السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فضيحة عارية

فضيحة عارية
18 سبتمبر 2008 00:26
ثمة في المتون العربية القديمة إلحاح على أن الشعر فعل انشقاقي· عديدة هي الكتب التي ربطت بين الشعراء والشياطين وعدّت الشعر مزمار إبليس· وعديدة هي المتون التي ذكرت تورّط الشعراء في الخروج على الأعراف الاجتماعية، فحدّثت عن رِقّة مُعتَقَد البعض ونزق البعض· فصار الموقف من الشعر والشعراء داخل المدينة ملتبسا غاية الالتباس· كان العرب القدامى على وعي تام بأن الشعر خطاب جمالي، لكنه خطاب انشقاقي· وهو إنما يستمدّ فاعليته في الوجدان الجماعي من طابعه الانشقاقي ذاك· فإن هو رُوّض أو دُجّن فقد ناره وصار أدخل في باب العادي من الأقاويل· وإن هو تُرِك غير مُسيّج صار خطرا على المدينة وناسها· لهذا كله تفتتح نظرية العرب في الشعرية مجراها داخل منطقة الخطر، فتوهم بأنها تحذّر من الكلام الشعري وفتنته ومخاطر ميل منتجيه إلى تخطّي الممنوع، فيما هي ترسّخ في الأذهان أن الشعر خطابٌ جماليٌّ بالأساس جاء يلبّي حاجة الإنسان إلى الجميل· وبذلك صار التنظير للشعر والشعرية شكلا من أشكال الدفاع عن الشعر والشعراء في وجه العيّابين الطاعنين الذين اعترضوا على هذا الطابع الانشقاقي· وليس غريبا أن الفراهيدي واضع علم العروض المولع بضبط القواعد والحدود منح الشعراء حرية مطلقة فجزم قائلا ''الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنّى شاؤوا· ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومدّ المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه··· ويُحتجّ بهم ولا يُحتجّ عليهم''· لكن هذه الحرّية تظلّ، مع ذلك، حرّية مشروطة لأنها مسؤولية لا يمكن أن ينهض بها إلاّ الشاعر المجيد الذي تمرّس بالكلام وخَبَرَ مضايق الشعر وعنت الكلمات· هذا ما سيلحّ عليه الجاحظ حين يجزم أن ''الشعر صناعة كالطبّ لا تعرفُ التوسّط''، ويصل إلى حدّ الجزم بأن الشاعر المجيد كالطبيب البارع الذي يحذق حرفته فينجو وينجو معه أهله· أما الشاعر المرائي المنتحل صفة المجيد فإنه كالمُتَطَبّب الذي يهلك نفسه ويهلك معه ناسه وقومه· وعلى هذا الدرب سيمضي جميع المنظّرين جازمين بأنْ لا خيارَ ولا توسُّط: فإما أن يكون الشاعر شاعرا مجيدا ''أمير كلام'' له على الكلمات سلطان وتحنان، يدعوها فتنقاد إليه طيّعة هشّة مشتهاة، أو يكون متآمرا على شرف الاسم يغتصب الكلمات وينزل بها في غير أوطانها فتبادله مكرا بمكرٍ وتجعله أكثر النظّامين زللاً· غير أن الناظر في المشهد النقدي العربي المعاصر يدرك في يسر أن هذه الصرامة الفكرية والمسؤولية الحضارية كادت تصبح نسيا منسيا· يكفي أن نتلفّت إلى العديد من النصوص النقدية التي اختار منتجوها عن قصد أو دون دراية التكتّم على الدرك الذي هبط إليه الشعر وستبدو الفضيحة التي أطبقت على المشهد الثقافي عارية تماما·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©