الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التراث الشعبي.. حنين المنفيّين

التراث الشعبي.. حنين المنفيّين
19 ابريل 2012
هذه سيرة ذاتية لكن بصوت آخر أبعد من صوت الكلمات.. سيرة الوطن المحمول على كلمة و”يرغول” وناي ودبكة وحكاية شعبية ومثَل وتراث عتيق من الغناء والحداء، والمواويل التي لا تفلح إلا في قول عتبها على الزمن في “عتابا” هاربة من الحناجر إلى السماوات العلى. كان أن الفلسطينيين الذين تعطلت أرواحهم على رصيف النكبة والنكسة وما لف لفهما من مجازر ومَصافٍ سياسية ومعنوية حاولت أن تنتخب أجملهم لمحرقتها التي لا تشبع. كان أن الفلسطينيين لما فقدوا صوتهم وتذرّت لغتهم في سماوات الله السبع تقمصوا شخصية “ظريف الطول” و “دلعونا” و”جفرا” وراحوا يروون عذابهم مع المقدس. كان أن حدث التواء ما في الروح وفي الأصابع فذهبت الحناجر إلى البوح. لقد انتزع الفلسطيني من رحمه الأول بقساوة لا يفلح فيها وصف، وشراسة لا تحيط بها العبارة، بتخطيط جهنمي ومكر فذ لم يدبر الأمر بليل فقط.. بل تم في وضح النهار وعلى مسمع ومرآى من الجميع، جرى اغتصاب فلسطين أرضاً وتاريخاً وفكرة وتراثاً وحضارة. بدا الأمر يومها أشبه بطرد الهواء من المنازل والحدائق. موت كبير حصل. بدا للفلسطيني أن وجهاً آخر قد حلّ محل ذلك الوجه الذي أعطاه إياه آباءه وأجداده. صحا الفلسطينيون ليجدوا أنفسهم في العراء.. هكذا تحت سماء شاسعة بلا غطاء فلسفي.. قيل إن الأرض لا شعب لها وأنهم ليسوا شعباً ولا أرض لهم، بل إن عبقرية الإقصاء والإلغاء ابتدعت مؤخراً ما هو أشد فظاعة فخرج علينا من يقول إنهم شعب...”مخترع”!!. مذاك صار الحزن أيديولوجيا للفلسطينيين، وصار الوطن الفلسطيني فردوساً مفقوداً.. وطناً محتملاً.. مشروعاً مؤجلاً.. وطناً متخيلاً او صورة فوق جدار. وصار الفلسطيني مسكوناً بحنين أسطوري ونوستالجيا لم تجد ما يعبر عنها سوى الأغنية والموال وغيرها من مظاهر التراث التي تشكل قسماته وهويته.. ومن هنا ربما يمكن تفسير أو فهم سرّ ذلك التعلق غير العادي بالتراث وتمظهراته المختلفة. خطر على الروح يجمع جمع غير قليل من المثقفين الفلسطينيين والعرب على أن الخطر الرئيس الذي يواجه الفلسطينيين اليوم ليس خطر الإبادة الجسدية ولا خطر ضياع الأرض وتهويدها فقط، وإنما خطر انحلال وذوبان الهوية الفلسطينية التي يشكل التراث المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني جذراً أساسياً من جذورها، وأقنوماً مهماً من أقانيمها. وأعتقد أن التراث هو القاسم المشترك الأول والأعظم الذي يوحد بين جميع الفلسطينيين على اختلاف رؤاهم ومشاربهم أيديولوجياتهم وعناوينهم السياسية والجغرافية و... ما شئت من أشكال التذرّي والتشتت التي أذاقتنا طعمها المرّ هذه الإنسانية العظيمة أو تلك التي ما تزال توضبها لنا بعناية تثير العجب!... وفي محاولاتها الدؤوبة لإيجاد مبررات تاريخية لها في