الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفيلم والرؤيا

الفيلم والرؤيا
22 ابريل 2015 21:25
ستان براكهيج (1933- 2003) واحد من كبار السينمائيين التجريبيين في أميركا. وحتى بعد أن تجاوز الستين من عمره، ظل يعمل ويبتكر ويجرّب بروح شابة. أنتج سلسلة متنوعة من الأعمال: من الدراما السيكولوجية إلى الكوزمولوجية (القضايا الكونية)، مروراً بأفلام السير الذاتية، وتلك التي لا تحتوي على صور، وإنما مصنوعة يدوياً، أو بالأحرى، مرسومة باليد على نحو تعبيري تجريدي.. هنا يتحدث عن السينما والرؤية والموسيقى والتجريب. منذ البداية كنت أنظر إلى الفيلم بوصفه رؤيا. وهو لا يتصل بالأدب أو المسرح على الإطلاق، ولا علاقة له بمنظور عصر النهضة. كنت أناضل طوال الوقت ضد استخدام الفنون الأخرى للفيلم من أجل مصلحتها الخاصة، أي كوسيلة تسجيل، وضد الشرَك التاريخي لـ «الصورة».. أعني تجميع أشكالٍ ممكن تسميتها ضمن الكادر. حتى التصوير الفوتوغرافي، باستثناءات قليلة، لم يقم بأية محاولة ذات شأن لتحرير نفسه من ذلك الشرك. لهذا كانت لدي مشاعر غريزية معينة بشأن الفيلم حتى قبل أن أحقق فيلماً. *** الرؤيا، من وجهة نظري، هي ما تراه، والذي – إلى الحد الأدنى- يتصل بالصورة. إنها الرؤية فحسب.. وهي كلمة بسيطة جداً. أن تكون رؤيوياً يعني أن تكون رائياً. المشكلة أن أغلب الناس لا يستطيعون أن يروا. الأطفال وحدهم يستطيعون ذلك، إذ لديهم مجال أرحب من الإدراك البصري، ذلك لأن أعينهم لم تتدرب على يد قوانين المنظور أو المنطق التركيبي، وهي القوانين التي من وضع الإنسان. الرؤية لا تعني مجرد النظر إلى الصور.. لكن يبدو أن هذه الفكرة البسيطة هي الأصعب وصولاً واختراقاً لأذهان الناس. الرؤية بالعين المفتوحة هي ما ندركها ونعيها على نحو مباشر، لكن هناك الكثير من أنواع الرؤية التي نتجاهلها، والتي تشتمل على: الرؤية بالعين المفتوحة، الرؤية الخارجية أو السطحية، الرؤية النعاسية. بالإضافة إلى التفكير البصري المتحرك، رؤيا الحلم، الـتغذية الاسترجاعية للذاكرة.. باختصار، كل ما يؤثر في الأعين والدماغ والجهاز العصبي. أعتقد أن لهذه المجالات الحق في أن تدعى رؤية طالما أنها تخوّلنا لأن نرث السلسلة الكاملة من أجهزتنا البصرية والعصبية. * ** حين عشت في نيويورك، في الخمسينيات والستينيات، كنت مدمناً على حضور المعارض الفنية. كنت أتلقى ما يُعرض بنهم وشراهة. اكتشفت الرسام تيرنر الذي هو، على الأرجح، لا يزال الأكثر تأثيراً فيّ بسبب تصوراته عن الضوء. كذلك انجذبت بقوة إلى التعبيريين التجريديين: بولوك، روثكو، كلاين.. بسبب رؤاهم الباطنية. لا أحد من هؤلاء الرسامين التجريديين – رجوعاً إلى كاندينسكي ومن سبقه – قاموا بأية إحالة إلى الرسم بوعي أو على نحو مقصود، في ما يتصل بالرؤية بالعين المغمضة، لكنني كنت على يقين بأن العديد منهم لديهم هذه الرؤية على نحو غير واع. كانوا منهمكين في خلق رموز