السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحلام عشر ليال

أحلام عشر ليال
17 أغسطس 2016 20:43
ترجمة - ميسرة عفيفي يشغل سوسيكي ناتسوميه (اسمه الأصلي كينوسكيه ناتسوميه) مكانة عالية في الأدب الياباني فهو يعتبر من أوائل الذين أسهموا في إرساء الأدب الياباني الحديث، وصاحب الفضل الأول في تأسيسه في العصر الحديث وتأثر به كل من جاء بعده. ولد سوسيكي في 9 فبراير من العام 1867 أي في العام نفسه الذي انتهى عصر محاربي الساموراي وتحوّلت اليابان إلى بلد عصري حديث تحت قيادة الإمبراطور ميجي في ظل دستور حديث وحكومة تحاول السير على درب التحديث متخذة الدول الغربية قدوة ونبراساً لها. وكان سوسيكي أحد الذين أرسلتهم اليابان للابتعاث في الدول الأوربية لتعلم أسرار تقدم القارة الأوربية، فذهب إلى إنجلترا لدراسة أساليب تدريس اللغة الإنجليزية بعد تخرجه من جامعة طوكيو الإمبراطورية في تخصص اللغة الإنجليزية، إلا إنه قضى أغلب وقته في لندن في تعلم الأدب الإنجليزي وقراءته. كتب سوسيكي هذه الأحلام ونشرها مسلسلة في جريدة أساهي اليومية من 25 يوليو إلى 5 أغسطس من العام 1908. وتتكون من عشرة أحلام في عشر ليال كما يوضح العنوان، كل ليلة بحلم منفصل عن الآخر، بدأ بعضها بجملة «لقد رأيت الحلم التالي» والبعض الآخر تحدث عن الحلم مباشرة من دون تلك الجملة. وقد كتب الباحث المصري د.وائل محمد عرابي دراسة مقارنة بين أحلام سوسيكي العشرة وأحلام نجيب محفوظ في كتاب «رأيتُ فيما يرى النائم» وكتاب «أحلام فترة النقاهة»، بعنوان «دراسة مقارنة حول الأدبين الياباني والعربي الحديث: من منظور أوجه الالتقاء بين أحلام ناتسومي سوسيكي ونجيب محفوظ»، ونُشرت تلك الدراسة في عدد فبراير من عام 2012 لمجلة دراسات العالم الإسلامي الصادرة عن جامعة كيوتو اليابانية باللغة العربية. وأكد د.عرابي في دراسته على وجود تقارب بين الأدب العربي والياباني وقدم دليلاً على رأيه ممثلاً بخمسة محاور يرى أنها متقاربة رغم اختلاف الزمن الذي كتب فيه الأدبيان أحلامهما. والمحاور الخمسة هي: البنية الفنية، الحسناء والانقياد اللاإرادي، مسرح الأحداث يدور في الليل والظلام، اللغة الشعرية التي كُتبت بها الأحلام، وأخيراً استخدام الأحلام أداة لنقد المجتمع. ورغم اجتهاد د.عرابي في محاولة إثبات التطابق والالتقاء بين الأدب الياباني والأدب العربي، إلا أن صغر حجم الدراسة وظروف نشرها في دورية قليلة الصفحات لم يتح له التوسع في ذكر أمثلة أخرى لأعمال أدبية يابانية وعربية فيها تشابه أو تقارب سواء لنفس الأديبين أم لأدباء آخرين، كذلك امتنع تماماً عن ذكر ملامح الاختلاف بين العملين للسبب المذكور نفسه وإن كان قد وعدنا في خاتمة الدراسة بعمل ذلك في دراسة منفصلة فقال: «كنت أرغب في أن أتعرض أيضاً لأوجه الاختلاف بين كلا الكاتبين ودلالاتها في صياغة أحلامهما، إلا أن ضيق المساحة المخصصة لهذه الدراسة لم يسمح بذلك، مما جعلني أفضل تناول هذا الأمر في دراسة منفصلة، فمن المؤكد أن هذه النقطة أيضاً تحتاج إلى قدر كبير من البحث والتعمق». الليلة الأولى لقد رأيت الحلم التالي: كنتُ أجلس عاقداً ذراعيّ بجوار وسادة امرأة تنام على ظهرها وتقول بصوت هادئ إنها ستموت. يرقد وجه المرأة البيضاوي البض بظلاله فوق شعرها الطويل الممتد على الوسادة. ويتدفق في عمق خدودها ناصحة البياض، دم دافئ بلون يبدو صحياً نوعا ما وبالطبع لون شفتيها أحمر. ولا تبدو أنها على وشك الموت بأي حال. ولكن المرأة قالت بوضوح وبصوت هادئ «سأموت». وكنتُ أنا كذلك أعتقدُ أنها ستموت حتماً. فحاولت أن أسألها وأنا أتأملها من علٍ: «أحقاً؟ هل ستموتين حقاً؟». فتحتْ المرأة عينيها على اتساعهما وهي تجيب: «بالتأكيد سأموت». كانت عيناها واسعتين وممتلئتين بدموع كبيرة متجمدة داخلهما، وداخل الرموش الطويلة كانت توجد نقطة سوداء فاحمة. برزت صورتي بوضوح في عمق تلك المقلة شديدة السواد. تأملتُ لمعة تلك العيون السوداء التي تُظهر بعمق صورتي في شفافية قصوى، وفكرت هل تموت فعلاً رغم ذلك؟ وعندها قربتُ فمي بحميمية من الوسادة وسألتها مرة أخرى: «لن تموتي حقاً؟ أنتِ بخير أليس كذلك؟»، فقالت بذات الصوت الهادئ والنعاس يبدو في عينيها المفتوحتين على اتساعهما: «ولكني سأموت، فلا حيلة لي في الأمر»، وعندما قلتُ لها بكل إخلاص: «حسناً هل تستطيعين رؤية وجهي؟» ضحكتْ في مرح وقالت: «أستطيع رؤيته؟ ألا يظهر لك هنا؟». آثرتُ الصمت، وأبعدتُ وجهي عن الوسادة. وفكرتُ وأنا أعقدُ ذراعيّ، ألا توجد سبيل أخرى غير أن تموتْ؟ بعد فترة تحدثت المرأة وقالت التالي: «إذا متُ ادفني. بعد أن تحفر حفرة بصدفة لؤلؤ. ثم اجعل قطعة من النجوم الساقطة من السماء شاهد قبر لي. ثم بعد ذلك انتظر في جوار القبر، سأجيء للقائك ثانية». سألتها: متى ستأتين للقائي؟ «ستشرق الشمس... ثم بعد ذلك تغرب... ثم بعد ذلك تشرق... ثم بعد ذلك تغرب – أثناء سقوط قرص الشمس الحمراء من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق – هل تستطيع أنتَ أن تنتظر كل ذلك؟». ظللتُ صامتاً وأومأت برأسي. ارتفعتْ وتيرة صوتها الهادئ بدرجة أعلى قليلا: «انتظر مئة عام!». قالت ذلك بصوت صارم. «انتظر جالساً في جوار قبري مئة عام. لأنني سآتي مرة أخرى للقائك». قلتُ: «سأنتظر». عند ذلك، انهارت صورتي التي كانت تبدو واضحة داخل المقلة السوداء، متحولة لصورة ضبابية. ثم أغمضتْ المرأة عينيها فجأة لتنساب صورتي مثل ظل صورة منعكسة على سطح ماء ساكن بعد تحركه. وسقطت الدموع من بين رموشها الطويلة على خديها – لقد ماتت بالفعل. ذهبتُ إلى الحديقة، وحفرت حفرة باستخدام صدفة لؤلؤ. كانت صدفة اللؤلؤ ذات حواف حادة وكبيرة وسلسة في نفس الوقت. في كل مرة أغترفُ فيها التربة، كانت تنعكس على ظهر الصدفة أشعة القمر متلألئة. وتفوح كذلك رائحة التربة الرطبة. استطعتُ حفر القبر بعد فترة من الوقت. ثم وضعتُ فيه المرأة. ثم بعد ذلك وضعت التربة اللينة فوقها برفق. وكلما وضعت التربة، كانت تنعكس على ظهر الصدفة أشعة القمر متلألئة. ثم بعد ذلك ذهبتُ والتقطتُ قطعة نجم ساقطة، ووضعتها برفق فوق التربة. كانت قطعة النجم دائرية. وفكرت أنه خلال الفترة الطويلة التي كانت تسقط فيها من السماء، تآكلت حواف زواياها الحادة وصارت ناعمة. وأثناء احتضاني للمرأة ووضعها فوق التربة، أدفأتْ يدي وقلبي. جلستُ فوق العشب الرطب. وعقدتُ ذراعيّ وأنا أفكر في أنني سأظل أنتظر بهذا الحال لمدة مئة عام، وأنا أتأمل في شاهد القبر الدائري. وأثناء ذلك أشرقت الشمس من الشرق كما قالت المرأة تماماً، كانت الشمس ذات قرص أحمر هائل الحجم. ثم أخيراً وكما قالت المرأة سقطت الشمس في اتجاه الغرب. سقطت