الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفراغ.. جرح الكائن

الفراغ.. جرح الكائن
17 أغسطس 2016 20:45
«تلتئم أشعة العجلة عند المركز والفراغ. بفضل هذا الفراغ تتحرك العربة. يُصنع الإناء من الطين، غير أن فراغه هو الذي يجعله صالحاً لوظيفته. تخترق المسكن أبواب ونوافذ، بيد أن فراغها هو الذي يجعله قابلاً للسكنى. وهكذا نصنع أشياء، غير أن فراغها هو الذي يعطيها معنى». كتاب التاو تي تشينغ ليس الفراغ شيئاً غامضاً لا وجود له، بل هو عنصر في غاية الحيوية والتأثير، إنه ما يعطي وظيفة ومعنى. *** «ما يُعْوِز، هو ما يمنح أسباب الوجود»، كتاب التاو. *** ليس التقابل بين الامتلاء والفراغ تقابل النقيض للنقيض. بل إن العلاقة بينهما علاقة ترابط حميمي. *** لا يقابل الامتلاءُ الفراغَ مثلما يقابل الحضورُ الغيابَ، ولا الوجودُ العدمَ. ليس الفراغ مجرد الشفافية والغياب في مقابل امتلاء يكون كثافةً وحضوراً. فـ «بما أن الفراغ هو محرك الأشياء كلها، فإنه يتدخل في الامتلاء نفسه ويبعث فيه إيحاءات حيوية». الفراغ هو ما وراء «حيوية الامتلاء». *** الفراغ هو ما وراء تصدّع الكائن وابتعاده عن نفسه. إنه ما يجعل الوجود ينخره الزمان. *** يدعونا ر.بارث أن نبتعد عن المفهوم الذي كرسته الفيزياء التقليدية عن الفراغ، الذي هو أقرب إلى «التصور الكيميائي»، كي نشتقه من التصور الفيزيائي الحديث الذي يرى «أن الجزيئات الموجودة في الكون ليست متولدة عن جزيئات أبسط منها، بل إنها تمثل ما آل إليه تبادل التأثير فيما بينها في لحظة بعينها (بحيث يصبح العالمُ منظومة من الاختلافات لا تنفكّ تكون مؤقتة)، وبعبارة أخرى، فإن مجموع الجزيئات ينشأ بفعل التوالد الذاتي». الفراغ هو هذا التوالد الذاتي. *** الفراغ هو التأكيد بأن «العالم منظومة من الاختلافات لا تنفك تكون مؤقتة». وإذا تذكرنا بأن الاختلاف ينقل طبيعتين مبعداً إحداهما عن الأخرى، من غير أن يكون هذا الابتعاد انفصاماً، غدا الفراغ حركة مخالفة للامتلاء (لا نقول ضد الامتلاء): غداً، ذاتياً، مخالفاً للذكرى ( والماضي والأب)، وعُصابياً، للتكرار والاجترار، واجتماعياً للرتابة والروتين، ووجودياً مخالفاً للهويات المتحجرة، وزمانياً مخالفاً للجمود وتكلس الماضي، وأيديولوجياً للدوكسا والتقليد... الفراغ هو ما يكرّس الاختلاف والانفصال والتجدد والتعدد.. والتحديث. *** التفكيك هو إقحام الفراغ فيما يبدو امتلاء متماسكاً، إنه سلوك وليس مجرد فكر نظري، أو لنقل: إنه سلوك على مستوى النظرية. *** الفراغ هو التوالد اللامنقطع، إنه التجدّد والاغتراب الدائم. وهو ما يكسّر رتابة الاتصال، وثقل التقليد لينتصر لخفة الكائن. *** حينما يُدخِل الفراغُ في نظام مّا انقطاعاً وانعكاساً، فإنه «يتيح للوحدات المكوِّنة للنظام تخطِّيَ التناقضِ الصارم، وتجاوز التطوّرِ في اتجاه واحد بعينه». *** الفراغ هو ما يحُولُ دون أن تتخذ الأمور مسارها في اتجاه واحد متواصل الأطراف، فهو يحوّل مجرى التاريخ قطائع وانفصالات، ويجعل الهوية تبايناً واختلافاً، والوحدة كثرة وتعدداً. *** لا يشكل التقابل بين الفراغ والامتلاء في التصوير مجرد تعارض شكلي يسعى إلى إعطاء الفضاء بعده العميق، «إنه يشكل كياناً حيّاً». فالفراغ في اللوحة ليس وجوداً جامداً، بل تجوبه إيحاءات تربط العالم المرئي بعالم لا مرئي. *** «في ميدان التصوير، وبفضل الفراغ الذي يقلب المنظور الخطي، يمكن للمرء أن يتحقق، داخل لوحة ما، من علاقة الصيرورة المتبادلة بين الإنسان والطبيعة من ناحية، وبين المشاهد واللوحة في شموليتها من ناحية أخرى». *** يترجَم الفراغ في العزف الموسيقي بالصمت. حينما يقطع الصمت الانسياب المتواصل للّحن، فإنه يخلق حيّزاً يتيح للأصوات تخطّيَ ذاتها. *** «بلاغة الصمت»: للصمت بلاغة وقوة تعبير قد تضاهي، أو تفوق في بعض الأحيان بلاغة الكلام. فغياب الكلام وفراغاته تترك المجال، في بعض الأحيان، لمزيد من المعنى. من هنا فعالية الصمت وقوته. *** الكتابة سعي لإحداث فجوات في امتلاء الكلام. إنها «إفراغ» للكلام ومراوغة للغة وخيانتها، وكشف عن غموض كل وضوح، وخلق سوء التفاهم في ما يبدو إجماعاً، وبعث المفارقات para-doxes التي تتغذى عليها خطاباتنا. *** نكتب كي ننتج الأسئلة التي تحدث شروخاً في امتلاء الدوكسا. *** موريس بلانشو: «السؤال يضع الإثبات الممتلئ في الفراغ فيكسبه غنى وثراء بفضل هذا الفراغ». السؤال تعبير عن نقص وعوز وفراغ. الكلام المتسائل يؤكد بسؤاله أنه ليس إلا جزءاً يطلب ما يكمله. لكنه ليس ناقصاً بما هو سؤال. بل هو، على العكس من ذلك، الكلام الذي يمتلئ ويكتمل عندما يفصح عن عدم اكتماله ونقصه وفراغه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©