الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نصف البيان

نصف البيان
19 ابريل 2012
تحمل الدورة الخامسة لملتقى الشارقة للخط والتي تقام بين 1 ابريل، ولغاية 1 مايو 2012 مسمى “كون”، وهو اسم متعدد الدلالات، فهو من جهة يشير إلى تلك المعاني الثقافية التي تتعلق بالحروف وفلسفتها المرتبطة بالحياة والموت وحكة الأجرام والكواكب، وإلى الخطوط ودلالالتها وجماليتها، ومن جهة أخرى التأكيد على الانفتاح على الثقافات البشرية، وعلاقاتها، والتأثر والتأثير المتبادل فيما بينها، ليحقق هذا الملتقى أحد أهم أهدافه وهو التواصل الثقافي بين المجتمعات والحضارات الإنسانية. ولا يقل أهمية عن ذلك الفضاء الاستثنائي والفريد من نوعه في العالم الذي حرص صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة على تخصيصه لاحتضان فنون الخط العربي والإسلامي، والزخرفة بأنواعها، وهيئاتها، وتأمين التقنيات الخاصة بها وهو ساحة الخط في منطقة التراث في الشارقة، ليصبح ملتقى الشارقة للخط أكبر تظاهرة دولية فريدة في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك يضم هذا الملتقى، المعرض الرئيس للخط، والمعارض الدولية الموازية له، ومعرض الحرفية، ومعرض جمعية الإمارات للتصوير الضوئي، بالإضافة إلى الندوة الدولية التي حملت عنوان “كونية الحرف”، مما أضاف الى هذا الملتقى حراكا نقديا تجلى في تنوع المدارس الخطية والزخرفية والمعمارية، وفي الحوار الدائم مابين الأصالة والالتزام بالقواعد التي تتعلق بالتوازن الأفقي والعمودي للوحة الخطية، وبين التجريب والحروفية، والتشكيل والنحت، والصور. الخط باعتباره فلسفة لقد شكل ملتقى الشارقة للخط في دورته “الكونية” مناسبة مهمة للتعرف على آخر ماتوصل إليه هذا الفن، ومدى تأثره بالتطورات الفكرية والثقافية العالمية، وطرح من جديد النقاش حول العلاقة بين الخط ككتابة تقلب الجوهر نفسه للغة عند نقلها إلى فضاء خاص هو بين الرسم، والكتابة، والموسيقى. فالخط العربي مثله مثل الصيني كتابة صامتة للدليل، وبلاغة بعيدة الدلالة، كما أن الكتابة الخطية نظام للصور البلاغية يدفع باللغة نحو حوار متداخل دلاليا. ويبدو ان هذا النقاش يثير اليوم العديد من الأسئلة حول مدى التأثير الذي يتركه الأثر الخطي من حيث القدرة على التأثير على المتلقي، وهذا ماتجلى واضحا في الكثير من الأعمال المعروضة، فثمة اتجاه يؤكد على أن الخط العربي هو في حقيقته أبداع تشكيلي له عناصره، وفلسفته، وحركاته العضوية، ومعانيه، وإيحاءاته، لذلك يرى البعض بأن المحاولات التي تذهب إلى إعطاء الخط بعدا تشخيصيا فتطوعه ليخدم لوحة التصوير هو واحدة من مظاهر تردي الخط العربي ـ على حد تعبير د. اشرف عباس ـ فالخط، برأيه، هو الصورة في المطلق لأنه يقوم على مظاهر الوجود، هو نظام دوران الكواكب، وهو نظام نمو الأوراق فلماذا نقلل أو نجتزئ من قدرته لنرسم جناحا بدل الطيران. وينطلق آخرون من مفاهيم تؤكد على أهمية الموازنة بين الخط، وبين اللفظ فالأصل أن الخط واللفظ يتقاسمان البيان، ويشتركان فيهما من حيث إن الخط “دال على الألفاظ، والألفاظ دالة على الأوهام” كما يقول القلقشندي. ولذلك يقول اللغويين العرب بأن “القلم احد