فجأة كما هي بنفس احمرارها. عددتُ وقلت: واحد. بعد مرور فترة من الوقت، ارتفعت ببطء الشمس بلون قرمزي. ثم غربت في صمت. فعددتُ: اثنان. وأثناء ما كنت أقوم بهذا الشكل بالعد واحد، اثنان، أصبحتُ لا أدري كم عدد الشموس الحمراء التي رأيتها. مهما عددتُ وعددتُ، ظلت الشمس الحمراء لدرجة لا نهاية لها تعبر فوق رأسي وتتخطاني. ورغم ذلك لم تمر المئة عام بعد. في النهاية تأملتُ الشاهد الصخري الذي نبت عليه العفن الأخضر، وبدأت أفكر: هل يمكن أن تكون المرأة قد خدعتني؟ وعند ذلك نبتتْ ساق نبات أخضر من تحت الحجر يميل في اتجاهي. وأثناء تأملي إياه كان قد امتد واستطال حتى وقف عند مستوى صدري في الارتفاع. وفي اللحظة التي رأيتُ فيها ذلك تفتحتْ فوق قمة الساق التي تهتز بانسيابية، بتلات زهرة متضخمة من برعم كان ذي رأس دائرية رفيعة وطويلة تميل عنقها قليلاً. ثم فاحت أمام أنفي رائحة زنبق ناصحة البياض لدرجة أحسستُ بها في جسمي بأكمله. وفوقها سقطت قطرة ندى من علو شاهق، فترنحت الزهرة من ثقل حملها. مددتُ عنقي إلى الأمام وقبّلتُ البتلات البيضاء التي تتساقط منها قطرات الندى. وعندما نظرتُ إلى السماء البعيدة لا إرادياً وأنا أنتهز فرصة إبعاد وجهي عن زهرة الزنبق، كانت نجمة الفجر الوحيدة هي فقط التي تتلألأ لامعة. ووقتها انتبهتُ لأول مرة أنه مرت بالفعل المئة عام!. الليلة الثانية لقد رأيت الحلم التالي: بعد أن خرجت من غرفة الراهب الكبير عدتُ إلى غرفتي من خلال الممر، كانت إضاءة المصباح تنيرها بضوء ضبابي. وضعتُ إحدى ركبتيّ فوق وسادة الجلوس، وعندما قلبتُ فتيل المصباح، سقطت فوق المنضدة الحمراء بقعة زيت تشبه الوردة. وفي نفس الوقت ازدادت إضاءة الغرفة. كانت رسمة الساتر الورقي من أعمال الفنان بوسون. اللوحة عبارة عن أشجار صفصاف سوداء رُسمت هنا وهناك منها الغامقة اللون ومنها ذات اللون الفاتح، ويمر صياد فوق ضفة نهر بقبعة من القش ممسكا صنارة مائلة ويبدو عليه الشعور بالبرد. وفي مكان الزينة بالغرفة عُلقت لوحة للإله مونجو البحري. ولازالت بقايا رائحة البخور تفوح وسط الظلام حتى الآن. لا يوجد أثر لأي إنسان، في حين أن سعة ورحابة المعبد تجعله يبدو موحشا وكئيبا. وفي ذات اللحظة التي نظرت فيها لأعلى، بدا الظل الدائري للمصباح الدائري المعلق في السقف الأسود كأنه كائن حي. قلبت الوسادة بيدي اليسرى وأنا كما أنا واضعا عليها ركبتي، وأدخلتُ فيها يدي اليمنى وكان موجودا في المكان المتوقع. شعرت بالطمأنينة لأنه كان موجودا فأعدتُ الوسادة إلى مكانها الأصلي وجلستُ عليها بارتياح. قال الراهب الكبير: «أنت ساموراي. ولا يوجد أي افتراض ألا يصل الساموراي للنير?انا.» ثم أضاف: «بالنظر إلى عدم وصولك للنير?انا حتى الآن يبدو أنك لستَ ساموراي.». وقال لي: «أنت قمامة البشر.» ثم ضحك وقال: «هاهاها.. لقد غضب». ثم في النهاية قال: «إن أصابتك الحسرة؛ فأحضر دليلا على وصولك للنير?انا»، واستدار معطيا ظهره لي، وهمس: «أمر لا يحتمل.». عندما تدق الساعة الموضوعة في مكان الزينة بغرفة الاستقبال المجاورة لتشير إلى وقت الساعة التالية، سأظهر له بشكل مؤكد أنني وصلت للنير?انا. سأعود لأدخل غرفته مرة ثانية هذه الليلة بعد أن أبلغ النير?انا. ثم إنني سأجعل رأس الراهب الكبير مقابلا لوصولي للنير?انا. إذا لم أصل إلى النير?