الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

براغ.. المتألقة بالوشاح الأبيض تحت صفر الزمان

براغ.. المتألقة بالوشاح الأبيض تحت صفر الزمان
19 يناير 2010 21:48
وصلت براغ العاصمة التشيكية في ساعات الصباح الأولى، وكانت المدينة لا تزال تغرق في الثلج الأبيض، الذي كان يهبط طوال الليلة الماضية بشكل ذرات صغيرة لطيفة ليست باردة كما كنت أتخيل، لكن الطقس بشكل عام كان بارداً جداً، كانت درجة الحرارة نزيد على خمس درجات تحت الصفر. كانت هذه تجربة مختلفة، وبالرغم من إعجابي بالطقس البارد إلى حد ما، غير أن البرد هنا لا يحتمل، خصوصاً أن تيارات الهواء تزيد من برودة الطقس لدرجة التجمد.. تجمدت يداي أو كادت، وكذلك رأسي عندما لفحني تيار الهواء البارد ما أن خرجت من محطة القطار.. وربما احتجت لبضع دقائق لأتعرف إلى مضيفي الذي كان ينتظرني قريباً من مخرج محطة القطار، وهو شاب من أصل لبناني، ولأنني لا أعرفه ولا هو يعرفني قبل هذا اليوم إلا عبر الهاتف. فقد تلفت حولي مراراً، وقرأت لافتات كتبت عليها أسماء مسافرين قادمين، يحملها أشخاص ينتظرون أيضاً خارج محطة القطار.. ووجدت نفسي أمام شاب شرقي منهمك في حوار هاتفي جدلي، فخمنت أنه مضيفي، وانتظرت لينهي مكالمته، وما أن رآني حتى عرفني بدوره، فالدم العربي يحن لأصله وهو لا يصبح ماء على الإطلاق، وهكذا ركبت في سيارته ليأخذني إلى مقر إقامتي في وسط المدينة. هذا الشاب اللبناني يعيش في براغ منذ خمسة وعشرين عاماً، جاء طالباً يدرس الهندسة المدنية، لكن المدينة أسرته فاستقر بها وأسس أعمالاً خاصة مستغلاً المناخ الاقتصادي في تلك الحقبة الاشتراكية، وزادت فرصه بعد انهيار الاشتراكية فتطورت أعماله، وهو اليوم وكيل لشركات سفر وسياحة علاجية في الإمارات والخليج. عراقة القِدم أول ما يبهرك في هذه المدينة هو مبانيها القديمة التي تبقى شاهداً على عراقة تاريخها وتوغلها في القدم، فيرجع تاريخ بنائها إلى نحو عشرة قرون خلت. وسرعان ما تكتشف من أول جولة في المدينة أن تطور فن المعمار الأوربي قد ترك فيها شاهداً حياً على كل المدارس المعمارية.. وليس بالإمكان سوى إبداء الإعجاب بالمباني الرومانية، والقوطية، ومباني عصر النهضة، وعصر الباروك، والعصر الكلاسيكي، أو مختلف عناصر وسمات عصور تقليد المدارس المعمارية الأقدم، أو مدرسة الفن الحديث. وتعتبر براغ أو Praha براها، كما يسميها أهلها، أكبر المدن التشيكية، ويخترقها نهر فلتافا وهي تقع في وسط منطقة بوهيميا التاريخية. وبخلاف الكثير من مدن أوروبا الوسطى، لم تدمر المدينة بشكل كبير في الحرب العالمية الثانية، وحافظت على شكلها الجميل. ويطلق البعض عليها اسم المدينة الذهبية، وآخرون يسمونها أم المدن وقلب أوروبا وتعرف أيضاً بالمدينة ذات المئة برج نظراً لكثرة الأبراج فوق كنائسها وقصورها، كما تعرف أيضاً بأنها مدينة الجسور، وفي عام 1992 أُدرجت في لائحة “اليونسكو” كموقع تراث ثقافي عالمي لكثرة كنائسها وكاتدرائياتها وقلاعها القديمة. عرب المدينة لا يشكل العرب والمسلمون جالية كبيرة هنا، ولا يتجاوز عددهم عدة مئات وأغلبهم جاءوا من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق. وكان أشهرهم الشاعر العربي محمد الجواهري الذي عاش فيها نحو 30 عاماً. لكنني التقيت بعدد منهم، وتناولت طعامي في مطاعمهم التي تلقى رواجاً وكان العاملون فيها