اللسانين”، وكان أفلاطون وصف القلم بأنه روح الكلام الهندسية، وحرص القلقشندي على اعتبار الخط أفضل من اللفظ، لأن اللفظ يفهم الحاضر فقط، والخط يفهم الحاضر والغائب. وحسب نظرية الجاحظ عن البيان والقائمة على مفهوم الإظهار والكشف، فإن البيان السليم يحتوي على خمسة أشياء: اللفظ، الإشارة، العقد (العد من غير كلام أو كتابة)، الخط، النصية وتعني كلمات مثل الأرض، والسماء، والريح، وهي تستلهم النظريات الكوكبية عن الكتابة العربية، عند مطابقة هذه الحروف الهجائية بالدورة القمرية، وينطبق هذا القول على طريقة الكتابة من اليمين أو اليسار، ففي الحالة الأولى تتبع اليد حرك الكواكب التي تندفع من الشرق الى الغرب، وفي الحالة الثانية تتبع اليد حركة الكواكب السبعة وهي تندفع في الاتجاه المعاكس. تشكل هذه الآراء الفلسفية وغيرها تلخيصا للاتجاهات الخطية والزخرفية والحروفية والمعمارية اليوم في مجال فن الخط والكتابة، والتي تؤكد على أهمية الخط وجماياته وتكويناته ليصبح مثل الكائن الحي يعيش وبتنفس ويحلم، لأن الكلام من غير كتابة “كأنه ميت” كما يقول ابن خلدون. كما أن سوزان سونتاج تفاضل بين الكتابة والصورة فهي تقول: “هناك عقبتان تحولان دون اعتبار الصورة لغة، الصورة ليس لها معنى لفظي، وليس فيها معجم أو تركيب يعطي معاني نحوية، وإن كان للصور شكل وعرف وقواعد”. الهوية الكونية إن ما يميز ملتقى الشارقة للخط هو “الثيمة” الكونية التي أضفاها على دورته الخامسة هذه، الأمر الذي أعطاه بعدا ثقافيا يتعلق بتلاقي الحضارات لاتنافرها، ذلك أن مفهوم الهوية الكونية ـ كما يقول د. جمال نجا ـ هو مصطلح معرفي فلسفي أنثروبولوجي، ولقد وجد هذا المفهوم عند كانط وعند هيغل في كتابه “العقل في التاريخ”، وهذه الكونية تتجلى في الانفتاح على الآخر من دون التخلي عن الشخصية الفردية والخصوصية. يظهر المعرض الرئيسي للملتقى تنوعا إبداعيا مذهلا في فن الخط الذي يلتزم الأصول الكلاسيكية والقواعد، ويستلهم أسماء الله الحسنى، والآيات القرآنية، والحكم، والأمثال، والحروف، وهذه الأعمال تبرز أن الخط المكتوب بلغة مثيرة، وموسيقية تحول صور اللغة نفسها إلى جملة تملية، فالخط يركب مع اللغة، ومابعدها جدولا ذا مستويات ثلاثة أولها صوتي، وثانيها دلالي، وثالثها هندسي يعتمد على لعبة أشكال وصور، ولذلك شبه كلود ليفي ستراوس الموسيقى بالرسم الخطي، في حين قال سترافنسكي إن الموسيقى هي خط قبل كل شيء. ويظهر الملتقى أن حركة الخطاط العربي تحترم هذا التنظيم فهو يركب الحروف، ثم يؤلف بينها، ثم يشكلها وأخيرا، يزين القول بكامله. ولعل جمال الخط ينطلق من تحليله ضمن تلك العلاقة الحميمية بين الأشكال البلاغية والتركيبية المتجلية، والهاذية للحرف. وثمة علاقة وثيقة بين الخط العربي وقد بلغت هذه العلاقة إحدى ذرواتها في قصور الحمراء في غرناطة. إنها عمارة نصوص، وخطوط بامتياز حيث يندمج الحرف في التخطيطات الزخرفية، وينظمها، بل ويشكل هيكل البناء نفسه. ويتحول الخط العربي فيها إلى أشكال معمارية تظهر فيها الأشجار، والأزهار، والأعمدة، والأقواس، والآيات، القرآنية، والأدعية، والحكم، والقصائد بحيث يمكن القول إن الحمراء هي العمارة الأكثر شعرية، وإن