أيقونية من التجليات الباطنية. كانوا يرسمون طرائق تفكير غير شفهية، غير رمزية. لقد كنت مهتماً، بوعي وبلا وعي، بمحاولة تمثّل هذه الطرائق. *** إني أؤمن الآن بأن الفيلم مهيأ لكل ما تستطيع فعله بالرسم والتلوين والحفر أكثر من أي شيء آخر. أفلامي المرسومة باليد هي التي أفضّلها. إني أشاهدها المرّة تلو الأخرى، وأتيقّن من أنه لا يمكن إحالتها إلى أي شيء آخر غير الفيلم. كنت دائماً أشعر بالانجذاب إلى الأفلام المرسومة باليد، التي حققها الفرنسي جورج ميليه في بدايات السينما، والتي تمثّل ظاهرة استثنائية حقيقية. *** كنت أدخل وأخرج من «كتاب الموتى» الفرعوني لمدة 15 عاماً، كما درست قوانين حمورابي بدقة تامة. حين حققت تلك الأفلام كنت أحاول أن أنجز شيئين: أن أتوصّل إلى إدراك بالتفكير البصري المتحرك لتلك الثقافات، وأن أفهم كيف تنشأ الصور الرمزية المنقوشة – الهيروغليفية – التي تشكّل لغتهم من ذلك التفكير. حاولت أن أمثّل، على نحو تصويري، ما يحدث أثناء هذه «الرؤية»، وكيف أنه ضمن هذا التدفق من التلوين الكهربائي توجد أيضاً أجزاء من التغذية الاسترجاعية للذاكرة التي تتمازج مع الرؤية النعاسية، وتساعد في تشكيل وصياغة تلك الصور الرمزية. *** ما هو الفيلم، قبل كل شيء، إن لم يكن ضوءاً يتحرك في إيقاع خاص؟ الضوء فينا وحولنا. إنه في كل ما نراه. رقصة الضوء في الداخل، ذلك الذي يمتزج بالضوء القادم من الخارج. *** من بين جميع الفنون، الموسيقى هي الأقرب إلى الفيلم. كنت مفتوناً لفترة طويلة بالموسيقى والفيلم. ولقد تأثرت كثيراً بأسلوب شارلز إيفز الذي كان يحصل على العديد من مصادر الصوت المختلفة والتي تحدث على نحو متزامن: الفرقة النحاسية في جهة من المسرح، جوقة المنشدين في الجهة الأخرى، والأوركسترا في المنتصف.. كل منها تعزف موسيقاها الخاصة، وجميعها تتمازج وتتناسج. هكذا حاولت، في دمج الأصوات والمرئيات، أن أدفع في اتجاه الاحتمال الأبعد من التفاعل بين الموسيقى والفيلم، والذي هو مماثل لتركيبات إيفز ودمجه لقطع موسيقية مختلفة كل منها تحتفظ بوحدتها الجمالية الخاصة. *** الفيلم بصري بالتأكيد ومن منطلق جمالي. ومثلما اللوحة لا تحتاج إلى الصوت فإن الفيلم كذلك لا يحتاج إلى الصوت. في البداية، حققت أفلاماً ناطقة، لكنني شعرت بأن الصوت يقيّد أو يحدّد الرؤية، لذا تخليت عن الصوت. إن أفلامي مركّبة كفايةً وصعب مشاهدتها حتى من دون أي إلهاء للتفكير السمعي فما بالك لو كان هناك إلهاء باستخدام الصوت؟.. غير أني سوف أستخدم الصوت بلا شك لو شعرت بأن الفيلم يحتاجه. بما أن الفيلم ليس موسيقى، فإنني أحاول الآن أن أكتشف ما الذي يمكن أن يفعله الفيلم ليظل نقياً. إني أرغب حقاً في الانفتاح على ذلك الاختلاف. أرغب في تحقيق أفلام هي ليست نتائج طبيعية للموسيقى، والتي حتى لا تجعلك تفكر في الموسيقى. الفيلم الذي لا يعبّر عن أي شيء على الإطلاق. بودي أن أكون واضحاً ودقيقاً أكثر، لكن من