السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التمسّك بما كان خشية ما سيكون

9 ديسمبر 2009 21:42
لا يركن الشاعر إلى المدينة.. فهي عنده معادل للقلق واحتباس الأنفاس الشعرية وانهيار أحلام الغنائية الساحرة.. وهي عنده جغرافيا قاسية المعالم.. ومتاهات للضياع والاغتراب. والمدينة ليست مكاناً عند الشاعر، بقدر ما هي رؤية تجمع ـ عند غالبية الشعراء ـ الشرور والألم، وطاقة ترميزية يصلون من خلال تصورها وتصويرها إلى غايتهم في التمسك بما كان خشية ما يكون.. وربما جعلوها، في أحايين كثيرة، جماراً يرجمونها حينما يسعون إلى التطهر مما أصابتهم به من إحباط.. أو أجبرتهم عليه من آثام. ولعل التحولات السريعة.. وما صاحبها من سباقات آلية تركت آثارها في أخلاق أهلها.. وطبعت أكثر أناسها بطوابع كانت حتى زمن قريب من الموبقات.. هي ما زلزل كيان أولئك النفر الذين لا تناسبهم هذه التحولات العنيفة في الحياة والناس والهياكل التي أصبحت قبوراً بعضها فوق بعض. فلا حياة في المدينة عند أمثال الدكتور غازي القصيبي.. وإن كانت لوس أنجلس: سأكتب عنك يا عملاقتي المغرورة.. البلهاء سأكتب عن ضبابك.. عن شرور دروبك السوداء وعن قلبك لم ينبض وجفّ كصخرة صماء ولعل من الأمور التي يمكن أن تلفت انتباهنا في علاقة الشاعر بالمدينة.. أن الشعراء يجعلون من أرواحهم المتعطّشة لكل ما هو طبعي وروحاني وبلا حدود أو قيود ضاغطة شواهد على آلية المدينة، وقسوتها، ومحدودية الممكن للشاعر/ المبدع.. وهذه الشهادة تمنحنا فرصاً مثالية لرؤية الجوانب التي لا يمكن للكادحين في دروبها أن يتنبهوا إليها.. أو أن تثير اهتماماتهم. وهي رؤية لا يمكن ادعاء موضوعيتها بقدر ما يمكن الاحتفاء بها من جانب كونها تسلط الأضواء على زوايا كئيبة لا تثير اهتمام غير ذوي الرؤية الشاعرية الشاعرية. والشاعر ـ كما يرى قيصر عفيف ـ أقدر الناس على الإدلاء بشهادة، يرى أنها الأكثر مصداقية، على هذا المدّ الدخيل للصناعي الكئيب.. على حساب الروحاني الملهم: أأنا الشاهد الوحيد على هذه المدينة الكثيرة التعب على اللغة يملؤها الحزن والكذب مَن غيري يستوعب هذا الرعب؟ وهي شهادة لا تقف في صف المدينة بحال من الأحوال.. فالمدينة والناس فيها غربة وخرس واختناق: كل المارة غرباء البيوت خرساء الهواء أسود قستْ المدينة/ السجن/ الجريمة/ الغربة.. على أرواحٍ لا تقبل القيود.. ولا تعيش في الصمت.. فكان الرد آهاتٍ رددها الشعراء على هيئة صورٍ قاتمة.. لمدنٍ لا ترحم. شوارع الغبار.. مطحن الأعصاب.. مائدة القمار. هذه ـ على سبيل المثال ـ صورة مقربة للمدينة/ الوجع/ الموبقات.. كما يراها حجازي الشاعر.. وهي رؤية تصلح مقياساً لانزعاج الذوات الشاعرة الأثيرية حينما تخرج من رحم الطبيعة الأم.. إلى قيود الحياة الآلية الباحثة عن غدٍ ملوّنٍ بالمصالح.. تجاهد ليكون أكثر مادية. في الوقت الذي فيه يبحث المبدع عن كل ما يقرّبه إلى ذاته.. ويجعله أكثر قدرة على التحليق في فضاءات خالية من المؤثرات الحضرية المرهقة. في مثل أجواء القاهرة لا يملك الشاعر أبعاداً مناسبة لرؤيته البصرية.. ولا ميادين مفتوحة ينقل فيه خطو روحه وخطو جسده. وبمثل هذا.. يتساءل بلند الحيدري عن مدى قدرته على تحمل ما تصبه المدينة على رؤوس أبنائها من ضغوط السعي الآلي.. وما يمثله ليلها من انغلاق على أوجاع لا يعرفها أهل الأقاليم المفتوحة على نهارات طبيعية.. وليالٍ حميمة. ماذا سأفعل في المدينة؟ ستضيع خطوتك الغبية في شوارعها الكبيرة ولسوف تسحقك الأزقات الضريرة في المدينة لا تزقزق العصافير.. ولا تتحلى السماء بعقدها الماسي الأخّاذ في ليال هي العيد أو ألذّ.. ولا يتبادل الجيران التهاني بالصباحات البيضاء الجديدة. وهنا.. لا يمكن للشاعر أن يكون شاعراً. فالمدينة ـ عند السياب ـ حبال من الطين.. تختار قلبه.. لتلوكه.. وهل الشاعر إلا قلبه! وهي قاسية إلى الحدّ الذي تستطيع فيه أن تحرق كل الجمال الذي كانت قد حمّلته به قريته جيكور: التفت حولي دروب المدينة/ حبالاً من الطين يمضغن قلبي/ ويعطين عن جمره فيه طينه/ حبالاً من النار يجلدن عري الحقول الحزينة/ ويحرقن جيكور في قاع روحي. * شاعر وناقد سعودي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©