شعرها غدا الشعر الأكثر عمارة صورة ومعنى. يقدم هذا الملتقى أيضا نماذج أخرى للكتابة تتخطى التخطيط وقواعده نحو التجريب على إمكانيات جمالية جديدة لاتستخدم القلم والريشة والأحبار فحسب، بل تذهب إلى استخدام الفرو والنسيج والشعر والزجاج والنحت أيضا، كما تصبح الكتابة أحيانا جزءا من تكوين اللوحة التشكيلية، أو تكون الحروف أشكالا، وأجسادا متحركة بعضوية ذاتية انفعالية متممة للوحة الخط. تلك اتجاهات قد تلقى إقبالا عند بعض النقاد والفنانين، لكنها تعاني ايضا من هجوم شرس عليها باعتبارها تدهورا في جماليات وفلسفة الخط العربي. بين الحروف والألوان يكشف معرض الحروفية اليابانية ـ ستة فنانين ينتمون إلى أجيال مختلفة ـ عن تنوع الرؤى والمدارس في اليابان، مابين الالتزام الصارم بالقواعد، ومابين الذهاب نحو اللوحة التجريدية المعاصرة والصورة التي تتحرر من فضاء الكلمة التقليدي. ويستفيض الأميركي ايبون هيث في طرح أعماله التركيبية المؤلفة في الغالب من أطر زجاجية، وخشبية، وشرائح طباعية تضم كتابات، وأحرف إنجليزية تتخذ مساراتها ضمن المكون التركيبي العام الذي يقترحه الفنان متكئا على عدد من المسطحات المتموجة، والمسارات المنحنية المعلقة من أعلى، وهو يؤلف مقطوعاته البصرية متنقلا بين كل البساطة والتعقيد، ومستفيدا كذلك من هيئة الأحرف الرقمية باعتبارها المفردات التشكيلية الأساسية التي يقوم عليها انتاج عمله الفني. وتستخدم المغربية للا السعيدي خامات مختلفة مثل النسيج لتطرح فوق مساحاتها رؤيتها للإنسان، والخط والزخرف. فيما نتلمس عند المغربي الحسن ميموني علاقته القوية مع جماليات الخط المغربي، وشغفه بالبصمات والحركات، كما انه نادرا ما يلجأ الى التجريد المطلق نظرا لكون الأشياء تطغى على مخيلته، وتحتل من اللوحة أساسها. ولعل هذا هو السبب الحقيقي لاختيار الحسين ميموني تقنية الحفر في معظم أعماله، حيث يتحول الحفر هنا إلى كتابة تنقش اسم صاحبها في فضاء، وفي زمن الوطن الأصلي لهذا الفنان المهاجر الذي يعتقد أن الإقامة في الوطن تشبه الإقامة في جنة من سحاب. أما المغربي نور الدين ضيف الله فيعتمد على مبدأ الإبعاد، بدءا بإقصاء النقط والعلامات الخاصة بالخط العربي من أعماله، مثلما استغنى عن حركات الشكل، وكأنه يحاول إسكات صوت الخط العربي ليفسح المجال لغة لوحاته بان تتكلم، كما نلاحظ أثر التراث في أعماله دوما. ومن السودان تضعنا أعمال الفنان حسن موسى أمام فلسفة عميقة تحتمل الشيء ونقيضه، بين الشمال واليمين، الأسفل والأعلى. الكتابة من اليمين إلى اليسار وبالعكس. وتتألف لوحات المصرية مروة عادل من طبقات متعددة مع اهتمام شديد بالتفاصيل الدقيقة، وهي تصور الشخوص في لوحاتها، لتملأ هذه المساحة بعد ذلك بطبقات متتابعة من الأحرف الأبجدية والألوان التي تفرض نفسها بقوة من فوق الصورة لتتحول من مجرد زينة إلى عنصر وجزء لا يتجزأ من العمل الفني النهائي الذي تصفه مروة بقولها “إنه يمثل نافذة مطلة على ذكرياتي”. تستوقفنا في المعرض العام أعمال آدم صقال (تركيا) حيث تعتمد لوحاته الخطية على مجموعة من تراكيب المقاطع، والأحرف ذات الامتدادات الرأسية، والأفقية، والمائلة، والمنحنية بما يؤسس لعمل خطي ينجح في