فلسطين فعلت الحركة الصهيونية كل شيء: سرقت التراث الفلسطيني ونسبته إليها، وحفرت في الأرض بحثاً عما يسند روايتها المزورة، هوَّدت الأماكن والشوارع والأسماء واشتغلت على تزييف وجه فلسطين الحضاري والثقافي ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.. لم يكن الاحتلال الصهيوني لفلسطين مجرد احتلال استعماري تقليدي لكنه استعمار إحلالي، استيطاني، يلغي أصحاب الأرض أو يطردهم بعيداً ليحل محلهم آخرين. وهذا يتطلب السطو على ذاكرة المكان وتراثه وإعادة صياغة وجهه الحضاري والتاريخي بما يناسب دعاوى الاحتلال. ولأن المشروع الصهيوني، هو في العمق، مشروع قائم على تدمير الآخر / الفلسطيني وإلغائه بشرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وحضارياً وثقافياً، فإن المطلوب هو نفي روايته ليس فقط من الجغرافيا بل من الذاكرة البشرية أيضاً. معركة مستمرة في فلسطين بشكل عام وفي القدس بشكل خاص، جرت وتجري هذه الأيام جهود مستمرة لطمس الهوية العربية الإسلامية وتغيير البنية الديموغرافية لمدينة القدس لما يخدم الطموحات الإسرائيلية في الأرض. على الجانب الآخر، الفلسطيني والعربي، ليس هناك ما يعتد به أو يعوَّل عليه. والمطلوب لمواجهة هذه التحديات الكبرى ليس شعارات ولا خطب رنانة بل إستراتيجية ثقافية وطنية فلسطينية، وقومية عربية تحافظ على ما تبقى من وجه فلسطين الحضاري وهويتها العربية. في فلسطين تجري معركة طاحنة، معلنة وليست خفية، على صعيد الغزو والسطو والانتحال الحضاري والتاريخي. لقد أنتجت الدولة العبرية ثقافة معادية وإقصائية للفلسطينيين والعرب، وهي ما تنفك ليل نهار تعلن يهودية الدولة.. وتسخر كل إمكاناتها من أجل ذلك. ولا حاجة للاستفاضة في الشرح حول ما جرى ويجري للفلسطينيين فقليل الكلام يغني عن كثيره.. لكن من الضروري الاستفاضة حول التراث الشعبي بكل عناصره لما له من دور جوهري في تحقيق الصمود. فالتراث عنصر جمع وتوحيد يلتف حوله كل الفلسطينيين خاصة بعد أن حُمّل من الحمولات النضالية الكثير، وأسبغت عليه من سمات الصمود والوعي ما يؤهله ليكون أحد أهم المصدّات الثقافية والمنصات أيضاً التي بها يرتفع الفعل المقاوم على المستوى الثقافي. ولهذا، برزت الدعوات المتواترة لجمعه وحفظه وتوثيقه، ورغم ما بذل من الجهود على هذا الصعيد فإنه ما يزال في حاجة ماسة إلى مشروع استراتيجي ضخم للم شعثه، ووصل انقطاعاته. وكان بين الفلسطينيين من يرى أن مسألة التراث ليست ملحة ولا عاجلة ويمكن تأجيلها إلى حين، لكن ممارسات العدو الصهيوني الذي يستولي على كل ما يخص الذاكرة الفلسطينية بدءاً من صحن الحمص والفول وانتهاء بالثوب والحكاية الشعبية، جعل التراث من الأولويات وأنزله المنزلة التي يستحقها في الوعي الجمعي؛ بل إنهم من حيث لا يقصدون رفعوا من حرارة الإيمان بأهميته لدى الكثير من الباحثين والمشتغلين في علم الاجتماع والفنون والموسيقى وغيرها