الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علَى عَتبة فْرانشيسْكُو بّيتْرارْكا

علَى عَتبة فْرانشيسْكُو بّيتْرارْكا
22 ابريل 2015 21:57
(1) استأثر الجنوبُ الفرنسيّ بشغف شاعريْن غربييْن كبيريْن، هما الإيطالي فرنشيسكو بتراركا (1304ـ 1374) والأميركي إزرا باوند (1885ـ1972). لكل واحد منهما شغفُه الخاص بالمكان. كان أبو بيتراركا ذا علاقة بدانتي، فأرغمه خصومه السياسيون على مغادرة فلورنسا. رحل الأب مع العائلة إلى أفنيون التي وصل إليها سنة 1312، وهي آنذاك عاصمة البابوية. في أفنيون إذن، عاش بيتراركا، منذ صباه، منفياً مع عائلته. وفي مونبيليي تابع دراسته الجامعية، ثم سافر لاحقاً إلى بولونيا لدراسة القانون. عاد بعدها إلى أفنيون والتحق بالعمل سنة 1326 بالكنيسة. ثم راح في جولات، وعندما رجع إليها مرة أخرى سنة 1330 واطلع على أحوالها، ساءت علاقته بالمدينة التي وجدها تحولت إلى «جحيم الأحياء» أو «بؤرة الموبقات»، فغضبَ على رجال الكنيسة. غادر أفنيون إلى منطقة قريبة، واختار الإقامة في بيت عند منبع الفوكليز. أما إزرا باوند، الذي كان مأخوذاً بشعر العصور الوسطى في لغة الأوكْسيتان، فقد قام، وهو لا يزال شاباً، بجولة سياحية سنة 1912 في الجنوب الفرنسي. قطع الطرق سيراً على القدمين، بحثاً عن شعراء التروبادور، الذين كان لهم تأثير على شعره. لا شك أن من يعرف التطورات التي مر بها الشعر الغربي يدرك قيمة هذين الشاعريْن، وغالباً ما سعى إلى التعرف على شعرهما، ولو بطريقة غير متكافئة. العناية بإزرا باوند هي، من دون شك، أكثر إلحاحاً على الشاعر الحديث. كذلك كنت في شبابي متحمساً لقراءة «أغاني» أزرا باوند، لطبيعة الثورة الشعرية التي أحدثها من خلال ما عرف لديه بالمدرسة الصورية، أو للأثر الذي كان له في الصياغة النهائية لقصيدة ت.س. إليوت، «الأرض الخراب». ومع تقدُّم السنوات أصبحتُ مهتماً بفرنشيسكو بيتراركا. (2) هي مفاجأة، ربما، أن يتوجه اهتمامُ شاعر عربي حديث إلى الشاعر بيتراركا. ولي هنا أن أوضح بأن قراءتي لدانتي، من خلال «الكوميديا الإلهية» كانت الأسبق. ولا يحتاج ذلك إلى تفسير أو تبرير، بحكم استثنائية عمل دانتي، ومكانته في بناء النموذج الشعري الغربي الحديث. أما بيتراركا فشأني معه مختلف جداً. مصدر اهتمامي هو ما أصبحت أكتشفه عن مواقفه الفكرية. في مقدمتها، موقفه المنطلق من رؤية مسيحية في نقد النزعة الأرسطية باعتبارها «هرطقة». ويرى أن سبب انتشار الهرطقة في العالم المسيحي، كما يعلق ألنْ دو ليبيرا، هو توفر أعمال ابن رشد في اللغة اللاتينية وتداولها من طرف الشبان، الذين كانوا يتّهمون بيترارْكا بالجهل. هذه هي نقطة ارتكاز بيتراركا في نقد الأرسطية وانتصاره للدين على حساب العقل. وقد أدى به ذلك إلى الوقوف ضد دانتي ورفض الرشدية ومحاربة الثقافة العربية ـ الإسلامية. تكامل موقفه هذا مع تشبثه بإعادة اكتشاف الثقافة الكلاسيكية في اليونانية واللاتينية، والاشتغال على التوفيق بينها وبين الثقافة المسيحية، بهدف يختلف عن هدف ابن رشد، إذ كان التوفيق بين الدين والعقل يعني لديه ترجيح الدين على العقل. ونتيجة لذلك، اعتبر فترة الثقافة العربية ـ الإسلامية فترة تتوسط بين الثقافة القديمة وبين العودة إليها. من هنا جاءت تسمية العصور الوسطى، أو العصور المظلمة، حسب التعبير الإنجليزي. ولأن بيتراركا كان في خدمة الكنيسة ويتمتّع