الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخطاب الديني عجز أم إعجاز؟

الخطاب الديني عجز أم إعجاز؟
22 ابريل 2015 21:24
ضمن أهداف الإصلاح الديني هناك هدف واضح صريح ومحوري، العمل على تحرير الخطاب الديني من الرّؤية السحرية للعالم؛ الرّؤية التي انتهت في آخر المطاف إلى تلطيخ ديننا بصور من الخرافات؛ الرّؤية التي أسطرت الدين (أي وظفته توظيفاً أسطورياً)، وأدلجته (أي وظفته في الصراع على السلطة)؛ الرؤية التي شحنت الطقوس بالأسرار، وملأت العبادات بالألغاز، وقدّمت القرآن الكريم للناس ليس باعتباره خطابا ربانيا تعبديا أو خطابا لاستلهام القيم الوجدانية الكبرى، وإنما باعتباره نصا «سحريا» فيه حل لكل مسألة، وجواب لكل سؤال، ودواء لكل داء، بل صار كأنه مغارة علي بابا فيها كل شيء، من قوانين الكون والتاريخ إلى نبوءات الأزمنة القادمة، ومن مشاكل الطب والأدوية إلى الخلايا الجذعية، ومن الثقوب السوداء وثقب الأوزون إلى مشاكل البيئة والعلاقات الدولية. المحصلة في آخر المطاف، أن ذلك التوظيف السحري قد دمّر الطابع التعبّدي لديننا الحنيف وحوله في كثير من الأحيان من رحمة للعالمين إلى ضرب من ضروب الكهانة والتطرف والخرافة. وهذا ما أوصلنا إلى حالة الأزمة الخانقة التي تحاصرنا من كل الجهات، بحيث أمسى الخطاب الديني نفسه عاملا من عوامل الفراغ الروحي للإنسان بدل أن يملأ النفس بالسكينة والطمأنينة بحكم وظيفته وبحسب رهان الكثيرين. علامات الأزمة من علامات الأزمة أنّ التوظيف السحري للدين يدفع بالبعض إلى النظر إلى الصلاة كعلاج لأمراض الرّوماتيزم، والنظر إلى البسملة كحل لمعضلة الأمن الغذائي، فضلا عن توظيف بعض الآيات والسور في معارك الإنس والجان، وما إلى ذلك. وبالجملة فمن علامات الاستعمال السحري للدين أن نبحث في الدين عن خاتم سليمان أو عصا موسى لحل كل المشاكل، والإجابة عن كل المسائل، والشفاء من كل العلل. وهذا محال في كل الأحوال. فإنّ القرآن الكريم لا يقدم نفسه كحل مرجعي لكل المشاكل والمسائل. إنه بالمعنى الصريح والفصيح يتضمن أحكاما حول نوازل خاصة، حين حاول الفقهاء تعميمها على أحوال عامة لم يجدوا الأمر ميسّرا، فلجأوا إلى القياس. والقياس اعتراف صريح بأن الأحكام القرآنية – بخلاف القيم القرآنية - تبقى أحكام تنزيلية وخاصة. أنا أقول، إن استنطاق القرآن بما ليس فيه يُعدّ خيانة للخطاب القرآني نفسه والذي حاول أن يؤسس للقطيعة مع الرؤية السحرية للعالم. ومثلا، فإنّ نبيّ الإسلام، ومن خلال الخطاب القرآني، لا يحضر كصاحب معجزات خارقة للطبيعة كما هو حال سائر الأنبياء، فهو لم يحيي الموتى، ولا هو شقّ البحار، ولا سخر الجن، ولا كلم الحيوان، بل هو ابن امرأة كانت تأكل القديد كما يقول عن نفسه. هكذا يقدمه القرآن الكريم. بل أكثر من ذلك فهو قد يخطئ حين لا ينتظر الوحي. وفعلا اقترف بعض الأخطاء الاجتهادية قبل أن ينزل الوحي لتتقويمه، بل ولومه أو معاتبته في بعض الأحيان. هذا يعني أن الإسلام في أصله وأساسه أقرب إلى تأسيس القطيعة مع الرؤية السحرية للعالم. غير أن الفقهاء والشيوخ والوعاظ وسائر الكهان كان لهم رأي آخر، فأغرقوا الإسلام في النظرة السحرية والتوظيف السحري. هناك من يظنّ بأنّ الأسطرة والأدلجة تمنحان للدين حيوية خاصة. وهذا ادعاء غير مقبول، سواء من وجهة نظر إيمانية أو من وجهة نظر