الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد الجناحي.. من المكتبة إلى الدراما

محمد الجناحي.. من المكتبة إلى الدراما
3 ديسمبر 2009 01:03
أحتاج أن أعود اليوم إلى ذلك المكان الذي خصص لانطلاق إذاعة أبوظبي عام 1969. إنه المكان نفسه الذي تقوم فيه إذاعة أبوظبي حاليا ولكن عندما وصلت إليه في يناير 1971 قيل لي: هنا كان مطار أبوظبي الأول. حتى في عام 1971 كان المكان لا يزال خاليا إلا من مبنى على شكل مستطيل يضم غرفا متقابلة، بعضها مكاتب للجمارك وبعضها الآخر مكاتب لموظفي المطار وحمامات للركاب، وقيل لي: إن الركاب كانوا يدخلون من طرف المبنى المستطيل ويخرجون من الطرف الآخر. في بداية المستطيل كانت غرفة البدالة (التلفونات) ثم فتحة ندخل منها إلى غرفة الأخبار وغرفة الاستماع، حيث كان يحتل المرحوم شمس الدين الضعيفي مكتب رئيس قسم الأخبار، يساعده ثابت صوان للأخبار الإنجليزية وزهير شاهين ومحمود عوض للأخبار العربية وكان هناك ثلاثة يقومون بطباعة الأخبار التي تقدم لمذيع النشرة بالعربية والإنجليزية، وإذا رجعنا من قسم الأخبار إلى بداية المبنى المستطيل سنمر على مكتب صغير، كان مكتب الأخ محمد صوان مراقب عام البرامج. ثم نبدأ رحلتنا داخل المبنى المستطيل لندخل إلى الغرف المتقابلة والتي كان يحتلها المذيعون ومقدمو البرامج، وأذكر منهم المرحوم أحمد سعيد شعث والأخ محمد السيد ندا والأخ علي أبوالخير والأخ أحمد حمزة والأخ مفيد مرعي والأخ أحمد حمزة والمذيعة المرحومة سامية ذياب والمذيعة سميرة سعادة والمذيعة مريم أحمد والمذيعة ريحانه التمري. كان مكتبي مقابل المكتبة والتي كان فيها، الأخ المرحوم محمد الجناحي والأخ المرحوم خليل حنا، والأخ صواب خميس، والأخت رزيقة الطارش. اكتشاف موهبة كان محمد الجناحي مهتما بوضع الأشرطة المسجلة في الأرفف حسب الموضوعات وحسب تاريخ التسجيل تساعده الأخت رزيقة الطارش. وحينما بدأنا نسجل البرامج والتمثيليات الدراسية كنا بحاجة إلى ممثلين وممثلات. وفوجئنا بموهبة المرحوم الجناحي، الذي ما كاد يسجل بعض التمثيليات حتى تم نقله من المكتبة إلى قسم الدراما. كان رحمه الله شابا دمث الخلق، يتمتع بأخلاق عالية وجمعتني به صداقة استمرت حتى بعد مغادرتي لدار الإذاعة إلى وزارة البترول والثروة المعدنية عام 1975. ولقد قمت بإعداد وتأليف العديد من التمثيليات الإذاعية والتي استعنت بها، بموهبة المرحوم الجناحي في التمثيل، وأعتقد أن مكتبة الإذاعة ما زالت تحفظ الكثير من المسلسلات والبرامج التي يظهر فيها صوت المرحوم محمد الجناحي بشكل مميز، مثل مسلسل “الزير سالم” ومسلسل “تحت ظلال الزيزفون”، “بول وفرجيني” للمنفلوطي، ومسلسل “مغامرات مهيوب السادس عشر”. المسلسل الذي بدأت بكتابته ولم أتمكن من إنهائه بعد انتقالي إلى وزارة البترول والثروة المعدنية كان عن سيرة بني هلال، ولقد كان يدفعني المرحوم الجناحي دفعا للانتهاء منه وتقديمه له لإخراجه ولكن، لا أدري لماذا لم أتمكن من الانتهاء من تأليفه رغم أنني وصلت فيه إلى ما يزيد عن خمس عشرة حلقة. وعلى الرغم من ابتعادي عن الإذاعة واستقراري في وزارة البترول، إلا أنني كنت أقوم بزيارة الإذاعة مرة في الأسبوع على الأقل لتقديم برنامجي الإذاعي “الذهب الأسود”. وفي كل أسبوع كان المرحوم يسألني: ـ إلى أين وصلنا في مسلسل بني هلال؟ وكنت أرد دائما: قربنا من النهاية. وعندما التقينا بعد أكثر من عشرين سنة في حفل تكريم الرعيل الأول من الإعلاميين، سألني المرحوم الجناحي السؤال نفسه. ـ إلى أين وصلنا؟ ـ قربنا من النهاية. وكانت النهاية المحزنة هي فراق الأخ محمد الجناحي الذي انتقل إلى رحمة الله سبحانه وتعالى وهو في قمة العطاء. بصمات لا تمحى ما زلت أتصفح تلك الحلقات التي كتبتها من مسلسل سيرة بني هلال، وأرى فوق سطور الصفحات التي بدأ لونها يميل إلى الصفرة بفعل الزمن، وجه ذلك الإنسان النبيل والفنان الرائع الأخ محمد الجناحي. كانت بداية الأخ المرحوم الجناحي بعيدة جدا عن مجال الفن، ولكن عندما وجد نفسه في ذلك المجال عاش فيه وتمكن من بلوغ قمة عالية في فن التمثيل الإذاعي والتلفزيوني وترك بصمات لا تمحى في فن الدراما الإماراتي. والذي أثار الدهشة فعلا هو قيام محمد الجناحي بالكتابة الدرامية واستطاعته في زمن قصير جدا أن يصل إلى كتابة نصوص تلفزيونية وإذاعية نفذت جميعها وحققت نجاحا ملموسا ومعترفا به سواء على شاشة التلفزيون أو أثير الإذاعة. عاش محمد الجناحي لفنه فأبدع في الدراما بكتابته وبأدائه لأصعب الأدوار الدرامية. وأعتقد أنه من الضروري أن يهتم المسؤولون عن الإذاعة والتلفزيون في أبوظبي بجمع إنتاج المرحوم الفنان محمد الجناحي وجعله متاحا للباحثين والدارسين الذين يقومون بالاهتمام بجميع ما قدمه وما يقدمه أبناء وبنات هذا الوطن من أعمال فنية سواء في مجال الكتابة أو في مجال التمثيل والإخراج. من البرامج التي تعاونت فيها مع المرحوم الجناحي كان برنامج “يعجبني ولا يعجبني” الذي كنت أكتبه وكان هو يقدمه بصوته بعد أن يحول الكلام من الفصحى إلى اللهجة المحلية للإمارات، وكان البرنامج جريئا في نقد الظواهر غير الصحية في المجتمع الإماراتي سواء على مستوى الجمهور أو على مستوى المسؤولين الحكوميين. استطاع محمد الجناحي أن يصل إلى المشاركة في الأعمال الفنية الكبيرة سواء على مستوى الخليج أو المستوى العربي حيث شارك في مسلسلات مهمة وترك بصمة واضحة ومميزة في جميع تلك الأعمال. وكانت تلك المشاركات تتطلب منه جهدا غير عادي إلا أنه كان سعيدا بها، يعطيها من وقته الكثير ولا يترك لنفسه أو لعائلته إلا بقايا من الاهتمام والتفكير. كان يحب عمله، ولا يبخل عليه حتى بالوقت الذي يجب أن يخلد فيه للنوم أو الاستراحة، ولذلك كان أداؤه لجميع ما أداه من أدوار على الشاشة مميزا ومؤثرا. ورغم ذلك الانشغال المستمر، لم تكن ابتسامته تفارق وجهه ولم يسمح لعنكبوت الحزن أن يغزل خطوط الأسى والحزن فوق عينيه أو على جبهته وظل حتى آخر أيام عمره بشوشا ضاحكا. كنت أخشى عليه من نفسه الطموحة، فلم تكن لطموحاته حدود تقف عندها أو خطوط حمراء لا يسمح لها بتجاوزها. فمحمد الجناحي علم نفسه بنفسه، ويمكن اعتباره من العصاميين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى العلم والثقافة بجهود ذاتية محضة، فهو لم يتح له إكمال دراسته على مقاعد المدارس الثانوية أو الجامعات، ولكنه بما استطاع الوصول إليه ذاتيا ومن خلال جهده الخاص وتثقيفه لنفسه جعل حتى أولئك المتخرجين من الجامعات يقفون أمامه وقفة التلميذ أمام أستاذ متبحر في العلم متعمق في الثقافة. كان محمد الجناحي من أوائل أولئك الذين صادقتهم في زمن البدايات، وكانت صداقتنا في ذلك الزمن الجميل خالصة من كل شوائب المادة محلقة في فضاء الروح وعلى جناحي الكلمة التي تشاركنا في حبها والإيمان بها. مضى الجناحي وغاب عن وطنه وعن أهله وأحبابه مبكرا وقبل أن يبلغ مرحلة الشيخوخة التي أجاد أداء أدوارها ولم يعشها. وكأنني كنت أحس بأن ذلك الرجل لن يعمر طويلا، فهو لا يرحم نفسه ولا يراعي صحته، بل يصل ليله بنهاره وهو يؤدي دورا في مسلسل أو يخط كلمات مبدعة فوق أوراقه. ترك الجناحي بعد انتقاله إلى رحمة ربه ذكريات لا تنسى مع جميع الذين عرفوه أو شاركوه في الأعمال الفنية التي قام بها. إنه من القلائل الذين لا يمكن للأوطان أن تنساهم أو تنكر الدور الذي أدوه في المجتمع لا الأدوار التي قاموا بها على الشاشة فحسب. بدأ الجناحي في زمن البدايات، وانتهى في زمن شهد فيه وطنه تغييرات جذرية وحقق فيه إنجازات عظيمة، ساهم هو نفسه فيها. عندما زرت دار الإذاعة في بداية هذا العام 2009، لم أجد من البناء القديم حتى جدارا واحدا، تغير البناء وأصبح أكثر حداثة، ولكن ظل شيء لا أعتقد أنه يمكن أن يتغير ألا وهو صور أولئك الرواد الذين انطلقوا من المكان نفسه، وحفروا أسماءهم وصورهم في قلوب أبناء الوطن. كدت أسأل وأنا أتجول في المبنى الجديد للإذاعة، هل ما زال الجناحي في مكتبة الإذاعة، ولكن تهديد دمعتي لي بالانفجار جعلني أكتم السؤال وأمضي صامتا، فليرحمك الله أيها الصديق الراحل فأنت ما غبت، ولن تغيب أبدا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©