الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بازوليني.. موته ما يزال لغزاً!

بازوليني.. موته ما يزال لغزاً!
17 أغسطس 2016 20:40
حسونة المصباحي في الليلة الفاصلة بين اليوم الأول واليوم الثاني من شهر نوفمبر 1975، عثر على الشاطئ قرب روما على جثّة الشاعر والكاتب والناقد والسينمائي الشهير بيار باولو بازوليني مشوهة، وممثلاً بها تمثيلًا بشعاً. وفي التقرير الطبي ورد ما يلي: «كان بازوليني ممدّداً على بطنه، مرتدياً بنطلون جينز. إحدى ذراعيه كانت ممدودة، أما الأخرى، فقد كانت تحت صدره، شعره الملطخ بالدم منسدل على جبينه، خدّاه الغائران عادة كانا متورمين بشكل فظيع، الوجه المشوه كان أسود بسبب الجراح والكدمات،رضوض وجراح على الذراعين. أصابع اليد اليسرى مقطوعة ومهشّمة، الفكّ الأيسر محطّم تماماً. الأذن اليمنى نصف مقطوعة، أما اليسرى، فقد تمّ اقتلاعها بالكامل. على الجسد آثار عجلات سيّارة، بين الرقبة والعنق كان اللحم ممزقاً تمزيقاً سريعاً. ستّة أضلاع مكسورة. والجؤجؤ أيضاً. الكبد والقلب مصابان». إثر العثور على جثّة بازوليني ثمّ إلقاء القبض على مراهق من ضواحي روما الفقيرة يدعى جيوسيبو بيلوسي يبلغ من العمر 17 عاماً. وأمام المحقّقين زعم هذا المراهق الشّاذّ، والمعروف بسوء السلوك، وبسوء الطبّع أنه لم يفعل شيئاً آخر غير الدفاع عن نفسه أمام (ثور هائج) بحسب تعبيره. ورغم أن أقواله كانت تتعارض مع ما جاء في التقرير الطبّي الذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشكّ أن هناك آخرين شاركوا في ارتكاب تلك الجريمة الشنيعة، فإنّ السلطات القضائيّة الإيطاليّة رفضت مواصلة التحقيق، ثم لم تلبث أن أسدلت الستار على القضيّة مكتفية بإصدار حكم بتسع سنوات سجن على المراهق بيلوسي. واحتجاجاً على ذلك قرّر أبرز المثقفين الإيطاليين، يتقدّمهم الكاتب الكبير ألبرتو مورافيا، تكوين لجنة خاصّة لمواصلة التحقيق في حيثيّات الجريمة، غير أن عمل هذه اللجنة لم يفض إلى أيّة نتيجة إيجابيّة. وإلى حدّ هذه الساعة ظلّ اغتيال بيار باولو بازوليني بتلك الطريقة الوحشيّة لغزاً محيّراً. مع ذلك لم يعد خافياً على أحد أن المنفذين الفعليين للجريمة هم أعداؤه الألداء داخل اليمين الإيطالي، أولئك الذين كان يقذفهم بحمم غضبه، معرّياً جرائمهم، وفاضحاً أكاذيبهم بجرأة وشجاعة مدهشة. الولادة والتخفي ولد بيار باولو بازوليني في مدينة بولونيا عام 1922. وبسبب مهنة والده الذي كان عسكريّاً، أمضى فترة الطفولة والمراهقة متنقلاً بين مناطق عدّة. وخلال الحرب الكونيّة الثانية، وتحديداً عام 1943، اضطرّ إلى التخفّي في منطقة «فريول» التي تنتمي إليها والدته. وهناك كتب مجموعته الشعريّة الأولى التي حملت عنوان (قصائد إلى كازاراسا). وفي السابع من شهر فبراير 1945، أصيب بيار باولو بازوليني بأوّل صدمة عنيفة في حياته، ذلك أن أخاه «جيدو» الذي كان ينتمي إلى حركة الأنصار المعادية للفاشية قتل من قبل شيوعيين يوغسلاف اعتقدوا خطأ أنه متعاون مع العدوّ، غير أن تلك