى الثاوي في المتن الشعري الجميل، النائم على دلالات ومضامين كثيرة من بينها واحد يؤشر على مسألة خطرة في علاقة الفلسطيني مع الوطن. فالرحلة إلى الوطن كانت تلاحق صورة جميلة في المخيال تمد الثوار والمناضلين، في العصر الذهبي للمقاومة وللثقافة أيضاً، بكل ما يجعل الوطن فردوساً ويقبر كل الرداءات والإحباطات في قاع سحيق. لقد أنزل الإبداع لا سيما الشعر الوطن الفلسطيني مفهوماً وممارسة نضالية منزلة عالية في القلوب والعقول، وتغنت الأدبيات الثورية على مدى رحلة الفلسطينيين الطويلة بالحرية بشكل يحتاج فعلاً إلى بحث موسوعي لرصد ملامحه وتجلياته. وصارت فلسطين عنواناً لكل مفقود ونوستالجيا كونية ضمت بين أعطافها كل جميل وعزيز... لكن مع العودة المنقوصة إلى (ما يشبه الوطن) وتجسد الفكرة في شكل مشوّه سرعان ما انكسر الحلم وأطلت برأسها المفارقات بين المتخيل والواقعي، لنقل إن قبح الواقع أفسد جمال الحلم. وفي قصائد درويش وغيره الكثير من هذا مما يعبر عن كون “الفكرة أكبر من الدولة” أو أن الوطن/ الحلم أجمل من شبه الوطن/ الواقع.. هل أقول إن الفلسطيني فقد الوطن مرتين؛ مرة عندما اقتلع منه قسراً وعدواناً على يد المحتل الصهيوني، ومرة عندما رجع إلى المكان المشتهى فوجده مثل حلم متفسخ أو جنين مشوّه!؟. في المكان الواقعي، أصبحت الثقافة (الرسمية) في خدمة السياسي، ذيلية، تابعة، بل وفي أحيان كثيرة تبريرية تبحث لإخفاقات السياسي وزلاته وتنازلاته عن تبريرات ومسوغات، بعد أن كانت في العصر الذهبي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني هي الفاعلة والدافعة والرافعة وتحظى بمساحة كبيرة من التقدير والاحترام. لقد هبط سقف التوقعات عند المثقف الفلسطيني، كما في حالات عربية أخرى، إلى مستوياته الدنيا. لكن ما يجوز للمثقف العربي (إن جاز) لا يجوز للمثقف الفلسطيني الذي يفترض أنه ضمير مشروع لم يكتمل بعد ولم ينجز مهماته. الفلسطيني لا وطن له كما للشعوب الأخرى أوطانها. والوطن عند الفلسطيني لا يتحدد بالتاريخ والجغرافيا فقط. والثقافة الفلسطينية كما يقول فيصل دراج “تعرف بتاريخٍ كفاحيّ متراكم، قوامُه استعادةُ الوطن الذي كان، والبرهنةُ على أنّ “ما كان” قابلٌ للاسترداد”. بالطبع، يمكن لأي كاتب أو ناقد أن يسرد سلسلة لا تنتهي من المهام والأدوار التي يجب على الثقافة والمثقف القيام بها، بيد أن ذلك لا ينطبق كثيراً على الحالة الفلسطينية ولا على المثقف الفلسطيني الذي يعيش حصاراً خانقاً يمنع عنه حتى الهواء. الحرية شرط من شروط الإنتاج الثقافي بأشكاله كلها، وكل كائن لا يستطيع أن يتنفس بحرية لا يمكنه أن ينتج بحرية، مع ذلك يحدث أحياناً أن يكون الرد الإنساني على العسف والظلم والقمع مبدعاً وخلاقاً وهو ما يسعى الفلسطينيون إليه بكل ما وسعتهم الحيلة. إنهم القابضون على الجمر الممسكون بالحلم بكل ما في أسنانهم وأرواحهم من قوة. لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا الأزمة الحقيقية التي تعيشها الثقافة في فلسطين والتي تحول بينها وبين ممارسة دورها بفاعلية وقوة. ولا يحتاج المرء إلى الكثير من التأمل والتفكير لكي يقول إن أزمة السياسي ألقت بظلالها على الثقافة والمثقف في فلسطين، وأنهما يحتاجان إلى التحرر من سلطة السياسي المأزوم. وربما يستعيد المرء تلك القصيدة الشهيرة التي قالها إبراهيم طوقان ذات يوم، مطالباً زعماء ذلك الوقت بأن يحافظوا على بقعة تستريح فيها عظامهم، لمطالبة زعماء هذا اليوم ومن لفَّ لفَّهم من المثقفين بأن يحافظوا على بقعة ثقافية نظيفة لكي لا يكون الخراب كلياً، وشاملاً. وإذا كان الطلاق أبغض الحلال في الحالات الاجتماعية فإن الطلاق بين الثقافي والسياسي، في فلسطين، في هذه المرحلة بالذات، هو حلال محض وينبغي أن يكون بائناً بينونة كبرى ولا رجعة فيه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©