الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النفس ليست ثوبا يُغسل بالوعظ

النفس ليست ثوبا يُغسل بالوعظ
19 ابريل 2012
“ليس من الجدير بنا، ونحن في القرن العشرين أن نفكّر على نمط ما كان يفكر به أسلافنا من وعّاظ السلاطين. آنَ لنا أن نفهم الطبيعة البشرية كما هي في الواقع، ونعترف بما فيها من نقائص غريزية لا يمكن التخلص منها. ثم نضع على أساس ذلك خطة الإصلاح المنشود. أما أن نعتبر الإنسان ملاكاً، ونطلب منه أن يسير في حياته سيرة الأنبياء والقديسين؛ فمعنى هذا أننا نطلب منه المستحيل..”. د.علي الوردي ـ وعَاظ السلاطين تلك الفقرات المختارة هي آخر ما ختم به الدكتور علي الوردي كتابه “وعّاظ السلاطين ـ رأي صريح في تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء المنطق الحديث” الذي أثار صدوره منتصف الخمسينيات من القرن العشرين ببغداد ـ كما ستثير كتبه اللاحقة ـ موجة من ردود الفعل المضادة والمستنكرة، شاركَ ـ وتشاركَ ـ فيها قوميون ويساريون وإسلاميون وليبراليون، كان لكل منهم أسبابه وحججه واعتراضاته. لكن استنكار المصارحة، وتطبيق الفكر النظري على الواقع، ومواجهة نُخَبه خاصة وأفراده عامة بعيوب تفكيرهم، وما أسماه الوردي ازدواجية الشخصية، كان هو القاسم المشترك بينها فيما يبدو لقراءتنا الاستعادية هذه، وبالرجوع للسياقات التي تحف بالكتاب، وزمن كتابة فصوله، والمرجعيات الفاعلة في كتابته وتلقيه، والجدل الذي دار حول أطروحته. الطبيعة البشرية والإصلاح تمثل كتابات علي الوردي مقاربة اجتماعية عامة بالمعنى التقليدي لمناهج البحث في علم الاجتماع، قبل الثورة المنهجية التي استثمرت الأنثروبولوجيا وتجديد نظريات علم الاجتماع بالإضافات البنيوية خاصة في الستينيات، ولكن الوردي حاول جاهداً تطبيق فرضيات ما تسلح به من الجهاز النظري لمقولات علم الاجتماع كما تعلم من دراسته وتخصصه في أميركا، وتأثره من جهة أخرى بالفكر الاجتماعي لابن خلدون، ولا سيما مقولاته في (المقدمة) حول التحضر والبداوة والسلوك الاجتماعي للفرد وتكوُّن الجماعة، وأثر ذلك في نشوء الدول وفنائها؛ فأسقط تلك النظريات على الواقع بشتى مسمياته: الفرد، والجماعة، والمؤسسة الدينية، والهيئة الاجتماعية، والسلطة الحاكمة، ثم تفحص البنى الفوقية لتلك العلاقات السائدة والفائضة عن طرق العيش والتقاليد الموروثة ووتيرة التقدم والوضع الاقتصادي والتعليمي، ومن أبرز تلك البنى التي تصادم معها الوردي هو التفكير اللاعقلاني المجسد بالسلوك والأخلاق والقيم والقناعات المولدة لها. واتخذ من التحديث منهجا له، فلا يكاد واحد من كتبه يخلو من وصف (الحديث) كما في كتابه “وعاظ السلاطين”، الذي ينص عنوانه الثانوي على أنه يقدم (رأياً صريحا) في (تاريخ) الفكر الإسلامي في ضوء المنطق (الحديث). والمقصود بالمنطق هنا هو التفكير العقلي العام كما يُستخدم في التداول العادي، وليس علم المنطق بالمصطلح الفلسفي المعروف، أو هو ضرب من العقلانية التي جاءت بها النهضة الحديثة لتواجه منظومة التقليد والمحددات الاجتماعية المواجهة للتقدم. وهذه إحدى مزايا كتابة الدكتور الوردي؛ فهو يستخدم المصطلحات بمعنى متوسع يأخذها بعيدا عن الحقل الذي تم سكُّها فيه. ولكن ما يلفت هنا إصرار الوردي على الموازنة او المقارنة بمنهج الحداثة، فقد كانت عودته للوطن شأن كثير من متعلمي ومتخصصي ومثقفي