الواقعة الأليمة لم تمنع بازوليني من التقرب من اليسارييّن فيما بعد، مخصصاً ديواناً كاملاً لرثاء المفكر الماركسي الكبير انطونيو غرامشي، الذي ناهض الفاشية، ومات في سجون موسيليني. قبل انتخابات 12 أبريل 1946، أسرّ فتى مراهق لقسّ كاثوليكي أنه يرتبط بعلاقة شاذة مع بازوليني. وفي الحين شنّت الصحف اليمينيّة والمحافظة هجومات عنيفة على الشاعر اليساري الشاب ناعتة إياه بـ (المتفسّخ)، وبـ (الشيوعي الفاسد والمنحط). وبسبب ذلك أصدرت لجنة الحزب الشيوعي الإيطالي قراراً يقضي بفصله. أما هو فقد فضّل الفرار إلى روما بصحبة والدته. وفي البداية عاش بازوليني في ضواحي روما الفقيرة، وفيها عرف الفقر والخصاصة. وقد ظلّ على هذا الحال إلى أن عثر على مهنة معلم في إحدى المدارس الحرّة. وشيئاً فشيئاً شرع يكتشف الواقع الإيطالي مختلطاً بأوساط المثقفين والفنانين، ومحاولاً في الوقت ذاته التعرّف على أوضاع البروليتاريا الرثّة في الأحياء الفقيرة التي تشكّل حزاماً حول روما. وفيما بعد كتب البرتو مورافيا يقول بإن مجتمع البروليتاريا الرثّة كان بالنسبة لبازوليني «مجتمعا ثوريّاً تماماً مثل المجتمعات المناصرة للمسيحيّة، أي أنها مجتمعات تحمل من دون وعي منها رسالة تواضع زهديّ يتعارض مع المجتمع البورجوازي الميّال إلى المتعة والبذخ». وربّما لهذا السبب نستطيع أن نقول بإن ماركسيّة بازوليني كانت «ماركسيّة بدائيّة» على حدّ تعبير أحد النقاد، فيها تنتصر العواطف على الصرامة الإيديولوجيّة التي كانت تتميّز بها الأحزاب الشيوعيّة الستالينيّة في الفترة اللاحقة للحرب الكونيّة الثانية. وفي جلّ القصائد التي كتبها في هذه الفترة، كان واضحاً أن بازوليني يرغب في أن يكون شاعر البسطاء، والمقهورين، وسكّان أكواخ القصدير والصفيح في ضواحي روما البائسة الخارجة من فترة الحكم الفاشي الذي جرّها إلى حرب مدمّرة. بعد أن أصدر مجموعتين شعريتين، الأولى عام 1953، والثانية عام 1954، كتب بازوليني أول سيناريو للسينما، ثم أصدر عام 1956 روايته الأولى التي حملت عنوان: (راغازي دي فيتا)، مستوحياً موضوعها من حياة الناس في أحزمة الفقر. حال صدورها، أحدثت هذه الرواية ضجّة هائلة في الأوساط الأدبيّة الإيطاليّة. وقد عبر المثقفون اليمينيّون والمحافظون عن استيائهم منها لأن بازوليني كشف من خلالها الصورة البشعة والمنفّرة لعاصمة بلادهم. فاضحاً كل أشكال الجريمة. ومنذ ذلك الوقت أصبح بازوليني كاتباً معروفاً يحسب له ألف حساب، وبه تتربص الأوساط اليمينية والفاشيّة. نجاحات وفضائح ومرة أخرى عرف بازوليني النجاح والشهرة إثر صدور مجموعته الشعرية: (رماد غرامشي) التي حازت عام 1957 على نفس الجائزة التي كان المفكر الماركسي المرموق قد حازها عن مؤلفه: (رسائل من السجن). ثم لم يلبث بازوليني أن أصدر رواية أخرى حملت عنوان: (حياة عنيفة) التي يصف فيها حياة المراهقين الفقراء، فكان حظّها في النجاح والشهرة مثل حظّ المؤلفات السابقة. وفي مطلع الستينات من القرن الماضي تصدّر اسم بازوليني أغلفة كبريات الصحف