السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإصغاء إلى نبض الكون

الإصغاء إلى نبض الكون
9 ديسمبر 2009 21:46
يكتب محمد الصابر قصائد ديوانه الجديد “الجبل ليس عقلانيا” في خلوة تامة مع نفسه، بعيدا عن كل ما يمتّ بصلة للمدينة وللحداثة المزيفة، يكتب بلغة شاعرية وبإيقاع سلس . الشاعر محمد الصابر يشحذ مخيلته ليصنع عوالمه التي ينفرد فيها رعاة الشتاء الغابر، يركن إلى جوار الصمت والأشجار الأسطورية التي لا نجد لها أثرا إلا في كتب القدماء. محمد الصابر يلبس ريش الصقر ليهجر كل الأمكنة ويختلي بنفسه في كون قصيّ من عالمه الأسطوري المتوحّش ل “يخبر ضياع الأحزان”، يجلس وحيدا لينصت لـ”أنفاس الجبال الكتيمة، وأنفاس جذور الشجر وأنفاس الحصى”. يقول مفتتحا ديوانه الجديد “الجبل ليس عقلانيا” في ترتيل كاتدرائي جنائزي كأنه يطلق صرخة الأبدية والأزل: “هُنا منْذ الضّجةِ الأولَى، صقْر يُشيّدُ مُكابداتِه بِقطَع من الظّلام، يرمّمُ ثُقوبَها بالقطرانِ المُتخثِّر، صقْر موْهوب في البُكاءِ وفي التَّنقيبِ عن المِلحِ، صقر يفْعلُ ذلَك كُلُّه بمنْقارِه الشَّيخ، جائِع للتَّعطُّش، مُتعطِّش للجُوع لا تَرْويه كُهوف تجهَشُ بالتّاريخِ، ولا تَآريخ تختَّرت من فرْطِ القِدمِ، من مُخيِّلته يحْشُو شُقوقَ الجُدْران بالكوارثِ التي حدَثَتْ للرُّعاة في الشِّتاءِ الغابِر، وقْتُه هَدَر، غير أنَّ لهُ وَجعا مَكْتوما في البُنِّ الذي هوَ صوْتُه الوحيدُ وله نَحيب يَكادُ يشْبِه رائِحةَ الخُبْز نَحيب يلْمَع كَالماءِ الذي يبَلِّلُ سِلالَ الصَّيادينَ، دوَْما ضائْع بيْن مُحاذاةِ الصَّمتِ وبيْنَ طَقوس في اسْتدارةِ الطُّقوسِ المُدنَّسة ودوْما مثْل الشَّجر لهُ عقائدُ شتَّى، عقائِدُ باسِقَة كالنَّخلِ، “يا خائِطَ الأكْوانِ خِطْنِي” هكُذا يصفِّقُ جَناحاه وهُو يحُطُّ في اللّيْل على حَجر وَحيد وحِين يَبتهلُ وحْدهُ مثلَ جَبينِ الشَّاعر لهُ شَرائعُ تُهيل تغْريدَ البومِ على البَراري عنْدما يَكون ينادِي على الليل للتجمهر، يهوَى مِشيةَ القطرُس التي أشبهُ ما تكونُ بالموشَّح بين دفَّتَي كتاب قَديم، يَقظ منْذُ الضَّجَّة الأولى لم ينمْ، مدامعهُ وافرة لذلكَ يزهدُ في البكاءِ، وكان يقالُ إنَّه يَنزوِي أعْواما طَويلة يَخْبرُ طباعَ الأحْزانِ، حتى إذَا ما ضَمرتْ بُطونُها صارَ شُعاعا يبَعثِر راِئحة الخشبِ في بدايةِ النَّهارِ. نبْضُ قَلبي تَدَافُعُ الكواكبِ ازدحامُ اللَّيل على بابِ الحكاياتِ تَصَدُّعُ المَجرَّاتِ وتَشَقُّقُ الرِّياحِ هكذا تُجسِّدهُ قُطعانُ الحجرِ الذّي يرْكضُ جهةَ الأخاديدِ حامِلا حفْلا من الخُطوطِ، يعْني مَناجِل ورِماحا وفُؤوسا نبْضُ قلْبي نِيران مُجنّحة وعَمياءُ نبْض قلْبي كائِن خُرافيّ لم يخْرجْ إلا منْ مخيّلتي محْشواّ بالمساءِ مثْل دقَّات الطُّبولِ نبْضُ قلبي”. قصائد محمد الصابر في هذا العمل الشعري المتميز تحبل بالاستعارات التي تصنع أبعاد عوالمه الشعرية، وقاموسه يطفح حدّ الفيضان بأسماء الحيوانات منها ما رافق الإنسان منذ أطلق صيحته الأولى، ومنها ما عرفناه فقط في كتب الدّين والأساطير والحكايات الخرافية وقصص الجدّات، نصوصه تشحذ المخيلة وتحمل القارئ إلى أغوار التاريخ وأمكنة الحروب والدفن والصراخ والغيرة والحسد وصفير الريح وأمكنة المزارعين ومقابر الموتى “بسَلاليمهمْ وقُضبانِهم وقُمْصانِهم المُزرْكشةِ بِالأرْواحِ والشَّياطينِ ليَقطِفوا الغيْمَ لأجْلِ أمَّهاتهمْ، بيْنما النَّملُ يَعُظُّني في كلِّ ناحِية حتَّى يسيلَ حليبِي وتنهارَ الأرْواحُ المحْشوَّةُ في جِذعِي كيْ أكونَ أنَا، أنَا بِلا طعْم وبلا ضجَّة”. في فضاء عوالمه الشعرية