جيله من الدارسين الأوائل في الغرب تمثل صدمة فكرية له بسبب المقارنة بين ما رأى هناك وعاش، وبين ما يرى هنا ويعيش. ولذلك تميزت كتابات الوردي بميزة تسم عمله الفكري هي إيراد الأمثلة من واقعات ومسائل فردية تحصل له او يسمع بها؛ فكأنها تُناظر الأخبار والروايات في كتب التاريخ والتي يعتمدها أيضا كقرائن في محاكمته لمسيرة الفكر العربي وأحداث تاريخه الطويل. تلك الأمثلة المأخوذة غالبا من خبرات شخصية تتعلق بأفراد يمارسون عادات وسلوكا ويعتنقون فكرا وخلقا وقيما معينة، فتكون مادة البحث لدى الوردي في العادة مأخوذة من ملاحظة فردية حول سلوك فردي، بينما تؤكد القواعد العامة لعلم الاجتماع على أهمية فكر الجماعة ومعتنقها وسلوكها وليس العكس. وبجانب ذلك ثمة المعالجة النفسية المختلطة بالنظر الاجتماعي، وهو ما لاحظه دارسون كثيرون لأعمال الوردي، وسنرى في كتابه عن وعاظ السلاطين ندات نفسية متعددة مقدمة على انها سلوك اجتماعي ستتم إدانته ضمن صفقة من المرفوضات التي تعيق التفكير العقلي المتميز بالحداثة والعيش في العصر. ولكن دارسين آخرين يرون أنه يقترب من الأنثروبولوجيا بجدارة في معالجاته لطبيعة المجتمع العراقي والشخصية العراقية، وفضْحه ما يعتريها من تمزق وانشطار واحتذاء لما بَلِي من القيم والتمسك بالشعارات المفرغة من دلالاتها، ودراسته لظواهر فرعية كالأحلام والشعر والوعظ والأمثال والسنن الاجتماعية المتوارثة والممارسة الفردية للحياة، لكنه يشخص عبر ذلك كله مسألة ألحت عليه في كتاباته، كلها هي الأفلاطونية البائسة التي ترى في الفرد ملاكا بطبيعة بشرية منقاة وأن إصلاحه يتم في حال انحرافه بالوعظ وحثه على ترك تلك الطبائع متناسين ان الطبيعة البشرية والنفي خاصة ليست ثوبا يغسل بالوعظ؛ فيغدو نظيفا سليما. لأن الوعاظ بذلك يتجاوزون ما في النفس البشرية ذاتها من ازورار وانحراف ليس الوعظ سبيل تعديله وإصلاحه، لاسيما حين يكون الواعظ نفسه منشطر الشخصية يحث الناس على فعل ما لا يفعله هو، ويدعوهم لترك ما لا يتركه. ويرى في الطبيعة البشرية انحرافا يريد إصلاحه، متناسيا أن بعض تلك الطبائع لا يمكن تغييره. ولكنني لاحظت أن الوردي نفسه في مكان آخر هو كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” ينعى على الشعراء العرب القدامى تحللهم وشذوذهم، ولا يطبق نظريته في تأصل الطبائع والغرائز، كما يرى في الشعر كله عيوبا ومساوئ، منها أنه حليف للسيف ولعبادة الأوثان ودعم الحكومات وتعقيد النحو واللغة وتقديم الشذوذ حتى في ضمير المخاطب المذكر للمتغزل به، وأن للشعراء شخصيات ازدواجية؛ ففضلا عن الاستجداء لكسب العيش بالمدائح، تراهم يقولون ما لا يفعلون، غافلا عن كون ذلك الوصف لصالح الشعر والشعراء؛ لأنهم يقولون مجازا لا ضرورة أن يصدق في الفعل. كما يصف الشعر العربي بأن معانيه عجفاء ضحلة، وأنه لا يظل منه بالترجمة إلا تلك المعاني! وكانه يفترض مثلا عليا للشعر والشعراء فيصبح أفلاطونيا! بعد أن نقض الفكر الأفلاطوني في “وعاظ السلاطين” وعاب استقصاء أتباعه للمثل العليا كما يتخيلونها مجردة بعيدة. العلل الاجتماعية والعلاج الأفلاطوني يرد الوردي على من يُرجعون علة التفسخ أو الانحلال الاجتماعي إلى (سوء أخلاقنا)؛ لأنهم أفلاطونيون لايجيدون إلا إعلان الويل على الإنسان لانحرافه عما يتخيلون من مثل عليا، دون ملاحظة ما لا يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل.. ويكون الإصلاح في رأيهم هَينا من بعد، فهو يتم بإصلاح أخلاقنا “وغسل الحسد والأنانية والشهوة من نفوسنا؛ لنصبح سعداء مرفهين ونعيد مجد الأجداد!”