والمجلاّت، وذلك بسبب اتهامه بحماية مراهق سرق عقداً ذهبيّاً، بل إن شرطيّاً ادعى أنه، أي بازوليني، هدّده بالسلاح. وقد حاول مراهق آخر مقاضاته لأنه «استغلّ» بحسب تعبيره بعض أطوار حياته في روايته (حياة عنيفة). وعند عرض فيلمه (ماما روما) عام 1962، حوكم بازوليني بتهمة (انتهاك حرمة الدولة والعقيدة)، غير أن هذه الفضائح المتتالية لم تثن بازوليني عن عمله، بل زادته قوة وصلابة وجرأة وتحدياً لأعدائه والمتربصين به. وفي ظرف سنوات قليلة أصدر العديد من الروايات والمجموعات الشعريّة التي أهلته أن يكون واحداً من أبرز المبدعين، ومن أكثرهم شعبيّة والتزاماً بقضايا الحرية والعدالة الاجتماعية. المثقف الملتزم كان بازوليني فنّاناً أصيلاً باتمّ معنى الكلمة. وقد جلبت له مواقفه الجريئة متاعب، وخلقت له أعداء ألدّاء خصوصاً في الأوساط اليمينيّة والفاشيّة. وكانت الكنيسة تهاجمه باستمرار معتبرة إيّاه (شيطاناً من شياطين النصف الثاني من القرن العشرين). وكانت أقواله وكتاباته ومقالاته اللاذعة في كبريات الصحف والمجلاّت تثير فزع الأحزاب اليمينية والمسيحية. ومثلما يقول الناقد فيليب جافي فإن بازوليني كان واحداً من القلائل الذين «ابتكروا أسلوباً جديداً للمثقف الملتزم»، إذ أن الالتزام لا يعدّ بالنسبة له مجرّد ولاء لحزب أو قضيّة، وإنما هو بالأساس «أسلوب وطريقة تعبير». لذا كانت مقالاته تنزل على ظهر مجتمع الفساد والرشوة والرذيلة بمثابة السياط الموجعة. وكان هو يفكر بصوت عال. وقد لا يكون ذلك المراهق الشاذّ هو الذي قتله وإنما إيطاليا التي قال عنها ذات مرّة: «إن إيطاليا الصغيرة كانت بلد الشرطة. وهي التي أوقفتني وحاربتني وطاردتني وعذبتني ومزقتني طوال عقدين كاملين تقريباً». ثلاثية عندما بدأت إيطاليا تعرف نموّاً اقتصاديّاً انطلاقاً من السبعينيات من القرن الماضي، أخذت قيم المجتمع الاستهلاكي تغزو المدن والقرى، محطمة التقاليد العريقة، والثقافة الشعبيّة. وها نحن نجد بازوليني في تركيا وفي إيران، وفي إثيوبيا باحثاً عن صيغ جديدة لمشروعه السينمائي الجديد المتمثل في «ثلاثيّة ايروس» المتكونة من أفلام ثلاثة: «الديكاميرون»، و«حكايات كانتنبري»، و«ألف ليلة وليلة». وقبل اغتياله بقليل، أعلن بازوليني أن هدفه الأساسي من خلال الثلاثيّة المذكورة هو تمجيد الجسد في براءته الأولى قبل أن تشوهه الثقافة الاستهلاكيّة، وتحوّله إلى سلعة تباع وتشترى بأبخس الأثمان. بروليتاريا رثّة إن مجتمع البروليتاريا الرثّة كان بالنسبة لبازوليني مجتمعاً ثوريّاً تماماً مثل المجتمعات المناصرة للمسيحيّة، أي أنها مجتمعات تحمل من دون وعي منها رسالة تواضع زهديّ يتعارض مع المجتمع البورجوازي الميّال إلى المتعة والبذخ. ألبرتو مورافيا *** بازوليني كان واحداً من القلائل الذين ابتكروا أسلوباً جديداً للمثقف الملتزم، إذ إن الالتزام لا يعدّ بالنسبة له مجرّد ولاء لحزب أو قضيّة، وإنما هو بالأساس أسلوب وطريقة تعبير فيليب جافي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©