كشاعر بسمعة عالية في الأوساط الأوروبية، فإن مواقفه المعادية للثقافة العربية ـ الإسلامية أضحت ذات صدى واسع في المحيط الأوروبي. مواقف صاغت المبادئ التي صدرت عنها كل من الحركة الإنسية، وحركة النهضة الأوروبية. إذ ليست هذه النهضة سوى العودة إلى الأصول اليونانية واللاتينية، مع الاستغناء عن الثقافة العربية ـ الإسلامية. مواقف أصولية، سلفية، مغلقة على ذاتها. تعاملت بصرامة وشدة مع كل من يكتب أو يجهر باسم الثقافة العربية ـ الإسلامية. من هنا جاء تعلقي بقراءة أعماله المتوافرة بالفرنسية، وخاصة «الأغاني»، «جهلي وجهل آخرين كثيرين»، و«سري»، و«الصعود إلى جبل فانـتو». تابعت الأخبار عن نشر أعماله، وشيئاً فشيئاً أصبحت أرغب في زيارة مكان إقامته في منبع الفوكليز. تلك طريقتي. تغريني الأسماء الكبرى، في الأدب والفن والفلسفة والتصوف، بالبحث عن أمكنة إقامتها. وعلمتني الزيارات أن أمكنة الإقامة تحتفظ ببعض الأسرار التي لا تكشف عنها الكتب بسهولة. بهذا الإغراء ذاته ظللت أتحيّن الفرصة لزيارة منبع الفوكليز. وفي أواسط شهر مارس الماضي، عزمت، وأنا في مرسيليا، على زيارة بيت بيتراركا. قررت ذلك مع نفسي وتهيأت له. جمعتُ المعلومات المتوافرة عن المنطقة وعن السفر إليها. لم يكن الطقس مشجعاً. هطول المطر على فترات متقطعة. قليل من الريح والبرد. وماذا بعد؟ قلت في نفسي. سأذهب إلى منبع الفوكليز. سنوات وأنا أنتظر الفرصة، وأغلى ما أبحث عنه هو الوقت. ها أنا الآن في مرسيليا، ولديّ وقت. فلأهبْ، إذن، إلى منبع الفوكليز. ساعدني محسن، ابن العائلة، بسيارته على السفر المريح. بمجرد أن عرضت عليه الاقتراح استجاب له بحماس. «نأخذ الطريق باتجاه أفنيون، ومنها نصل إلى ليل سور لاسورغْ (الجزيرة على نهر السورغ)»، قال لي: مرسيليا أعرق مدينة فرنسية، تعود إلى الحقبة الرومانية. وقد مكّنها ميناؤها من أن تحتل مكانة الساحة المفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، أو، في مرحلة موالية، مكانة اليد المقدسة التي تربط بين القارات الخمس. منها تم رفعُ علم الغزو الاستعماري، وإليها وصلت بعثات دراسية ودبلوماسية في العصر الحديث. قضيت وقتا وأنا أتخيل واصلين من العالم العربي ومن آسيا وأميركا إلى مرسيليا. ومن هذه المحطة الأولى، على الأرض الفرنسية، كان من بين الواصلين من يتوجه إلى إكس أون بروفانس أو إلى مونبوليي للدراسة، قبل الالتحاق بباريس. (3) من مرسيليا إلى ليل سور لاسورغْ عوالمُ كانت تتردد أمامي. أشاهد وأتخيل، أو أشاهد وأتذكر. على هذه الطريق تشمّ روائح مدن مختلفة. لشبونة، تولوز، بوردو. ولكنك تشمّ أيضاً روائح الأندلس وروما وأثينا ونيويورك. أو أفريقيا وآسيا. لم أكن أحلم، لا. كانت العلامات والإشارات الموضوعة في كل ناحية من الطريق تدل على لحظة ما، على أثر ما، أو على جهة أو مدينة أو حضارة. مرات عديدة قطعت هذه الطريق في الرحلة من مرسيليا إلى لوديف، للمشاركة في مهرجان أصوات المتوسط، الذي اشتهرت به لوديف لسنوات عديدة. أو قطعتها وأنا أقرأ عن شعر التروبادور أو عن حركة الترجمة وانتقال الأفكار بين الأندلس وأوروبا. أنا الآن متحرر من قيود الالتزامات، أرحل في يوم من آخر أيام الشتاء إلى منبع الفوكليز. أقاوم سِنَة من النوم لأني حريص على تتبع مشاهد الطريق، وعلى قراءة العلامات والإشارات. انتظرت طويلا كي أنعم برحلة إلى هناك، إلى المكان الذي