عرب وبعض منهم كان يكمل دراسته للحصول على درجة الدكتوراة، وشعرت بنوع من الحياء أن يخدمني شاب فلسطيني يدرس لشهادة الدكتوراة في القانون ومازحته، وطلبت منه أن يستريح وعلينا نحن أن نخدمه. وكان ذلك في مطعم يملكه الشاب اللبناني. ركبت سيارات أجرة يقودها شبان عرب، واللبنانيون شطّار أينما يحلون وهم هنا أكبر جالية عربية ويعملون ويملكون مطاعم ومحال ومكاتب سفر وسياحة، لكن العرب لا يشكلون تجمعاً واضحاً، ويمكن القول إنهم ينصهرون في المجتمع التشيكي الودود، وإن حافظوا على عاداتهم ولغتهم.. معالم بلون الثلج من أعلى قلعة براغ تتراءى لك سفوح التلال التي تقوم عليها القلعة التاريخية هذه التلال تشهد على محاولة رائعة لمزج الفن المعماري والبناء في عصر الباروك للربط بين بناء القلاع والقصور الفخمة من جهة، وبين غرس البساتين والحدائق التي تلف في ثناياها بيوتاً خشبية صغيرة، وممرات مسقوفة بينها استراحات هادئة من جهة أخرى، الأمر الذي يكشف لك أن هذه المدينة جميلة أيضاً بخضرتها وهضابها وزهورها في فصلي الصيف والربيع، غير أننا الآن في فصل الشتاء، وكل شيء هنا موشح بالثلج الأبيض. ويستكمل وجه براغ ملامحه بخمسة عشر جسراً، أربعة عشر منها تصل بين ضفتي نهر فلتافا، فيما يمر الأخير فوق وادي نوسله الفسيح. أما أقدم هذه الجسور وأهمها من حيث القيمة التاريخية، فهو جسر كارل الذي شيد سنة 1357 ويحمل اسم من أمر ببنائه، أشهر ملوك التشيك كارل الرابع. ولا بد من المرور عبر هذا الجسر أثناء السير فيما اصطلح على تسميته بالطريق الملكي، وهو أشهر طريق سياحي في براغ يصل بين مركز المدينة وقلعة براغ التاريخية المشرفة عليها من قمة تلالها الخضراء. يزين هذا الجسر مجموعة من التماثيل التاريخية التي تمثل عدداً من الصالحين أو “Saint” أو رجال الدين المسيحي، وعلى جنباته يجلس عدد من الباعة المتجولين الذين يبيعون تذكارات ومشغولات يدوية، كما يجلس بعض الرسامين المتجولين، وعندما تقف على مقدمة هذا الجسر ترى بانوراما خلابة لقلعة براغ وأكثرها اجتذاباً لعدسات المصورين، ومما يزيد من وقع بانوراما القلعة التاريخية أنك ترى فيها تنوع البناء التاريخي ليضم كل المدارس المعمارية التاريخية تقريباً. مما يجعلها تعتبر بمثابة ملحمة كاملة لألف عام من تطور فن العمارة الأوربي. وتوفر ضفاف الجزر الصغيرة والأكبر في نهر فلتافا مشهداً آخر للمدينة. وبرغم أنها ليست شديدة الجاذبية من الناحية الجغرافية، لكنها تؤدي دوراً مهماً كمساحات خضراء، ومواقع للراحة والاستجمام وسط ضوضاء المدينة. التاريخ كحكاية شعبية ما أكثر المسارح في هذه المدينة، وليس أكثر منها سوى صالات العروض الموسيقية وصالات عرض التحف الفنية، والمعارض والمتاحف وفي هذه المتاحف تجد تخليداً لتاريخ البلاد، وترى أن التاريخ هنا يصلح ليكون حكاية شعبية، والتاريخ يقول إن بعض القبائل الجرمانية كالمكروماني والكوادي عاشت في منطقة بوهيميا بين القرنين الأول والسادس الميلادي ثم هاجرت شمالاً تاركة أراضي بوهيميا للقبائل السلافية التي استوطنتها منذ القرن السادس الميلادي. والقبائل السلافية التشيكية ممثلة في عائلة برزيميس الحاكمة، تمكنت في القرن التاسع من فرض سيطرتها على باقي القبائل السلافية المجاورة، وأصبحت بوهيميا مملكة تحت حكم البرزيميس منذ القرن التاسع حتى عام 1306. وفي عام 1526، وقع التاج البوهيمي تحت