من الحقول التي تختص به. ودفعوا الفلسطينيين إلى التمسك به وبمظاهره المختلفة في حياتهم اليومية، باعتباره عنواناً للشخصية الفلسطينية الوطنية والإنسانية. وإذا كان مفهوم الوطن التاريخي للفلسطينيين تعرض لأخذ ورد، وبدا أحياناً من المختلف عليه عند الفصائل السياسية التي أضاعت البوصلة مراراً على مفارق التكتيك والمرحلية؛ فإن الوطن الفلسطيني ظل محل إجماع كامل في كل ما يقوله التراث. ولأسباب ينبغي دراستها بوعي نجا التراث من التباسات السياسي وتحولاته وسلم هذا الجناح المهم من أجنحة الهوية الفلسطينية من السقوط محتفظاً بسمائه العالية التي يحلق فيما ما شاءت له اجتراحات مؤديه أو ذاكرة حافظيه الذين ظلوا على تراثهم صامدون. وإذا كان الوطن في الممارسة السياسية قد تعرض لشروخات ونتوءات فإنه ظل في التراث بهياً لم يمسسه سوء.. عذباً وجميلاً كما لم يكن يوماً.. ظل وطن الذاكرة والسنابل الملآى بالقمح والأحلام ومواعيد الزواج المؤجل إلى حين الحصاد. لكن من الضروري الإشارة إلى أن التراث لم ينج بالطبع من تأثيرات الحالة الملتبسة جراء الواقع الموضوعي للشعب الفلسطيني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وديموغرافياً كما حدث مع الثقافة، لكن تأثره جاء مختلفاً: الضياع والتشتت واحتمال المصادرة بسبب تشتت حامله الأول وهو الإنسان الفلسطيني في المنافي ومخيمات اللجوء والشتات. حارس الوحدة الوطنية في هذا التراث اجتمعت طموحات وتشوقات الفلسطينيين وأحلامهم، واتسعت الرؤية لتقول قضيتهم بكل أشكال المقيل والمسموع والمبصور. لقد جسدت مظاهر التراث المختلفة المعيش اليومي ورحلة الإنسان الفلسطيني في الماضي والحاضر، في التاريخ والجغرافيا، وما أنجزه في علاقته بالمكان من طقوس ولادة وموت وحياة، وأزياء وعادات وتقاليد وأعراس وقيم اجتماعية وثقافية وحضارية بل وأشكال زراعية واقتصادية. لقد صار التراث وطناً أو صورة له. بدا في الممارسة التراثية أن الشعب الفلسطيني ليس طارئاً وليس نبتاً شيطانياً، بل له جذور ممتدة في الأرض والتاريخ. ومن يدقق في الدور الذي يلعبه التراث في حياة الشعوب لن تعوزه الحكمة ليدرك أن التراث هو الهوية التي تجمع الكل ولا تترك أحداً من أبنائها مهاجراً أو نائياً. وأزعم أن التراث الشعبي يستطيع أن يوحد الفلسطينيين كما لا تستطيع أي فكرة أخرى أو فصيل أو زعيم. والتراث يحمل بين طياته أحلام الناس، ويجمع اشتهاءاتهم الروحية لأنه ملك الجميع، هو خارج التصنيفات وشتى عمليات الفرز السياسي أو الطبقي أو الديني، كلهم يصنعونه، ويشكلون ملامحه، ويبرزون تفاصيله. وهو العمل المشاع الذي يشترك فيه كل شخص، ويشعر كل إنسان أنه جزء منه، يحميه ويحفظه ويدافع عنه. إنه الهوية الشخصية والبطاقة التي تشكل قسمات روحه وجذوره وأصالته: (اللي ما له أول ما له تالي، اللي ما له خير في قديمه ما له خير في جديده، اللي بنكر أصله مالوش أصل، الحر ما