اختاره بيتراركا ليقيم، بعيداً عن نفاق وأكاذيب الوسط البابوي في أفنيون. أخذت الخضرة تعود إلى الأشجار. وفي جميع النواحي بيوت وسط قطع أرضية مغروسة، يفضّل أصحابها السكن خارج مرسيليا. جدران البيوت من الحجارة، والسقوف ثلاثية الإضلاع، تغطيها طبقة من الآجر الأحمر. في كل مرة كنت أتوقع رؤية علامة الوصول. سماء يكسوها الغمام ومطر متقطع يتساقط. محسن وأنا نتبادل الكلام عن سكان المنطقة، عن تاريخها، عن نشاطها العلمي والصناعي والتجاري. نصمت ونعاود الكلام، حتى بدت لنا الإشارة التي انتظرتها. مدينة ليل سور لاسورغْ هادئة وأنيقة عند مدخلها. مطعم وسط حديقة فسيحة، على مقربة من محطة القطار، ونهر لاسورغ يخترق الشارع. ماء أخضر، شديد الصفاء، يجري بانسياب. هنا كان ميلاد الشاعر الفرنسي روني شار (1907 ـ 1988) وكانت طفولته كما كانت وفاته. بيته فيها متحف تم تدشينه سنة 1982. «من هنا طريق المنبع»، قالوا لنا. ولم نتأخر عن استئناف السير. مباشرة على اليمين، طريق تقلّ فيها حركة السيارات، لأننا في أواخر أيام الشتاء. بعد أيام ستتكاثر حركة السيارات، ويتوافد السياح من مناطق بعيدة، بل من أقصى بلاد الأرض. زيارة بيت بيتراركا مقدسة عند المسافرين أو الحجاج، مسيحيين وغير مسيحيين. مسافة قصيرة، ثم نطل على منبع الفوكليز. قرية صغيرة، منعشة، عدد سكانها محدود جداً، لا أظن أنه يتجاوز بضع مئات. بيوت قديمة، تمّ ترميم العديد منها بإتقان وأناقة. النباتات في بداية ألوانها، والخشب المدهون يتصدر البيوت والمطاعم والفنادق. تحس أن هذه القرية الصغيرة تعيش على موسم زيارة بيت بيتراركا، الذي يحل مع الربيع ويمتد حتى نهاية الخريف. (4) تخطو خطوات باتجاه المنحدر، فإذا بك أمام نهر تجري مياهه من أعلى جهة الشمال. مياه خضراء تتدفق بسخاء ونشوة، توسّع المجرى وتمتد إلى الضفتين معاً. وبمحاذاة سور الجسر ناعورة ماء تتحرك حركة سكران يجر قدميه في آخرة الليل. منبع الفوكليز قديم، قناته تعود إلى العهد الروماني. في الركن، عند منعرج الطريق، إشارة إلى مكان بيت بيتراركا، الذي تحوّل إلى متحف. باب من قضبان الحديد عند مدخل نفق عتيق، تخترقه فجوات يسقط منها المطر وضوء النهار. تدخل كما لو كنت تدخل إلى غار بارد. وفي النهاية، على بعد عشرات الأمتار، طبيعة تتوالى أشجارها وينبسط عُشبها. على اليسار بيت بيتراركا، والنوافذ تشرف على «المنبع الشريف»، منبع الفوكلوز. صحن ماء واسع وعميق. ماء نهر السورغ يتدفق بصوت «أجش»، كما يصفه بيتراركا في إحدى قصائده. وخضرة الماء هنا أكثر مما هي هناك، خارج النفق. في الأفق صخور بركانية شاهقة، تعلو بنباتاتها نحو السماء. لا تملك سوى أن تصمت في هذا المكان، وأن تشعر بأن الشعر والصمت أخوان. هنا كتب بيترارك أناشيد الحب التي تغنى فيها بلُور، عشيقته التي كانت تسكن في بلدة نوف، قريباً من منبع الفوكلوز، وربما اختار الإقامة هنا ليظل قريباً منها. شعرت برغبة جامحة في الجلوس. كل ما أهفو إليه هو أن أقعد على الأرض وأمد بصري باتجاه تدفق الماء والصخور المعلقة. بيت بيتراركا لا يزال مغلقاً لأيام، قبل الافتتاح المنتظر في الموسم الذي سيحل بعد أيام. خُيّل لي أني أسمع أصواتاً تتنادى في أعماقي. فالوصول إلى هذا المكان واكتشاف جمال طبيعته مصدر سكينة بعيدة الغور. المطر يهطل، وأنا واقف، أشاهد هذا الماء والصخور والنباتات، وأتلذذ بالصمت. غاب عني ما كنت