الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حياة على سبيل المَجاز

حياة على سبيل المَجاز
17 أغسطس 2016 20:28
سعيد بنگراد تستند رواية نبيل سليمان الأخيرة «ليل العالم» في بناء عوالمها إلى «رغبة» أو «رهبة» من ظلام آت لا يمكن رده، فهي ليست سوى محاولة لاستعادة بداية جديدة تتم في السرد ضداً على نهاية عالم تتم في الحقيقة التاريخية، فما ضيعته السياسة والأيديولوجيا والتحكم والاستبداد يمكن استعادته من خلال السرد. فالذاكرة توجد دائماً خارج سلطة الحاكم. إنها المادة «الطيعة» التي تُعاد من خلالها صياغة كل شيء: التاريخ والسيرة وكتابة الحاضر، بل واستشراف المستقبل أيضاً، فعندما ينحسر «الصَّبيب» الزمني أو تجف منابعه لن يقتات السرد سوى مما خزنته الذاكرة واحتفت به. تحاكي الرواية، من خلال ذلك، زمنية فعلية، ولكنها تُدَبِّرها وفق قوانين توجد خارجها، ومنها صيغ الشهادة والرسائل والمذكرات والإحالات الرمزية على وقائع هي من صلب التاريخ، ولكنها تغتني، في الرواية، بكل ما يجعلها مألوفة في عين القارئ: إنها كُتبت بصيغة من يُشْهِد كل الناس على حالة عالم يهدده الظلام من كل الجهات. وذاك ما يوحي به العنوان ذاته حين يجعل «الرقة» رمزاً لعالم ينهار بالمباشر في الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، ويُعاد بناؤه، في الوقت ذاته، في الرواية من خلال أصوات سردية تُسقط «الآتي الغامض» من خلال الإصرار على الاغتسال في ماء الفرات، في الحياة وفي الممات. إسقاط وترميز تبدأ الرواية بإسقاط رمزي كثيف: يعلن السارد عن تأسيس الخلافة الإسلامية، وعن شنق امرأة (هفاف) في الوقت ذاته: يأتي المنادي في ما يشبه صوتاً آتياً من أرشيف ذاكرة تقتات من مخلفات ماضٍ لا يريد أن يختفي. لقد اتسعت دائرة «الدولة» وضاقت المدينة بأهلها وخلت شوارعها من الحياة، كَبَّر البعض وأجهش بالبكاء، كما سيفعل منيب خوفاً لا رهبة. يتعلق الأمر بأجواء «جنائزية: تختلط فيها كل المقامات، مقامات الصحوة الأبدية ومقامات النار: الخلود للماضي وحده، والموت للمارقين. إن الحدث الأول حقيقة في التاريخ، أما الثاني فحقيقة في الرمز وحده، دون أن يقود هذا التباين بينهما إلى الفصل بين الأول والثاني. فهفاف العايد امرأة من الشعب، بسيرة وانتماء ورغبات وشهوة، وبهذه الصفات تحضر في الرواية، ولكنها يمكن، بقليل من الانزياح الدلالي، أن تصبح رمزاً للمدينة كلها. لذلك يبدو السارد بصيغة الغائب «هو» الذي يباشر السرد بعد فسحة الافتتاح الروائي بالأنا، وكأنه صوت غريب عن الرواية، ولكنه هو الوسيلة الوحيدة لاستدراج منيب إلى الحدث السردي صوتاً وشخصية وخزاناً لمعرفة تنتشر في الرواية من خلال الملفوظ الحكائي ومن خلال صيغ التلفظ السردي. إن الأول يشاهد من «الخارج» ويروي تفاصيل الحياة في الرقة «المحتلة»، أما الثاني فجزء من منتجات هذه المدينة وجزء من ذاكرتها القديمة والحديثة. هم غزاة طارئون لا يعرفون من المدينة سوى واجهاتها البرانية، وهو جزء منها وفيها كانت أحلامه ومغامرات شبابه. إن منيب شخصية عارفة بما يجري في المدينة كلها، فهو تارة «أنا» تصف حالها ضمن أفق سردي محدود، وهو تارة أخرى «هو»، أي محفل قابض على خطوط الفعل السردي وقادر على توجيهها وفق مشيئة الأنا الأولى، ولكنه من خلال موقعه ذاك، يوزع هذه المعرفة من خلال أصوات تكشف، في