يتنكر لأصله). الأمثال.. مرآة الأرض يرى كثير من الباحثين أن الأمثال الشعبية عكست حالاً من العجز والسلبية سادت المجتمع الفلسطيني منذ العهد التركي وخلال الاستعمار البريطاني، وكانت في غالبيتها تشجع على الخضوع والاستكانة والرضا بالأمر الواقع، لكن هذا التعميم فيه الكثير من التجني لأن المثل الشعبي قد يصور حالات تبدو متناقضة في الظاهر في حين لا تعدو أن تكون انعكاساً للتنوع المجتمعي وتبايناته على مستوى الأحداث، فالتراث صورة حال للمجتمع في وجوهه كلها، وهي وجوه دينامية متغيرة، لهذا يمكن أن يقال مثل يناقض مثلاً آخر في نفس الوقت، والفيصل في أيهما يعتمد أو يعتد به هو طبيعة الحدث أو المناسبة. وتبرز الأمثال الشعبية المختلفة جوانب متعددة من الصمود والتشبث بالوطن، كما تؤكد على أهمية الأرض والحفاظ عليها لأنها رمز العز والكرامة: (الأرض مثل العرض، اللي ما إله أرض ما إله عرض، من باع أرضه ضاع عرضه، اللي ما عنده عطن (أرض) مالو وطن، الأرض بالشبر، قالوا: لا الأرض بالظفر) ، وفي هذا وغيره إشارة الى الأهمية التي تحتلها الأرض لدى الفلسطيني. كما تؤكد الأمثال الشعبية على ضرورة البقاء في الأرض وعدم مغادرتها أو بيعها وتندد بما سيجده من يترك مكانه من الثبور وعظائم الأمور: (الحجر في مَطْرَحُهْ قنطار وإذا تحرَّك بيْصير وْقِيّة، من طلَعْ من دارَهْ قل مِقْدارَه، من طين بلادك لُطّ (أي ادهن) خْدادَكْ، وفي قول آخر حنّي خْدادَكْ). ولم تقف ذاكرة الأمثال ولا فعلها الصمودي عند هذا الحد، بل امتلكت قوة تحريضية تشجع على الفعل المقاوم واستعادة الحق: (المنايا ولا الدنايا، المنيّة ولا الدنيّة، شو بال عكا من هدير البحر، لو عكا بتخاف هدير البحر ما حدا عمّر على الشط بيوت، يا جبل ما يهزَّك ريح، الرجم بالطوب ولا الهروب، من هاب خاب، ما يصبر ع الجور غير الثور، ما بحرث الأرض غير عجولها، ما بجيب الرطل إلا الرطل ونُصْ، وفي رواية أخرى إلا الرطلين، والمعنى واضح: لا يعود الحق إلى صاحبه إلا بالقوة). ولدى استنطاقها تفصح الأمثال الشعبية عن إيمان لا يتزعزع بالحق الفلسطيني: (الحق مثل الفلّين ما بِغرق، الأرض بتقاتل مع أهلها، كل حق مصيره يعود، ما بضيع حق وراه مطالب). كما تفصح الأمثال عن الحكمة الثاوية في تلافيف المعرفة الشعبية التي تكدست على مر الزمان، تلك الحكمة التي تؤكد على أن الأمور تتغير، والأيام دُوَل، وكما تخلصت فلسطين من الاحتلالات السابقة التي مرت عليها عبر التاريخ سوف يأتي يوم تتخلص فيه من الاحتلال الصهيوني، وإن تأخر الأمر فلأن (الغربال الجديد إلو شدّة) لكن (كل متعدّي خسران) و(الشمس ما بتتغطى بغربال). وثمة في ذاكرة الأمثلة ما يؤشر على أن الفلسطيني عرف السبب في نكبته وضياع أرضه، إنه الغرب (ما بييجي من الغرب خبر يسرّ القرب).. وربما يتضح هذا المعنى بشكل أكبر في الغناء الشعبي عندما تغني “دلعونا” بلسان حيفا: لَغَرِّبْ غَربا