السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنون الإسلام

فنون الإسلام
17 سبتمبر 2008 00:58
لم يبتكر المسلمون فن زخرفة ونحت الجص، فهو من المواد التي استخدمها الإنسان منذ القدم لتكسية الجدران وتزيينها بالزخارف نظراً لما تمتاز به من بياض ناصع يجتذب الأنظار، فضلاً عن مطاوعته لأعمال التشكيل الزخرفي سواء بالطبع بالقالب أو الحفر أو التلوين· غير أن زخارف الجص شهدت قفزة كبيرة في ظل حضارة الإسلام ولاسيما أثناء تشييد العاصمة العباسية الجديدة سامراء في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، لتضع بصمة الفنان المسلم على هذا الفن· وأدت السرعة التي شيدت بها مدينة سامراء إلى تغطية الجدران بالجص وقيام المزخرفين بحفر الزخارف فيها، أولاً بأحجام صغيرة، وما لبثت أحجام العناصر الزخرفية ان تزايدت من أجل زخرفة أكبر مساحة ممكنة في أقصر وقت وبأقل جهد بشري· ومن ثم أخذت الزخارف النباتية تبتعد بعض الشيء عن أصولها الطبيعية، كما ابتعد الفنان عن استخدام أسلوب الحفر العميق المجسم، مكتفياً بالحفر المائل والمشطوف· ولجأ عمال البناء والزخرفة في سامراء إلى استخدام قوالب خشبية حفرت بها الزخارف لتطبع على الكسوة الجصية قبل أن تجف· واستتبع استعمال القوالب في الزخرفة اتصال العناصر الزخرفية النباتية كبيرة الحجم ببعضها واستمرار الاعتماد على الحفر المائل أو المشطوف· ويعد آخر هذه الطرز الزخرفية في سامراء أصل الشخصية المميزة لفن الزخرفة النباتية الإسلامية المعروفة بالتوريق أو الأرابيسك· ويعزى الفضل في اكتشاف الفن الإسلامي لروحه الابتكارية الخاصة إلى الجصاصين الذين عملوا في تشييد مدينة سامراء· وما أن اتخذت أعمال الجص زخرفها في المدينة حتى أقبلت حواضر الخلافة العباسية على تقليد ومحاكاة طراز الزخرفة السائد في عاصمة الخلافة الجديدة ليس في الجص وحسب بل وعلى المشغولات والتحف التطبيقية كافة· فقد ظهر في مصر أسلوب سامراء في زخارف الجص التي ازدانت بها واجهات وبواطن عقود الجامع الطولوني، وفي زخارف دير السريان بوادي النطرون، كما نراها في إيران في الزخارف الجصية لجامع نايين· ورويداً رويداً أخذت زخرفة الجص تغادر التقاليد الفنية لطراز سامراء لتأخذ طابعاً أكثر تعقيداً وأقرب إلى الطرز الزخرفية المحلية في دار الإسلام· وتخلت زخارف الجص في مصر عن التقاليد العباسية منذ عصر الفاطميين، وتشهد بذلك عدة محاريب جصية خلفها الفاطميون في جامع أحمد بن طولون منها واحد أُقيم في عام (487 هـ 194م)، وهو محراب حافل بالزخارف النباتية وتحيط به كتابة كوفية باسم المستنصر بالله الفاطمي ووزيره الأفضل بن بدر الجمالي· وتأثر فن نحت الجص في مصر -خلال العصر المملوكي- بالتقاليد التي حملها معهم صناع المغرب والأندلس، وهو ما نراه بوضوح في زخارف مئذنة مدرسة الناصر محمد بن قلاوون بحي النحاسين بالقاهرة خاصة في استخدام العقود المفصصة المحمولة على أعمدة مزدوجة، وهي من العناصر المعمارية والزخرفية الشائعة الاستخدام في عمائر وزخارف المغرب والأندلس· وتحفل عمائر عصر المماليك بنماذج طيبة لفن نحت الجص، ومن ذلك ما تبقى من