سيطرة الهابسبورغ مع وصول فرديناند الأول (Ferdinand I) إلى السلطة. وإبان الإمبراطورية النمساوية الهنغارية كانت التشيك جزءاً من النصف النمساوي في المملكة. وفُككت الإمبراطورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 - 1919)، وتم إعلان قيام جمهورية تشيكوسلوفاكيا كاتحاد بين التشيك وسلوفاكيا عام 1918. وفي العام التالي، انشقت سلوفاكيا عن تشيكوسلوفاكيا، وأعلن عن قيام ما يعرف بجمهورية سلوفاكيا الأولى، وذلك بمباركة ألمانية، ومن ثم غزت القوات الألمانية بقية مناطق تشيكوسلوفاكيا، وضمتها إلى الدولة الألمانية، وأعلنت قيام حكومة وصاية التشيك ومورافيا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945، حررتها القوات السوفيتية وأُعيد تشكيل جمهورية تشيكوسلوفاكيا، وعين إدوارد بينيس (Benes) كرئيس لتشيكوسلوفاكيا. وشهدت براغ مظاهرات وأحداثاً عنيفة عام 1968 مطالبة بالديمقراطية، ولكنها قُمعت بالقوة من القوات السوفييتية، وأُطيح بالحكومة الشيوعية عام 1989 بطريقة سلمية وحُل الاتحاد مع سلوفاكيا عام 1992، ثم أُعلن قيام جمهورية التشيك عام 1993 واختير فاتسلاف هافل أول رئيس لها.. تركنا براغ واتجهنا نحو المصحات العلاجية التي تشتهر بها هذه البلاد، الطريق ممل وطويل ومغطى باللون الأبيض، والأشجار عارية عدا بعض شجيرات التفاح على جنبات الطريق تحمل براعم ثمار لا تزال تتفتح.. منتجعات علاجية كان منتجع كارلوفيفاري أول محطة في حملتي الاستكشافية للمنتجعات العلاجية التشيكية، وكارلوفيفاري مدينة صغيرة في جنوب غرب البلاد تقع على بعد نحو مئة كيلومتر من العاصمة براغ، وتعد من أجمل المدن الأوروبية لموقعها الساحر بين سلسلة جبال كروشني ولطبيعتها الرائعة والمتميزة وأجوائها النقية ومبانيها التاريخية الجميلة، والكلمة تعني حمامات كارل نسبة لملكهم كارل الرابع الذي اكتشف الينابيع في هذا المكان، والأسطورة تقول إن هذا الملك كان يصطاد في الغابة عندما تاه عن حاشيته فرأى غزالاً قد كسرت قدمه، وكان يضعها في نبع الماء الحار، واكتشف الملك أن الغزال كان يفعل ذلك لتخفف هذه المياه - على ما يبدو - من آلامه.. يُوجد اثنا عشر نبعاً معدنياً في هذا المدينة “المنتجع”، ينابيع بركانية تصل درجة حرارة مياهها إلى سبعين درجة مئوية وبعضها أقل، واخترع سكان المدينة شراباً من الأعشاب سموه النبع الثالث عشر. وتعتبر المدينة مصحاً علاجياً متكاملاً وأغلب المباني هنا تعود إلى ثلاثمائة سنة أو أكثر وبما في ذلك بعض الفنادق والحمامات، وفي كل الفنادق يوجد مستشفى ومعالجون بالماء والمساج والعلاج الطبيعي، وتستخدم تلك الاثني عشر ينبوعاً في العلاج من مختلف الأمراض، بل إن كل نبع يوصف لمرض معين ويتم استخدامه إما شرباً أو استحماماً.. وهكذا جربت الأمرين، فكان الاستحمام ممتعاً وأعتقد أنني غرقت في النوم وأنا في حوض مملوء بالماء المعدني الساخن، أما الشرب فإنني لم أطق طعم الماء فقد كان به خليط من الملح وصدأ المعادن، قالوا إنها معادن طبيعية تتشبع بها مياه الينابيع، لكنني أعتقد أنها من صدأ الحنفيات الحديدية التي لم تصمد أمام درجة الحرارة والأملاح.. طعمها يحتوي أيضاً على نوع من الغازات، كتلك التي توجد في المشروبات الغازية... لكن إذا كانت دواءً كما يقولون فهي أفضل من العلقم
المصدر: براغ
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©