شوارد بشار

يجمع الباحثون والقراء على سيرورة شعر المتنبي الذي أصبح الدهر منشدا له، لكن أحدا لا يتذكر سبق بشار له في هذا الصدد، فكثير من الأبيات الشاردة التي ما زلنا نتمثل بها إلى اليوم دون معرفة بمصدرها تعود في الواقع إليه، من ذلك ما يروى من أنه اجتمع مع صاحبيه اللدودين يحيى بن زياد وحماد عجرد على طعام، فوقف سائل بالباب، فقال: يا مسلمين! فرد عليه يحيى ليصرفه بجزء من آية قرآنية “فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون” تعبيرا عن الانشغال عنه كأنهم في الحشر، فقال السائل: ارحموني، فرد عليه حماد عجرد: قد رحمناك بعدم الإذن لك. فقال السائل: اسمعوا على الأقل كلامي، وهنا يأتي دور بشار ويتجلى ظرفه إذ يقول: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي كما يروى أن رجلا سأل بشار عن منزل رجل ذكره له، فجعل يفهمه موقعه والرجل لا يفهم، فلما ضاق به بشار أخذ بيده وقام يقوده إلى المنزل الذي يبتغيه وهو ينشد البيت الذي أصبح سائرا: أعمى يقود بصيرا لا أبالكمُ قد ضل من كانت العميان تهديه ومع أن استخدام المثل يوظف العمى الحقيقي والمجازي معا فإن الأصل يظل في الذاكرة. من ذلك ما يروى أيضا من أن رجلا يقال له دهمان الغلال قد مر ببشار يوما وهو جالس على باب وحده، وبيده مِحضرة يلعب بها (عصا كالسوط) وقدامه طبق فيه تفاح وأترج، فلما رآه وليس معه أحد تاقت نفسه إلى أن يسرق ما بين يديه، فجثا قليلا حتى مد يده ليتناول منه، فرفع بشار القضيب خلسة وضربه ضربة على يده كاد يكسرها، فقال الرجل، قطع الله يدك يا ابن الفاعلة، أأنت أعمى؟ فقال له بشار: يا أحمق فأين الحس؟ مبرهنا للرجل أنه يملك من رهافة الحس ما يجعله يتفوق على المبصرين. وأطرف ما يتجلى من مهارة بشار في التلاعب في المواقف والكلمات ما يواجه به تحدي الآخرين واستهانتهم به، إذ يركبه عندئذ شيطان التفوق فيصر على مصرع منافسه. من ذلك ما يروى من أنه فصّل قباء عند خياط أعور يقال له عمرو، فقال له الخياط على سبيل العبث، سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دُوَّاج (وهو لباس فارسي يلبس من الناحيتين) فقال له: إن فعلت ذلك لأنظمن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك أم عليك، ففعل الخياط، فقال فيه بشار: خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء قلت شعرا ليس يدري أمديح أم هجاء