. متناسين واقعا مدويا يشهد على أن النفس البشرية ليست ثوبا يغسل بالماء والصابون فيزول ما اعتراه من درن. ويرى الوردي “أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة، ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جبل عليه من صفات..”. لقد رأى الوردي ان الطبائع لا تتغير وهو قانون خلدوني، ويستنتج ان الوعاظ يظلون بعيدا عن الواقع فلا يستمع لمواعظهم أحد. ويكون المجتمع كما الفرد يعيش حالة من الفصام أو الازدواجية أحيانا. ويرصد الوردي ظواهر تعزز رأيه كالحجاب الذي استقصى منشأه ودوافعه؛ فوجد أنه ناتج عن قناعة بحجر المرأة لا سترها، ما يؤدي إلى الانحراف وشيوعه بين أوساط الوعاظ أنفسهم والذين رأى أنهم يسوغون للغني التصرف بما لديه من مال جوار وغلمان، فيما يحببون للفقراء بالمقابل هجر الدنيا بذمها وبيان دناءتها كشيء عابر يجب الزهد فيه. وينسل الوردي لحقل علم النفس؛ فيرى في النفس البشرية ازدواجا متأصلا بدوره ملخصه حب الإنسان للتملك والسيطرة والحكم، ويوجز بالقول إن في كل أحد منا نيرون على وجه من الوجوه، وأن العدالة لا تتحقق بمجرد أن تعظ الحاكم، فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان.. وما دام ثمة حاشية ومُلك ومال فالطبائع واحدة. جذور الظلم الاجتماعي لا يجرد الوردي الطبائع والوقائع من تسلسلها التاريخي بسبب علمية فكره ومنهجيته؛ لذا يغوص عميقا في الأخبار والمرويات ليؤصل ظاهرة الازدواج التي يرى انها أشد أثرا من سواها في تكوين الشخصية، ملاحظا ما تسبب به الوعاظ الذين يرشدون ويخطبون من اجل العدل وهم يدافعون عن الحاكمين الظلمة! ويعود لأحداث مفصلية في التاريخ الإسلامي تؤيد ما ذهب إليه، كما يتامل نشوء المدينة، وتكوَن الدولة بظهور المدنية كتجاوز للقبيلة وبديل لها، ولكن المدينة سرعان ما تصبح مكانا للحكام المتسلطين والظلم الاجتماعي، وكان للمدينة أثرها السلبي رغم انها عمرت المدن وشجعت العلوم والفنون، لكنها أنمت الاستغلال، واستعبدت البشر، وكل ما يتغنى به الناس من مجد وآثار ليست إلا أشياء “أقيمت بدموع البائسين وعجنت بدمائهم.. وهي دلائل على الظلم الشنيع”، والمدن في الخلاصة مثلت “تقدما ماديا يصاحبه تأخر اجتماعي”. والأهم ما تركته المدن من طبائع وممارسات سجلها التاريخ الإسلامي أيضا. لقد نوَه الوردي بالديمقراطية سبيلا لحياة حديثة، وقدّم من مشاهداته ما يدعم رأيه، مؤكدا عدم حاجتنا لنفيها عبرالمجتمع والدين؛ لأننا بحاجة لديانة لا كهانة، وبذا وجد في وعاظ السلاطين نموذجا لاجترار الظلم والدفاع عن الحاكم، فجعلوا الهروب إلى الماضي وأمجاده سببا في تناسي الظلم القائم والمتسلط على الرقاب. وبهذا التناول الصريح والمباشر حقق الوردي أكثر من غرض: قراءة جديدة للتاريخ، ومعاينة حادة للمجتمع وما تتحكم فيه من قيم تعارض التقدم وتكرس الازدواجية في الشخصية والسلوك. وقرنَ بين الأكاديمية والواقع الماثل؛ فأنزل مقولات علم الاجتماع لتنطبق على حاضر يدعو للأسى ويتطلب المواجهة لتغييره واللحاق بالعصر، رغم ما في تلك المواجهة حينها من فدائية ومعاناة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©