نتلمس الإصغاء المرهف لذات الشاعر المنكسرة، وهو الشاعر الذي يتصوّر نفسه كطائر خرافي يرغب في التحليق عاليا بجانحين طليقين غير مكبلين، فالشاعر يصارع من أجل أن يعتلي كل العروش ، ويختار بحذر شديد كلماته وعوالمه الشعرية. “تحْتَ جناحيَّ أحْضنُ الأنْهارَ والتياراتِ والرُّعودَ/ الفتِيَّة والعَقائدَ القَديمةَ لشجرِ الدّلْبِ،/ من هَذْبَيَّ تجيءُ الغُيومُ مثلَ حيوانات غَريبة/ مثلَ الخبْزِ المغْموسِ بالظِّلِّ/ منْ يصدِّقُ لعبتي/ عندما أصير أنا النسيان، أكون أنا الذي/ جلست أعواما أرعى المجرّات أتعقبها/ وأهددها بالغموض وبالمشاعر كلما صدقت/ عن ندائي/ من يصدق لعبتي/ عندما أكون أشد فتكا بالموت، تصير ظفائري/ سلاسل الدراجات الهوائية ويداي مفاتيح الميكانيك/ ورجلاي مطارق فولاذية وحديدا متلاشيا موصولا/ بعرق العمال، وبيدي دوما أدق الطبل الذي/ بين ركبتي/ أقيم الولائم للجبال التي أحشرها تحت الغيم/ الجبال التي تسكن الانهيار المنبعث من طبلي،/ إذ أنا والتاريخ أخوان شقيقان ولدتنا الأسطورة وشرّدتنا،/ من يصدق لعبتي/ والآن بقي لي قليل/ من الأرض/ في جسدي، جوار الأعشاب الغافية/ حيث أتسكع مع الضوء الخفيض للقمر/ ثم أعود/ إلى جسدي في الصباح المبكّر/ أندسّ جوار اسمي المرتجف/ احضنه بجناحيّ المسدولين وأنام”. هوة واسعة تفصل بين نصوص هذا الشاعر وبين من يسمّون أنفسهم شعراء “اليوم” يكتبون لليومي وعنه، فالشاعر محمد الصابر يملك قاموسا ثريا مما يؤهله ذلك لكتابة نص شعري تمردي، مغاير، وانقلابي وبعيدا كل البعد عن النمطية والمعتاد، انسياب صوره الشعرية مكّنته من خلق نص شعري يقف جنبا إلى جنب مع نصوص شعراء كبار أغنوا المدونة الشعرية ليس في المغرب وحده بل في العالم العربي، واذكر منهم على سبيل المثال أدونيس، الماغوط، أنسي الحاج، محمد نيس، محمد بنطلحة، عبد الله زريقة وغير هؤلاء. يقسّم محمد الصابر ديوانه “الجبل ليس عقلانيا” إلى أربعة أقسام وهي: “المشي على الضفة الوحشية”، وفيه نقرأ “الصقر”، “هياتيكوس”، “واصنع الفلك بأعيننا”، “النعش”، “ترويض الألم”. وفي القسم الثاني “الصيادون يربكون فلاسفة الموت”، نقرأ “طقوس الكتابة 1”، “طقوس الكتابة 2”، الجبل ليس عقلانيا”، “كارل بوبر عازف جيد على الكمان”، “فضيلة الارتياب”، “قبر الاستعارة”، “باليماكو”، “التحديق في علين الليل”، “صيد التوت البري”، “نمل يلتهم البياض”. وفي القسم الثالث “الطغاة” نقرأ “الطغاة يتركون خدوشا في الضوء”، “رجل لا يكذب على سيدته عندما لا يعود”. وفي القسم الأخير “اللعب بالموت”، وفيه نقرأ “أنا والليل نرتدي نفس المعطف”، “تعال نختلف”، “بل سأعود ثانية”. وقد جاء الديوان في 111 صفحة من الحجم الصغير، وهذا الديوان هو العمل الشعري الخامس بعد: “زهرة البراري” (1989)، “الورثان” (1993)، “ولع بالأرض” (1996)، “ولع بالأرض” (1998)، “وحدي أخمش العتمة” (2002). وقد صدر الديوان ضمن إصدارات مطبعة فضالة في المغرب. يؤثث محمد الصابر مشاهده الشعرية انبثاقا عن رؤية فلسفية تنظر إلى الكون في كليته، الكون هنا يتحدث لسانا عربيا، ويكتب سيرته الأولى منذ الخلق الأول. يتحول الراوي الشعري إلى وسيط ناظم بين الكون والإنسان الذي يرتحل بين عوالم هذا الكون دون الانتباه إلى نبضه تحت أرجله. ومن هنا يرى الشاعر محمد الصابر مشروعية طرحه الفلسفي الذي يدعو إلى تبني الهوية الأرضية بتعبير إدغار موران، أو الانتماء الأرضي، ولعل السمة البارزة لكل قصائده سواء في هذا الديوان أو في غيره، هو الإصغاء إلى الطبيعة، ونبض الكون، وتحويلهما إلى حكايا شعرية إنسانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©