انا فلن أستطيع سلب حياة الراهب. فلذا يجب عليّ الوصول للنير?انا بأي حال. فأنا ساموراي. وإذا لم أصل للنير?انا سأنتحر بسيفي. فلا ينبغي للساموراي أن يعيش بعد أن ذاق الذل والإهانة. بل إنه يموت في جمال. عندما وصلتُ لهذا التفكير انسلت يدي عفويا لتبحث مرة أخرى أسفل الوسادة التي أجلس عليها. وعندها سحبتْ الخنجر لتخرجه من غمده المطلي بلون أحمر. وقبضت بشدة على مقبض الخنجر وعندما نزعتُ الغمد الأحمر، لمع النصل البارد لمرة واحدة في الغرفة المظلمة. وكأن شيئا عظيما يهرب متسللا بسلاسة من بين يدي. وعند ذلك تركزت رغبة القتل في نقطة واحدة وتجمعت كلها عند طرف النصل القاطع. عندما نظرتُ إلى نَصْلي الحاد هذا وقد انكمش طرف الخنجر في خيبة أمل ليصير كأنه رأس إبرة، جاءتني على الفور رغبة عارمة في سحبه بعنف. سالت دماء الجسد إلى جهة المعصم الأيمن، فجعلت المقبض الذي أقبض بيدي عليه لزجا. اختلجت شفتاي. أدخلتُ الخنجر في غمده، وسحبته لوضعه في جنبي الأيمن، ثم بعد ذلك أخذت وضع تأمل اللوتس. الراهب جوشو يقول إنه الفراغ. ما هو الفراغ؟ طحنتُ أسناني بقول يا له من راهب وضيع. ولأنني ضغطتُ بعنف على أضراسي فقد صعدت من أنفي أنفاس حارة مضطربة. وصدغي يؤلمني بعد أن حدث له تقلص عضلي. وفتحتُ عيناي بدرجة تماثل ضعف ما أفتحهما في المعتاد. يمكنني رؤية رسمة الزينة المعلقة. ويمكنني رؤية المصباح ويمكنني رؤية حصير التاتامي. يمكنني بوضوح رؤية رأس الراهب الصلعاء التي تشبه غلاية الماء. بل لدرجة أنه يمكنني سماع صوت ضحكاته الساخرة وهو يفتح فمه الضخم. يا له من راهب لا يحتمل! يجب عليّ أن أنزع تلك الغلاية من فوق عنقه. سأظهر لي قدرتي على الوصول إلى النير?انا. الفراغ ... الفراغ ... رددتُ كلمة الفراغ من جذور لساني. ولكن رغم ترديدي لكلمة «الفراغ» إلا أنني لا زلتُ أشم رائحة البخور. ما هذا؟  ماذا لو لم يكن مجرد بخور. فجأة قمت بتكور قبضة يدي ولكمتُ رأسي لدرجة الإعياء. ثم طحنتُ أضراسي بقوة. انساب العرق من كلا الإبطين. وتصلّب ظهري وكأنه عصا. وآلمتني فجأة مفاصل الركبة. وفكرت أنه حتى إذا انكسرت الركبة فلا يهم. ولكن الألم شديد. معاناة كبيرة. ولا يأتي الفراغ بسهولة. عندما أعتقدُ أنه على وشك المجيء أحس بعدها مباشرة بالألم. أمر يثير الغضب والانفعال. أمر يسبب الندم والشعور بحسرة شديدة. تدمع عيناي بغزارة. بسبب إحساس واحد، أريد أن أجعل جسدي يصطدم بصخرة ضخمة، وتحطيم لحمي وعظامي وطحنهما طحنا. ورغم ذلك ظللتُ جالسا في صبر. تحملت ووضعتُ في صدري مشاعر الوجع التي لا يمكن تحمّلها. مشاعر الألم تلك رفعت كل عضلات الجسم من أسفل إلى أعلى، وتتعجل في محاولة حثيثة لإخراجها خارج الجسم، ولكن كل الأسطح مغلقة عليها، وكأنه لا توجد لها مخرج في حالة رهيبة لا يرثى لها في غاية القسوة. وأثناء ذلك أصيبت رأسي بالجنون. فأصبحتُ أرى لوحة بوسون والمصباح وحصير التاتامي، والرفوف المختلفة، وكأنها موجودة وغير موجودة، كأنها غير موجودة وموجودة. ورغم قول ذلك فالفراغ لا يظهر أمام عيني بأي حال. يبدو الأمر كأنني أجلس بلا أي إضافة. وعقب ذلك بدأت الساعة التي في الغرفة المجاورة تطلق دقاتها فجأة. وعندها انتبهتُ. فوضعتُ يدي اليمنى سريعا على الخنجر. فدقتْ الساعة دقتها الثانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©