الحوار والرسائل والمشاهد الموصوفة، عن برامج سردية متنوعة، ولكنها غير موجهة بما يضمن استشراف «مخرج» للسرد والحكاية على حد سواء، فلا أحد من الشخصيات يعرف فحوى هذه البرامج أو مآلها، لأنه لا أحد يستطيع التكهن بنهاية الرواية: موسى يناضل ضد داعش، ولا نعرف وفق أي أفق، وكذلك الأمر مع إسلام وهفاف وآخرين. وهذا ما يفسر طبيعة النمط السردي المعتمد في تشخيص الحدث، فالرواية لا تلتفت إلى الحرب والاقتتال والتطاحن بين الفصائل، إنها تُعد، من داخل المدينة ذاتها، أي من داخل فضاء مفترض في السرد، مساحة جديدة قادرة على استيعاب أفعال شخصيات هي النموذج، أو الصورة الكلية، لما يمكن أن تكون عليه حياة الناس تحت احتلال قَلَّ نظيره في التاريخ، فهو احتلال من الداخل الديني والثقافي والحضاري. إنها تُشخص، ضمن خارطة المتخيل السردي، قصة مجموعة من الشخصيات آثرت البقاء في الرقة ومواجهة «الحاكم الجديد» بالكلمات وحدها. كانوا خليطاً من الناس جامعهم الوحيد هو حب الرقة، أي الانتماء إلى مدينة هي جزء من الوطن، وجزء من هويتهم، وهي، فوق هذا وذاك، مستودع ذكرياتهم، ولا شيء غير ذلك. وعلى هذا الأساس، ستكون البداية في السرد هي النهاية في الحكاية، ذلك أن الموت المعلن عنه في الرواية هو ما سيمكن السارد من بعث الحياة في المقتول ليصبح شخصية رئيسية في الرواية. ماتت هفاف مشنوقة وألقي بها في الماء. وتبدأ الرواية لكي تعيد إليها الحياة وتسترد صوتها وتفاصيل حياتها، وستظل حية في الرواية إلى نهايتها، وكأن مبرر السرد كله هو هذه الاستعادة بالذات: أنتم قتلتم هفاف شنقاً ونحن نخلق مثلها وأكثر منها في الحياة. وفي المقابل، تتحرك الكائنات المضادة وكأنها أشباح أو كائنات خرجت من «الكتب القديمة» لكي تطرد كائنات الحياة من الشوارع. وبذلك لن تكون الإحالة الرمزية هنا انزياحاً عن الرصد «الواقعي» للوقائع، بل هي سلطة سردية مضافة تتجاوز حدود الفعل الواقعي لتتلبس به إلى الحد الذي يجعل وصف الحقائق مستحيلاً خارج امتزاجه بما يأتي به الخيال ويجيزه، وذاك ما يمنح المرأة المقتولة امتداداتها خارج حادثة الشنق، فالإعلان عن الموت قبل ما يعلله في الحدث هو في الجوهر صيغة سردية لتفصيل القول في «الشهادة»، فبدءاً من لحظة الموت هاته لن يكف القارئ عن التقاط كل ما يمكن أن يجعل هفاف امرأة شجاعة ومناضلة ضد العسف والاستبداد ليصل في النهاية إلى تصنيفها ضمن القديسات (جان دارك وما شابهها). سلطة الذاكرة إن الرواية سرد مسترسل لذكريات وإحالة على وقائع معيش يومي بمشتقاته في السياسة والثقافة والوظائف الإدارية، ولكنها ظلت، بهذه الصيغة التمثيلية ذاتها، وفية، من زاوية البناء الفني، لسلطة صوت سردي هو الوعي المركزي الذي يتم من خلاله تصريف الزمن والأحداث والحركة في الفضاء، ومن خلاله أيضاً تتحدد مواقع الشخصيات ضمن خريطة البناء الحكائي في مجمله من حيث الانتشار في الفضاء القيمي العام للرواية (عوالم داعش وعوالم المعارضين)، ومن حيث «الغايات» المعلنة أو الضمنية أو الملتبسة: لا نتبين عادة في الحروب الدينية أي شيء من الفعل عدا كونه دفاعاً عن هوية أو مذهب أو انتماء طائفي: الكل يقاتل ضد الكل، ووجود طرف رهين بالقضاء على الطرف الآخر. إننا ننتقل، وفق هذه الصيغة السردية التي اعتمدتها الرواية سبيلاً لتمثيل عوالمها، مما يمكن أن يقدمه الفعل الحدثي