أفكر فيه قبل قدومي إلى هنا، أي السبب الذي دعاني للحرص على زيارة بيت بيتراركا في هذا المكان بالذات. محسن وأنا غادرنا، عبر النفق، فسحة الطبيعة المتصلة بالبيت. بحثنا عن مقهى مفتوح للجلوس فلم نعثر عليه. المطاعم مغلقة حتى المساء. طفنا بالضفة المقابلة للنهر وبالدروب، نتعرف على المدينة ونبحث عن مقهى. وفي الأخير اضطررنا للمغادرة. ففضلنا قصد مدينة إيكس أون بروفانس، لجمال عمارتها وحدائقها، لمقاهيها ومطاعمها، ولما فيها من مآثر حضارية وثقافية. (5) طيلة طريق العودة ألحت علي أسئلة، من قبيل: كيف يمكن لشاعر عاش تجربة حب فتاة جميلة، وعشق الإقامة في مكان وهبته الطبيعة فتنتها، أن يكون كارهاً للثقافة العربية ـ الإسلامية، التي تعلم منها شعر الحب؟ من أين تسرب كره الآخر، الشاعر، الفيلسوف، المبدع، إلى نفسه؟ كيف يمكن للدفاع عن الدين (أي دين)، من طرف مثقف كبير، أن يتلبس بالعداء لسواه من الأديان، كيفما كانت طبيعتها؟ أسئلة كنت أصوغها بطريقة مختلفة من قبل، وهي الآن تتجذر في أعماقي، توضح لي السبب الذي دعاني للزيارة. لا أعرف هل سيادة التيار اليميني المتطرف، السائد اليوم في الفوكليز، موروث عن بقايا البيتراركية أم هو متصل بالأزمة الحالية في فرنسا. ومن العبث أن أسأل عمّا بقي هنا من روني شار. على أن ما استبد بي غريب. لقد ألغى بيتراركا من كتاباته أسماء عربية ـ إسلامية، ولم يعد لذكرها لديه أيّ أثر، بعكس ما كان الحال عند دانتي، الذي مجّد ابن رشد، رغم موقفه من نبي الإسلام. ولا يذكر بيتراركا العرب والمسلمين إلا وهم مقرونون بالعنف والسيف والقتل. عندما أقرأ بعض قصائد ديوان «الأغاني» أجد، مثلاً، ما يلي : هناك جهة من هذا العالم ترقد أبداً تحت الصقيع والثلوج الجليدية بعيدة كلها عن طريق الشمس هناك في الأضواء السديمية والخاطفة بطبيعتها عدوة السلام تولد أمة لا يحزنها أن تموت إن كانت هذه الأمة أكثر ورَعاً مما كانت من قبل فهي تتحالف مع الغضب الجرماني وتتمنطق بالسيف أتراك كلدانيون عرب ما يجمع بين الأتراك والكلدانيين والعرب هو أنهم جميعاً مسلمون، أو شرقيون في أحسن الأحول، إذ إن الكلدانيين (أهل بابل العراقية) مسيحيون لا يأبه بيتراركا بمسيحيتهم. هذه الصورة السلبية هي التي ستصبح سائدة في الغرب، وهي التي تعود في كل لحظة يكون الغرب محتاجاً إلى عدو أو ضحية. يقال إن بيتراركا كتب «الأغاني» في منبع الفولكيز وسط طبيعة مقدسة. تبدو صورته في الديوان وكأنه يديم التأمل في الماضي والمستقبل، في الثقافة القديمة والثقافة المسيحية، يجمع بين عوالم الباطن وعوالم الظاهر. وفي الديوان يتغني بحبه الخالد لعشيقته لور. إن «الأغاني» قصائد يتبع بيتراركا في كتابتها «البرنامج» الذي حدّده دانتي للأغنية في كتابه عن «بلاغة العامية». وقد أفاد أيضاً من موروث الموشحات والأزجال الأندلسية. لكن كيف يمكن أن يفيد من الشعر الأندلسي، عن طريق التروبادور، وينكر إفادته منهم؟ أو كيف يمكن أن يدعو إلى عدم الاعتراف بهذه الثقافة التي تعلم منها كما تعلمت أوروبا؟ عندما كنت من قبل طرحت السؤال على الصديقة فرنشيسكا كوراو أجابتني بأن بيتراركا هو الذي رفع في إحدى رسائله شعار «خُذوا كنوزَهم وانْسَوْا أسماءَهم». (6) هناك الكثير مما يتطلب التدقيق. كان بيتراركا وقع في غرام عشيقته لور عندما رآها يوم 6 أبريل 1327 وهي تغادر كنيسة سان كلير بمدينة أفنيون. أحبها مدة عشرين سنة، وقد نجح في ربط الصلة بها وتكررت لقاءاتهما في نواحي المنطقة، قريباً من منبع الفوكليز أو بعيداً عنها. وفي كتاب «سري» الذي خصه لثلاثة حوارات متخيلة بينه وبين القديس أوغسطين عن شقاء وسعادة الإنسان، على غرار حوارات أفلاطون، دافع بيتراركا، في حواره الثالث، عن حبه لعشيقته لور. لكن القديس أوغسطين عنّف به في أكثر من نقطة. فهو يتوجه إليه قائلا: «عندما تدخل في نقاهة سيكون عليك أن تعترف بأنك كنت مريضاً على نحو خطير»، أو «لكن عندما ستُغلَق إلى الأبد هذه العيون التي تسحرك حتى الموت، عندما سترى هذه الوجه مشوهاً بالموت وهذه الأعضاء شاحبة، ستخجل من كونك ربطت روحك الخالدة بجسد باطل، وستحمرّ خجلاً من هذه الجاذبية التي تمجدها بكل عناد.» حوار عن الحب يكشف عن الصراع الداخلي الذي عاشه بيتراركا بين حبه البشري، الدنيوي، لعشيقته لور وبين إلحاحه الديني على التخلص من شوائب الدنيا والإعراض عنها والتفرغ للحب الإلهي، صراع بين عالمين في الفرد الواحد. وهو هنا مختلف كلية عن دانتي في «الكوميديا الإلهية» أو في «حياة جديدة»، حيث لم يتخلّ في أي منهما عن حبه البشري، متأثراً بالثقافة العربية ـ الإسلامية. هنا يبرز الجانب المسيحي عند بيتراركا، الذي يأخذ دلالة العقيدة المنغلقة على ذاتها. لم تكن تلك قناعته فقط، بل كانت دعوته أيضاً. فهذه الدعوة، التي مهدت للنهضة بوضع أسسها النظرية، وأخذت بُعْدَ الإنسية الأوروبية، انعكست على نواحي الحياة الدينية والثقافية والفنية في أوروبا. فهذا الرسام جورجويوني (1477ـ 1510)، ابن البندقية، رسم بين 1504 و 1506 لوحة شهيرة (توجد في متحف تاريخ الفنون بفييـنا)، حملت أسماء متباينة، أكثرها انتشاراً هو اسم «الفلاسفة الثلاثة». تمثل اللوحة ثلاثة أشخاص يقفون عند الغروب أمام كهف (هو الموجود في كتاب «الجمهورية» لأفلاطون). الشيخ هو أرسطو، والكهل ابن رشد، والشاب فيلسوف المستقبل. يظهر ابن رشد في اللوحة واقفاً في الوسط ينظر إلى الشرق، بين أرسطو، الذي ينظر إلى الأمام، والفيلسوف الشاب، الذي ينظر إلى الغرب. ابن رشد يظهر وكأنه وحيد، لا يكلم أحداً ولا أحد يكلمه أو يرغب في تكليمه. رسمت اللوحة في فترة كان العديد من الرسامين الإيطاليين واقعين في حبائل الإدارة البابوية. وتأثر جورجيوني بدعوة بيتراركا واضح، إذ تعبر عن العزلة التي أصبح يعشها ابن رشد، أو فكر ابن رشد، ومن خلاله عزلة الثقافة العربية ـ الإسلامية، والتنكر لها وعدم الاعتراف بها. (7) دعوة بيتراركا للتخلي عن الرشدية وعن الثقافة العربية ـ الإسلامية تفتح شهية إعادة قراءة مرحلة غير معروفة بما يكفي في العالم العربي. إعادة قراءة تبدو مفيدة. فهي لربما تدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم النهضة الغربية التي كثيراً ما مجدناه دون أن ندرك أبعاده الفكرية، وخاصة موقف النهضة من العلاقة بالآخر، الذي هو هنا العربي ـ المسلم، بثقافته وحضارته. معنى ذلك، أن نزعة خوف الغربي من العرب والمسلمين وكراهيته لهم ليست وليدة اليوم. إنها تعود إلى قرون، منها ما بدأ مع ظهور الإسلام، ومنها ما ترسخ بعد سقوط الأندلس، ومنها ما شاع أثناء الدعوة إلى الإنسية الغربية والنهضة. بيتراركا، هنا، ليس مجرد شاعر، حاز على السعفة الذهبية. إنه نقيض دانتي والتيار الرشدي في الغرب. فافْتح الكتَابَ واقْرأ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©