و لوح بْيَدّي ما حدا انْظَلمْ في الدِّنيا قدّي يا بلاد الغرب ريتك تِنْهدّي وانتي السبايب تهجَّرونا هنا تبدو الحسرة بإيقاعها العالي في شكل دعوة حارقة من الفلسطيني على الدول الغربية، وخاصة بريطانيا، التي تسببت في صدور وعد بلفور وإقامة الكيان الإسرائيلي، وتهجير الفلسطينيين من ديارهم. وفي “من سجن عكا” تشير الأغنية بتحديد بالغ الدقة الى المسؤولين عن جريمة إعدام المناضلين الثلاثة، وهم المندوب السامي البريطاني ومن يحالفه، وتطلب من الله أن يجازيهم على ما فعلوا: من سجن عكا طلعتْ جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي جازي عليهم يا ربي جازي المندوب السامي وربعه عموما الحياة بأحداثها في أحضان التراث وجد الفلسطينيون شيئاً من السلوى والعزاء، فقالوا من خلاله حنينهم، وثقوا أسماء قراهم ومدنهم، دونوا سيرة الوطن والقضية وما شهدته من أحداث. حتى في أزيائهم الشعبية خاصة أثواب النساء تبدت ملامح الصمود، إذ قامت المرأة الفلسطينية في سردها الحريري بتوثيق ذاكرة الناس والمكان في عروق ثوبها التي حملت أسماء: (شبابيك عكا، قمر بيت لحم، مفتاح الخليل، طريق حيفا، طريق التبان، طريق النبي صالح، طريق يافا، طريق القدس وغير ذلك) فضلاً عن أن الثوب نفسه يحمل اسم مدينته وقراها، هكذا تكرست في الذاكرة أسماء المدن والقرى التي دمرت أو محيت أسماءها العربية لتحمل أسماء عبرية. إلى ذلك، بات التراث سجلاً للأحداث والتواريخ المهمة التي عاشها الفلسطينيون:وعد بلفور، ثورة 1936 ثم النكبة ثم الهجرة واللجوء والمنافي والنزوح والغربة في داخل الوطن وفي خارجه. ووجدت أحداث الثورة وانتصارها في معركة الكرامة طريقها إلى العتابا والميجنا وغيرها من أشكال الغناء التراثي الذي استجاب لتغيرات الحياة وتمثَّلها: بيُومِ الكرامِة إنْكسَرْ جيش الخصِمْ وكانتْ خسارِتْهُم ألف بعد الخصم وربِّ البَريّة والنّبي يبقُوا الخصِم هللِّي سَعُوا وهلَلِّي دعوا لحَرْبِنا كلِّ العيون عيون وانتو عيوننا الأغاني.. ولائم الفرح الغناء زاد الروح وبركتها الضافية. ليس في الأمر مبالغة ولا مزايدة، فالكلمة سيدة الحياة الأولى، بها بدأت الروح الإنسانية تتعرف إلى ذاتها. وفيها تستعيد إشراقاتها وانفتاحاتها النورسية تاركة وراءها أوشال الحياة المادية وأوزارها لتعلن أن النفس تكبر في المجرد، وتحلق إلى مديات اكثر اتساعا وجمالا في ترانيم أغنية تسيل كما عذوبة موج بحر. في حضرة الغناء الفلسطيني يحدث أن يطير القلب إلى الأعالي، ليزقزق في السماوات مثل بلبل أو يهدل مثل حمامة. وفي حضرة أغنية حميمة تتراجع تلك البلادة المتكدسة على الأرواح لتعبَّ من المعنّى ما يذيب ثلوج الداخل، فتخف الأجساد، تشفّ، ترقى، تدور وتتمايل على إيقاع يوحدها في الحركة والقول: شعبك فلسطين ما تهمه خْيانِة وتحرير الوطن علينا أمانِة ما بدنا إعاشة ولا إحسانِ بدنا وطنّا أحسن ما يكونا عبر أغنية تسافر