الإفادة من العلاقات التشكيلية القائمة بين مسطحات الأحرف وما يحيط بها ويتخللها من فراغات. وهو يبدع أعماله مستلهما جماليات خط الثلث الجلي والنسخ والرقعة التي أمكن له أن يوظفها في إنتاج مجموعة كبيرة من اللوحات الخطية المشتملة في الغالب على نصوص دينية. ومن مصر يعتمد أحمد الهواري على خطوط الثلث الجلي حيث يمكنه السيطرة على معظم المساحة المراد شغلها بالكتابات. في الكثير من أعماله تتلاحم هذه الكتابات لتقلل من الفراغات بين الحروف، والكلمات، والتي غالبا مايشغله الخطاط بعلامات التشكيل التي تتخذ سمكا اقل من سمك الكلمات، والأحرف المخطوطة. ويعمل احمد عبد العزيز من مصر يعمل في نطاق اللوحة الكوفية خاطا بعض آيات وسور القرآن الكريم بأسلوب تغلب عليه البساطة الشكلية كما انه يميل لتحوير لفظ الجلالة مشتقا منه وحدة زخرفية تجد مكانها إلى مساحة ضمن البناء الكلي لبعض لوحاته الخطية. ومن مصر أيضا يرتكز مشروع أمل حافظ الخطي على إعادة صوغ العلاقات القائمة فيما بين الأحرف المرسومة بالخط الكوفي المعاصر وبعضها البعض مع ميلها لتطعيم التصميم الخطي الهندسي الطابع بمجموعة من الزخارف الشهيرة المؤلفة من أوراق نباتية محورة، ووحدات هندسية. ومن العراق تتخذ كتابات أحمد عبد الرحمن نسقا خارجيا منضبطا حيث تنطلق الحروف وتتحرك وتنثني وتمتد في علاقات متوافقة لاتتجاوز ذلك النسق الخارجي المحسوس بوجوده دون أن يرى صراحة حيث لم يشأ الخطاط أن يضع إطارا أو حدا ظاهرا يقيد ويحجم كتاباته. ومن العراق أيضا يرتكز عمل احمد فارس ألعمري على مختارات من النصوص الدينية والأشعار التي يجيد خطها عبر إقامة العلائق التركيبية المنضبطة التي تشي بتمرسه في العمل تبعا لميزان الخط وهو غالبا مايميل إلى التنوع في بناء لوحاته بين البناء المتناظر والبناء الطولي الممتد الى جانبي اللوحة. من سوريا تكشف أعمال احمد عبد اللطيف عن تقيده بالقواعد الكلاسيكية الرصينة للخط الديواني الذي يعتمد عليه كثيرا في لوحاه المشتملة على سور وآيات من القرآن الكريم والحكم الإنسانية والتي غالبا ما يتخير الأحبار السوداء في صبغ كلماتها بصبغة واحدة فقط دون ان يستخدم أكثر من لون في العمل الواحد. أما احمد مازادي من إيران فيميل إلى البساطة في هيئة وتركيب لوحته، وهي تستجيب للقواعد الكلاسيكية المقننة للعمل، ويؤالف بين حروفه وقاطع الكلمات وتوزيعها في بناء خطي يتألف من عدة مستويات أفقية، وتقع فوق بعضها البعض. ويجيد الإيراني أمير فلسفي العمل وفقا لقواعد وقوانين الأنماط الخطية الأصيلة، ويسعى في بعض أعماله إلى المزاوجة بين تلك الأنماط وغيرها. وأخيرا يصعب كثيرا الكتابة عن أعمال العشرات من الخطاطين والحروفيين العرب والأجانب الذين شملهم هذا الملتقى، إلا أن كل واحد منهم يشكل دون شك مدرسة ابداعية، مهما اختلفت الرؤى والاتجاهات والأساليب فيما سيبقى ملتقى الشارقة للخط منارة عالمية للابداع ولابراز جماليات الحروف والكتابة سواء وفق القواعد المعروفة الصارمة، او من خلال التجريب على المادة الخام وعلى العلاقة بين الحروف والصور والفن التشكيلي، وتلك موضوعات هامة وآنية تستحق الحوار حولها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©