علمية. وعموما فإن الذين لا يستطيعون أن يشعروا بحيوية القرآن الكريم وهو يُقرأ في الصلوات الخمسة من طرف ملايين المسلمين يوميا، معظمهم لا يعرف اللغة العربية، وليس مطلوبا منه أن يعرفها، والذين لا يستطيعون أن يدركوا حيوية القرآن في ارتباط أحكامه بظروف التنزيل وقابليتها للنسخ والتعطيل، والذين لا يستطيعون أن يروا حيوية القرآن في القيم الوجدانية التي يمكن استلهامها (الكاظمين الغيض، العافين عن الناس، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إلخ)، فلن يعثروا عليها في أي مكان آخر. المشكلة في الموروث المشكلة أن الموروث الفقهي شغل نفسه باستنباط الأحكام على حساب استنباط القيم، وهنا الكارثة الأخلاقية. ذلك أنّ الأحكام مقيدة بسياقها التنزيلي (السؤال، السائل، الظروف، الوقائع التفصيلية، وأحيانا قد تكون الظروف غير اعتيادية مثل حالات الحروب والعنف والاقتتال إلخ)، أما القيم الوجدانية، فإنها عامة وتنطبق على كل الظروف الاعتيادية والطبيعية. ومثلا، حين تحرض هذه الآية أو تلك على القتال، فمعلوم أن القتال ليس قيمة، لكنه حكم مقيد بظروف حربية استثنائية، وهذا ما يفسر بأن آيات السيف والقتال نزلت في المدة الفاصلة بين الهجرة والعودة أي فتح مكة، وهي مرحلة انتقالية؛ أما قول الحق مثلا، أو عدم كتمان الشهادة، أو كظم الغيظ، فإنها قيم وجدانية عامة وليست أحكاما تخص مواقف معينة. ما فعله موروثنا الفقهي أنه عمّم الخاص (أحكام القرآن) وأهمل العام (قيم القرآن). وصدقا أقول، إن كان للقرآن من حيوية فإن حيويته تتمثل في القيم الوجدانية لا في الأحكام التنزيلية. لقد بلغت سيطرة الفكر السحري مبلغا أصبح معه النص القرآني يُستعمل لاستخراج النبوءات المتعلقة بالمستقبل في العلوم والمعرفة والحياة. لكن، هنا أيضا يخطئ من يظنّ بأنّ الإعجاز العلمي «إبداع» أبدعه المسلمون أو شيوخ الإسلام أو أبدعوا فيه. نعم لقد تبنوه وأكثروا فيه لغوا وثرثرة كنوع من التعويض النفسي عن عقدة النقص اتجاه الآخر، لكنهم، والحق يقال، حتى في هذا المجال، والذي هو مجال الشعوذة بامتياز، لا مزية لهم ولا امتياز، إنما هم يجارون ويتماهون مع سادة الفكر الظلامي العالمي، وسدنة الإعجاز العلمي لدى طوائف اليمين المسيحي واليهودي. من قبيل طائفة الآميش مثلا، وهي طائفة تتواجد داخل العديد من مناطق الولايات المتحدة الأميركية، ويقاطع معظم أعضائها المؤسّسات التعليمية والإعلام، وهم يفعلون ذلك «تحت طائلة أنّ كلّ شيء موجود في الكتاب المُقدّس»، وهناك أيضا طائفة القبالا اليهودية، الذي يعد من بين روادها عالم الرياضيات روبير أومان، والفائز بجائزة النوبل للاقتصاد مُناصفة مع أحد علماء الاقتصاد الأمريكيين. وتُعتبر طائفة القبالا اليوم تياراً يهوديا غنوصيا رائداً في مجال التوظيف السحري لحروف التوراة وفق بنيات رقمية ومتتاليات حسابية أو هندسية معقّدة، وذلك لأجل استجلاء بعض الحقائق السرية والغيبية عن المستقبل سواء في العلوم أو الاقتصاد أو الكوارث الطبيعية. لقد صارت بعض الورشات «الإعجازية» عندهم أقرب إلى الفرجة المبهرة لجمهور قد يستمتع كثيرا دون أن يقتنع إلا قليلا. أما عندنا، فعلى الأرجح أنّ الإعجاز العلمي أصبح تعويضاً سلبياً عن شيء آخر اسمه العجز العلمي. وهذا كل ما في الأمر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©