في الماضي البعيد، أو تطلُّ على حاضر يرفل بالعذابات، حفر الفلسطينيون أشواقهم للبلاد في لوحات تراثية فنية تعلي حضور الوطن في حلقة الرقص، تعلن فرحها بين أقواس المكان وتشي بما تحمل نفوس العشاقين للأرض من غرام عتيق، وشيعوا لها من العتب ما يفري الجلود ويفتك بالأكباد. ودقوا بالأقدام الغاضبة هذه الأرض الخرساء لعلها تسمع كما في إحدى أغنيات المطرب أبوعرب: أطفال طلعت ع الحارة تتحدى العِدا بحجارة أطفال طلعت ع الشارع تتحدى العِدا بمقالع والعالم أخرس مش سامع يا عالم شو هالجسارة!! ومن أحلى ما يتميز به التراث الفلسطيني تنوعه وتعدديته، وقدرته على التعبير عن أطياف المجتمع بكل فئاته وشرائحه، واشتماله على عوامل الوحدة مع تكريس جمال التنوع وروحه الخلاقة وتكريس حضور الآخر وحقه في الاختلاف. وما بين البحر والسهل، والتل والجبل، نسج الفلسطينيون القدماء حضورهم الحضاري والثقافي عبر تراثهم الذي يعود إلى آلاف السنين. وغنوا لكل شيء، دونوا روح الأرض وقسماتها وجغرافيتها في مواويل فردوسية الجمال، وهم يتهادون عبر الوديان والجبال بمعاولهم وكوفياتهم التي تعلو رؤوسهم كانوا ينشدون. ورسموا لوحة للأزرق الغامض أو البني الذاهب في لحم التراب، وبثوا لواعج قلوبهم في “المعنّى” و”الشروقي” و”الميجنا” و”الدلعونا” وانتظروا “ظريف الطول” ليعود من غيبته الطويلة: يا ظريف الطول وين رايح تروح طوَّلت الغيبات وغمَّقِتْ الجروح وقد تحولت مع تصاعد الثورة إلى: يا ظريف الطول وين رايح تروح بقلب كلاشينات غمّقت الجروح ما في غيرنا بيردِّ لْها الروح اسمع ليل نهار صوت رصاصنا في الأعراس يلتقي عشاق القول والنغم، ينعمون في أفيائها بالمحبة، يلتقون من المراكز والأطراف، المتون والهوامش، المدن والقرى والأرياف، ليصدحوا معا نغما موحدا يجسد أحلى ما في وعيهم الجمعي ومشتركاتهم المجتمعية والثقافية، وينثر ورود الوئام بين الجميع في احتفائية جميلة تفتح القلوب قبل الأيادي للعناق: ع الرّباعية ع الرّباعيّة واحْنا ما بنّام ع الغلوبيّة نادي يا منادي يوم استشهادي على أرض بلادي تحلى المنيّة في الأعياد والحصاد وقطاف الزيتون وحفلات الطهور وغيرها من المناسبات يلتقي الفلسطينيون كلهم، مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية بدعوة من الفرح ليتحلقوا في دائرة جامعة مانعة تمزج بينهم في أداء واحد، تدخلهم إلى وحدة مشتهاة، وتعزل الخلافات في مكان غير منظور لأن لا مكان لها في ساحة الهوى الفياض: ع الروزنا ع الروزنا كل الهنا فيها شو عملت الروزنا الله يجازيها يا رايحين ع صفَد حبي معاكم راح يا محملين العنب تحت العنب سلاح كل من وطنو معه وأنا وطني راح يا رب ثورة حرّة تردَّ الوطن لِيّا أما الموسيقى الشعبية فلها من الجمال حظ إضافي، وحين تعلن حضورها يعلو صوتها على ضجيج الموات الذي يكاد يغلف أجمل ما في حياتنا. وهي وحدها، ربما من بين الفنون، تحكي مع الجميع، مع