شبابيك داخلية صنعت من الجص المعشق بالزجاج الملون وهي غنية بزخارفها النباتية والهندسية وبالزخارف الكتابية المحيطة بها· أما في الأندلس فقد أبدع النحاتون الأندلسيون في زخرفة الجص الذي كان مادة مفضلة في تكسية جدران المساجد والقصور· ومن أقدم نماذج النحت الأندلسي في الجص ما نراه في بعض تيجان الأعمدة التي زود بها الحكم المستنصر المسجد الجامع في قرطبة· وتحمل بعض القصور التي شيدت خلال عصر ملوك الطوائف بالأندلس في القرن الخامس الهجري ''11م'' أمثلة من النحت في الجص، أهمها قصر الجعفرية في سرقسطة وقد تهدم ولم يتبق منه إلا اجزاء صغيرة· وفي متحف سرقسطة بعض العناصر الزخرفية من عمائر هذا القصر· وتتجلى جماليات زخرفة الجص في الأندلس أيضاً في قصور الحمراء بغرناطة، وهي تمثل خاتمة هذا الفن في العصر الإسلامي، وإن لم تنقطع هذه التقاليد كلياً من الأندلس بعد سقوطها بأيدي الإسبان فقد زاول الموريسك أعمالهم المبدعة في القصور والكنائس الإسبانية بل وفي عمائر العالم الجديد بالأميركتين· ويعتبر عصر السلاجقة في العراق وإيران من أزهى عصور الزخرفة بالجص، ففي ذلك العصر تخلصت الزخرفة من التقاليد العباسية التي ظهرت في سامراء وأخذت الزخارف المؤلفة من رسوم الكائنات الحية تحتل مساحات متزايدة في أعمال نحت الجص· ويشهد بذلك قصر قرة سراي بالموصل والذي يرجع إلى عصر الأتابك بدر الدين لؤلؤ، وهو غني بزخارفه الجصية التي تضم كثيراً من الرسوم الآدمية ورسوم الطيور والحيوانات· وواصل فن زخرفة الجص ازدهاره في ظل حكم ايلخانات المغول في فارس ومن أجمل أمثلته في ذلك العصر، المحراب الذي شيده أحد وزراء الخان أولجايتو في المسجد الجامع بأصفهان (710هـ - 1310م) ومنها أيضاً عصابة جصية ذات زخارف بالخط الكوفي المتشابك في المسجد نفسه· وتشهد جدران المساجد والمدارس في مدن المغرب الإسلامي بما بلغه فن زخرفة الجص من رقي، حيث توجد الزخارف النباتية الكثيفة وقد شكلت موضوعاً زخرفياً رئيسياً أو أرضية لكتابات كوفية ونسخية مغربية، وتتسم بقدر كبير من الدقة والتعقيد، وهو ما نراه في زخارف مدرسة العطارين بفاس ومدرسة ابن يوسف أو المدرسة العظمى بمراكش وجوامع القرويين والكتبية· وفي اليمن، اعتمد الفنان على مادة الجص اعتماداً كبيراً في زخرفة مبانيه، ويتجلى إبداعه في استخدام هذه المادة من خلال تلك الثروة الضخمة من الزخارف الجصية الكتابية والنباتية والهندسية التي تزخر بها المساجد والمدارس والأضرحة اليمنية المختلفة · والتي تدل على فهم الفنان اليمني لأسرار هذه المادة وتطويعها للاستخدام الزخرفي في يسر وسهولة· أما زخارف الجص في تركيا العثمانية، فقد جاءت كأفضل ما تكون خواتيم أعمال الزخرفة الجصية في الفن الإسلامي، إذ تميزت بكثافة زخارفها وتنوعها ودقتها في آن واحد ووضحت بها علامات نجاح الجصاصين في هضم وتمثل التقاليد الفنية السابقة والتي شملت بشكل رئيسي التقاليد التركية السلجوقية مع التخلي عن رسوم الكائنات الحية، ثم التقاليد المغربية مع تأثيرات واضحة لتقاليد زخرفة الجص في مصر والشام·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©