الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تشيلي وتركة الجنرال بينوشيه

تشيلي وتركة الجنرال بينوشيه
17 سبتمبر 2008 01:14
قبل 35 عاما في الحادي عشر من سبتمبر، أطاح الجنرال ''أوجوستو بينوشيه'' بحكومة الرئيس الاشتراكي ''سالفادور أليندي'' المنتخَبة ديمقراطيا في الشيلي؛ ومنذ ذلك اليوم، مازال موضوعان اثنان يثيران الجدل هناك، هل ينبغي تذكر ''بينوشيه'' كحاكم مستبد أصبح رمزا دوليا للقمع فقط، أم كإصلاحي اقتصادي حوَّل الشيلي إلى نجاح عالمي، وإلى أي مدى ساهمت الولايات المتحدة في خلق حكمه الديكتاتوري؟ العديد ممن دعموا انقلاب 1973 كانوا يريدون أن تعيد القوات المسلحة فرض النظام فقط، ثم الدعوة إلى انتخابات؛ والواقع أن ''بينوشيه'' جلب بالفعل النظام إلى البلاد في البداية بعد فترة من الفوضى وعدم الاستقرار، ولكنه بعد استيلائه على السلطة قرر أن يحافظ عليها؛ فأمر بقتل الزعماء النقابيين، ونفي آلاف المعارضين، كما عذب السجناء السياسيين، وخلق جوا من الحرب الداخلية· غير أنه خلال هذه الفترة، حوَّل الشيلي اقتصاديا أيضا؛ حيث أدخل ''بينوشيه'' البراجماتي إلى اقتصاد بلاده الضعيف إصلاحات السوق الحر، متأثرا بعالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل من جامعة شيكاجو ''ميلتون فريدمان''، فتقلص التضخم بشكل كبير، وتمت خصخصة الشركات المملوكة للدولة والضمان الاجتماعي، وحُرر النظام المالي، وخفضت التعرفات الخارجية، وازدادت الصادرات غير التقليدية؛ وبنهاية العقد، أصبح الاقتصاد الشيلي واحدا من أكثر اقتصاديات أميركا اللاتينية ازدهارا، ونموذجا توصي المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي البلدانَ الراغبة في ''ترتيب بيتها'' والنمو باتباعه· غير أنه كانت لذلك كلفة اجتماعية بالمقابل؛ حيث تدهور توزيع الدخل القومي، وازداد عدد الشيليين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 20 في المائة في 1970 إلى 40 في المائة تقريبا بنهاية حكم ''بينوشيه''؛ على أن المعجزة الاقتصادية الحقيقية حدثت بعد ''بينوشيه''، بين 1990 و،2007 حين نالت إصلاحاته بعض الشرعية وتحسنت من خلال النقاش والإجماع الديمقراطيين، كما طورت الحكومات المتعاقبة الكثير من هذه الإصلاحات وقامت باستثمارات كبيرة في المجال الاجتماعي قصد مساعدة الشيليين الذين لم يستفيدوا من النمو الاقتصادي خلال فترة حكم ''بينوشيه''؛ ونتيجة لذلك، تضاعفت معدلات النمو تقريبا مقارنة مع فترة ما قبل ثلاثة عقود، وانخفض الفقر بأكثر من النصف· في 1998 خسر ''بينوشيه'' استفتاء صوتَ فيه الشيليون بـ''لا'' لبقائه في السلطة لفترة ثماني سنوات أخرى، وأصبح واضحا تلك الليلة أن القادة العسكريين لن ينضموا إليه في انقلاب آخر، وأن أنصاره سيفضلون الحفاظ على النموذج الاقتصادي الليبرالي الجديد على حكمه الشخصي؛ فأُجريت الانتخابات في ،1989 وسلم الرئاسة على مضض للمعارضة الديمقراطية في ،1990 واعترف ''بينوشيه'' لاحقا بأنه اضطر إلى التخلي عن جزء من سلطته حتى يحتفظ ببعضها، واستمر كقائد للجيش، ثم كسيناتور مدى الحياة· وبالنظر إلى الوراء، يمكن القول إن ''بينوشيه'' لم يكن من صنع الشيلي فقط؛ ففي السياق العالمي المنقسم الذي كان سائدا أواخر الستينيات، وقبل أن يُنتخب ''أليندي'' رئيسا للبلاد، وفي أوائل السبعينيات بعد انتخابه من قبل أغلبية صغيرة، كان العديد من اليساريين يضغطون على ''أليندي'' ويطالبونه بتغيير ثوري غير واقعي، وهو ما كان يتصادم مع موقفِ وسطٍ سياسي براجماتي سابق، ومع الدفاع القوي والشرس عن الوضع القائم من قبل اليمين، وبموازاة مع ذلك كانت ثمة سياسة إدارة ''نيكسون'' التي كانت تهدف إلى حرمان أليندي من الرئاسة في ،1970 مؤامرة لإفشال مصادقة الكونجرس عليه، وتدبير انقلاب من قبل بعض الضباط العسكريين والمدنيين اليمينيين، بمساعدة من أموال وأسلحة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية· وحين فشل ذلك، أعلن البيت الأبيض حربا صامتة لزعزعة استقرار إدارة ''أليندي'' شملت قطع المساعدات، ورفض إعادة التفاوض بشأن الدين الشيلي، وحث الشركات الأميركية على عدم الاستثمار، وتمويل الاضرابات والأعمال الإرهابية سرا ضد الحكومة؛ باختصار، اعتُبرت الشيلي في عهد أليندي تهديدا من قبل الرئيس نيكسون ومستشاره في الأمن القومي هينري كيسينجر؛ وإذا كان الانقلاب الذي وضع ''بينوشيه'' في السلطة شيلي الصنع، فإن رعايته كانت أميركية؛ فحسب حوارات مسجلة بين ''نيكسون'' و''كيسينجر'' في 1973 -لم تتم إزالة طابع السرية عنها سوى في 2004- قال الأول للثاني: ''يدنا لا تظهر في هذه المسألة''؛ وأجاب ''كيسنجر'' قائلا: ''لم نقم به؛ أعني أننا ساعدناهم··· خلقنا الظروف المناسبة''· بيد أن واشنطن ساهمت، من حيث تدري أو لا تدري، في إطلاق قوى لم تستطع السيطرة عليها؛ فقد أمر بينوشيه، الذي افترض أنه يتمتع بدعم غير مشروط من شريكه الأميركي المناوئ للشيوعية -بعد أن احتضنه نيكسون عقب الانقلاب- بعمليات إرهابية ضد المعارضين الشيليين عبر العالم؛ وعندما طالبت الإدارات اللاحقة بالعدالة في قضية اغتيال ليتلير، انقلب ''بينوشيه'' على الولايات المتحدة؛ ولكن حين أخذ توتر الحرب الباردة يتراجع، أصبح بالإمكان الاستغناء عنه· ففي ،1998 أصدر قاض في اسبانيا مذكرة اعتقال تسليم ''بينوشيه'' على خلفية قتل السجناء السياسيين، وتم اعتقال الديكتاتور السابق في لندن؛ وأعيد بينوشيه إلى الشيلي، حيث لاحقه الساعون وراء العدالة إلى أن توفي في ،2006 رغم أنه لم يحاكم أبدا عن الجرائم التي ارتكبها؛ ولكن الأرجح أنه سيتم تذكر ''بينوشيه''، بينما تواصل الشيلي ازدهارها في ظل حكم ديمقراطي، كرمز للقمع يلقي بظله على تاريخ سياسة الولايات المتحدة الخارجية· هيرالدو مونيوز سفير الشيلي إلى الأمم المتحدة ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©