الغني والفقير، والصغير والكبير، لا تعرف فروقاً عمرية ولا طبقية، ولا تفهم في إيقاع المال والبورصات. إنها تفهم شيئاً واحداً تمارسه بإخلاص عجيب: أن تقيم وليمة فرح جماعية لعشاقها، وترتبهم وفق إيقاع قلبها. تولم لهم مما تيسر من الغناء والنغم، وتأخذهم في حضنها الواسع. وحدها الموسيقى الآتية من يرغول عتيق يحن إلى أمه في الحقل الأول، تبدو في حضورها الأسطوري بطلة المكان وسَمْتَهُ ويقينه. وإذ تفتح بواباتها للجميع، وتقيم لهم حفلها الجماعي، تقدم لهم دعوة مجانية للعبور الى الشاطئ الأبعد، إلى الأقصى في الروح والقلب. الدبكات الشعبية ألفةٌ تنهض من غفوتها، نساء ذاهبات في حديث الصباح، وطن يحنو على أهله، حنين وشقاوة وأشياء أخرى كثيرة يصعب سردها تنهض في المشهد. تنتصب الرؤوس عالياً، تشتبك الأيادي، تصطف الأقدام على مسافة واحدة وسوية واحدة، لوحة يعمرها حنين مغمس بلون الدم، نثار وشظايا وبقايا حرب كانت لا يعلم إلا الله والراسخون في الهوى الفلسطيني ما تركته من آثار وما أشاعته من خراب. جرار تقبع في ركن الأغنية تحمل في داخلها فرحاً قديما هجره الأصحاب، وقلعة أو سور أو بقايا آثار عتيقة تذكر المرء بندى الضحكات البريئة والعواطف الجميلة التي سادت في زمان مضى.. ويطلع من أعماق أعماق المشهد صوت المغني/ الحادي يقول البلاد: على دلعونا وعلى دلعونا بفيّ الغربة الوطن حنونا بالله إن متت يمّا اقبروني بأرض بلادي بفيّ الزيتونا تلك هي الدبكة التي يحضر الوطن فيها أزهى وأحلى، وتطير الفراشات من الأثواب المطرزة بالحكايات والأحداث، وترتفع الأقدام الغاضبة على جناحي الإيقاع لتطير إلى آفاق الحلم بالوطن الآتي، حتى يكاد المرء ينسى الاحتلال ومصائبه التي تترى كل لحظة.. كما لو كانوا أمواج بحر يؤدون أغانيهم، يهزجون “الدحية” و”جفرا” وما أدراك ما جفرا، تلك حكاية القلب الملوع الأسيان حيث الحزن يتجوهر جمراً وناراً، ويعلو في أرتام حزينة، موجعة، قابلة لتجعل أسعد الناس وأوفرهم بلادة يمسح من عينية دمعة سقطت “غصباً عنه”. بكل أشكال الفن يتمرد الفلسطينيون على الحصار والحواجز والمعازل ويوغلون في روح التراث ليقتنصوا لوحة تبوح بما في القلوب من أمل بشمس تشرق يوماً على أرضهم وأسراهم: الشّمسِ بتطلَع عَ المتاريس ع الشهيد وع المحابيس ومهرِك يا بلَدْنا الدَّمْ واحنا عُرسِكْ والعَريسْ وصامِدْ يا شعب بلادي ويا جبل ما يهزِّك ريحْ ينطلق الفرح من عقاله في ساحة القرية، يحضر العريس والعروس والجلوة والجاهة والهودج والحصان ويحضر الوطن... البهجة تغلف كل شيء، والإبداع سيد المشهد، مفاتن التراث لا حصر لها، ولا يتسع لها القول... هامش ـ جميع الأمثال الواردة من محفوظات الكاتبة وتم تدقيقها وفق كتاب “موسوعة الأمثال الشعبية الفلسطينية”، تأليف: محمد توفيق السهلي، الصادر عن الأقصى للدراسات والترجمة والنشر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©