حافياً، كما هو الفعل غُفلاً (ما يعرفه الناس عن الرقة في الحقيقة التاريخية)، إلى ما يمكن أن يُضيفه الغطاء التخييلي كما يتحقق في عوالم الممكن بكل امتداداته في السرد والحكاية، وهو الانتقال الذي يقود القارئ إلى إسقاط تقابل مركزي بين المضمون الاحتمالي للرواية، كما يُبنى وفق منطق التخييل في صياغة حدود «الحقيقة»، وبين فعل سردي يمتح أحداثه من الخيال، ولكنه محاصر في «الواقع» بالكثير من محددات التاريخ الراهن. إن «الوفرة» في الأحداث وأشكال الاستعادة الدائمة لوقائع من الماضي ليست «ثرثرة» بلا طائل. إنها مقصودة، فهي جزء من استراتيجية سردية تجعل الحدث المروي في الماضي غطاءً لغيابه في الحاضر: لم يعد في الرقة ما يُروى، اختفت الحياة من الشوارع وانتفت فرص المتعة والتغني بجمال الأشياء والبنايات والنساء. لم يعد الناس يمارسون حياتهم في الواقع، إنهم يعيشون على إيقاع موت وشيك (الميليشيات التي تجوب الشوارع بحثاً عن الخارجين عن دين الله)، أو موت مؤجل، لقد ولد الإنسان لكي يموت لا لكي يحيا. كل شيء أسود، كما يمكن أن تشير إلى ذلك الإحالات الممكنة للسواد المجلل بالبياض في الراية، إنه تجسيد تشكيلي لتقاطب مانوي يجعل الحياة غير قابلة للقسمة: إما معي أو ضدي، فأنا الناطق باسم الله في الأرض. وبهذه الصيغة، لن تكون الراية هنا رمزاً للوطن، كما هي كل الرايات في العالم حيث التعدد في الألوان ثراء وتعدد في القيم، بل هي تمثيل لعالم قيمي قائم على حقيقة واحدة. وبذلك تكون هذه الوفرة هي البديل الممكن لكل أشكال القحط والقفر واليباب الذي يميز الحياة في المدينة المنكوبة، يتكلم الناس كثيراً في منازلهم لأنهم فقدوا فرصة الحياة في الشوارع، أو يَسْتَحْلِبون ذاكرتهم لكي تأتي بالحدث جميلاً كما كان. وهذه الحاجة هي التي تدفع السارد إلى توزيع المادة الحكائية على سرد مباشر وسرد استعادي ثم رسائل تتخذ شكل يوميات والكثير من مشاهد التذكر في الحوار المباشر أو الداخلي، يفعل ذلك كله لكي يجنب القارئ ملل الاسترسال الكرونولوجي، وليُضَمّن كل مقطع أقصى قدر من الانفعال، فالذكرى والذكريات والتذكر وسْم خاص للزمن، ذلك أن التجارب الزمنية هي ما يَفْضُل في النفس مما ولّى إلى الأبد. فلا أفق للسرد إذاً، لقد انتهت الحكاية بموت هفاف، ووحده التطهر في الماء يمكن أن يعيد إلى الروح بعضاً من صفائها. وسيصرح موسى، بعد تطواف على الفصائل، بهزيمته وانكساره. وذاك ختم القول في المتاح السردي. لقد استعاد السارد الكلي صوته وغطى على جميع الأصوات دليلاً على نهاية الحكاية وعلى سكون سيعُم الكون كله: ماتت هفاف مشنوقة وألقي بها في النهر، وانتحرت سنية التي رفضت الزواج من مقاتل داعشي، وألقي بجثتها في النهر هي الأخرى، وسيُكبل منيب وموسى ويُلقى بهما في النهر أيضاً. لقد وضع منيب وموسى في قفص وألقي بهم في النهر. في قاع النهر، أي عند الحد الأقصى من كل حالات القهر تلوح بارقة الأمل ويستعيد الإنسان جزءاً من طهارته الأصلية، وهي أقصى حالات التمثيل الرمزي. لن يكون الغرق النهائي سوى إسقاط لحالة تطهر مثلى، ما يشبه الطوفان الذي تتجدد من خلاله الإنسانية وتستعيد جزءاً من ذاكرتها. لقد ضاقت سوريا بطغاتها، ولم يبق أمام منيب وأمثاله سوى العودة إلى الماء، منبع الحياة ومادتها الأولى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©