الصعب شرح ذلك بالكلمات. في إحدى الكنائس الصغيرة شعرت باللاشيء الذي أتحدث عنه. ما شعرت به وأنا أتطلّع إلى تلك اللوحات كان مختلفاً كلياً عن أي تجربة دينية، شيء يمتلك بناءه العضوي، وحسّي على نحو صرف، غير أنه انتزعني إلى التخوم الحقيقية لكينونتي الداخلية. هذا ما أريده، أن يأتي ذلك الإحساس من خلالي ليدخل في عملي. أريد ذلك التقدير للاشيء والذي هو كل شيء. *** العمل الذي يشكّل مرجعاً لأشياء خارج البيئة الجمالية، الذي يعتمد على شيء خارجي وغير جوهري، هو عمل لا يتصل بالفن. الصورة المنعكسة للوضع الإنساني تبدو أشبه بطائر يغرّد أمام المرايا. العمل الفني يكون «في» العالم، ويمتلك حياته الطبيعية مثل أي شيء آخر، كلما كان أقل اهتماماً بجعل العالم ينعكس من خلاله. الفيلم يجب أن يكون حراً من أية محاكاة والتي أخطرها محاكاة الحياة. *** العمل الفني يجب أن يمتلك عالمه الخاص، وكل ما يوجد في هذا العالم متصل ببعضه في علاقة متبادلة بحيث يشكّل وحدة كاملة، كما تفعل لوحات روثكو.. ويجب أن يوصل الإحساس بكينونته الخاصة. *** أظن أن أفلامي تخاطب باستمرار الواقع الاجتماعي- السياسي. لا أعتقد أني حققت فيلماً لا يحمل بعداً سياسياً بالمعنى الأوسع للكلمة، ولا يعبّر عما أشعره بشأن أوضاع زمني، وبشأن تمردي على تلك الأوضاع. خذ كمثال فيلمي «مشاهد من تحت سطح الطفولة» الذي حققته بدافع اشمئزازي من تمثيل شيرلي تمبل (النجمة الطفلة في أفلام هوليوود القديمة) للطفولة. هذا التمثيل الزائف تماماً والذي يساهم في التحريض على إساءة معاملة الأطفال وممارسة الإيذاء الجسدي بهم. خذ أفلام الولادة.. شيء مرعب أن تكون الولادة من الموضوعات المحرّمة (تابو) وأن تكون ممنوعة ومبعدة عن الرؤية الإنسانية، إضافة إلى التعامل الهمجي مع النساء الحوامل وتجاهلهن كأمهات في هذه الثقافة. إذن كانت هناك دوافع سياسية أدت بي إلى تحقيق خمسة أفلام من هذا النوع. في الوقت نفسه، أود أن أضيف بأنني لو حاولت في هذه الأفلام أن أقدّم، بطريقة واعية، بديلاً سياسياً، فإنني سوف أزيّف العملية الفنية. كفنان، عليّ أن أكون حذراً جداً في عدم السماح للبواعث الاجتماعية والسياسية بأن تهيمن وتحكم لأنني عندئذ قد أزيّف التوازنات التي هي جوهرية وضرورية لتحقيق علاقات جمالية بين الكائنات وبيئتها. *** في الستينيات آمنّا بأن الفيلم قادر على أن يساعد في تغيير العالم. الآن لم يعد لديّ ذلك الإيمان. لم تبق لديّ أفكار بشأن إنقاذ العالم. إني أفضّل الآن أن أرى أعمالي باعتبارها محاولةً لتحرير مجالات جمالية، لتحرير الفيلم من الفنون والأيديولوجيات السابقة، لأن يكون ذا فائدة لأولئك الذين سوف يخلقون وحدات شكلية من أنواع متعددة ومتنوعة، والتي قد تساعد في تطوير الحساسية الإنسانية. .......................................................... (المصدر: مجلة Sight and Sound)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©