الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كارهُ المطر

كارهُ المطر
30 يونيو 2010 22:02
كان اليوم الذي كرهتُ فيه المطر غائماً طويلاً وموحلاً، لم أتصوَّرْ أن ذلك سيحصل لي ولكنه حصلَ وأهالي قريتي كانوا سبباً في ذلك لأنه فيما بعد سينعتني أصدقائي في المدرسة بـِ”كارهِ المطرِ”، وإلى الآن لم أعرفْ لماذا رضي الأهالي أن ينام الأموات عند الهضبة وسط القرية في حين فرَّ الأحياء إلى الأطراف، حيث بساتين الرمان والبلَحِ، استقرَّ الأموات غافين في سعادة باهتة عند المقبرة بسورها الأبيض البسيط وغير بعيد عنها مدرستنا الابتدائية مدرسة “سيدي عبد الرحمان” العارية من أيِّ سور تصافحُ الطريق الترابي والبرد كل صباح، وكان الشتاء يصفعنا كل سنة بلا رحمة ولكن ذلك يمرُّ بعذوبة نظراً لتلك الألعاب الصغيرة التي كنا ننفق فيها أيامنا كلَّما خرجنا من المدرسة، كان صديقي “معزّ” رفيقي الدائم ولكن ما ينسينا غبار الطريق عيون “سارَّة” الدافئة بتنُّورتها القصيرة النظيفة وجواربها الزاهية الطويلة وضحكتها الخافتة المتموِّجة مثل ماء الوادي البعيد، أنيقةً كانتْ ومُترعَةً بالحبة السوداء الصغيرة فوق شفتها العليا وبصمت الملائكة الذي تتوشَّح به كل صباحٍ في الطريق، أما المدرسة التي لم تكن بعيدة كثيراً عن بيوتنا فقد كان المشي في طريقها الترابي عسيراً كل شتاء عندما تهطلُ الأمطار، وعند خروجنا من المدرسة الساعة الخامسة كنَّا نواجه البرد اللاذع بالركض والضحك واللعب حتى ننسى انكماش جلود أيادينا الصغيرة واتساخ أكمام ملابسنا من أثر مسْحِ أنوفنا فيها، كان ذلك رائعاً، ولم تكنْ الطريق بين بيتنا والمدرسة طويلة ولكنها كانتْ جميلة ومترعة بالحكايات الخيالية التي يحبها معز فيرويها لنا بحركاته المسرحية الأنيقة وهو يدعونا للتوقُّف في كل مرة يصل فيها إلى حدث مرتبط بالسحر أو الغول أو الكائنات الفضائية والأطباق الطائرة، حتى أصبحْتُ أحبُّ تلك الطريق بصحبتِه. كنا نمسك بيَدَيْ سارة ونجري وهي تتعثر، يلاحقها شعرها القصير ولكن أغْرَب شيء ارتبط بمدرستنا التي لا سورَ فيها هو أن التلاميذ عندما يتشاجرون فإنهم خوفاً من المدير والمعلمين يصفُّون حساباتهم في المقبرة بشتى أنواع العراك، وكنتُ أنا ومعز نذهب هناك للفرجة والمشاهدة غير أني بحكم ترددي على المكان، أصبحْتُ لا أهتم بشجار التلاميذ بل كنتُ أطوف بين القبور أتسلَّى أنا ومعز فنقرأ أسماء من مات من عائلتنا. وبِتُّ كلَّما دخلتُ المقبرة أذهب ناحية القبور لأجلس إليها وألعب بجانبها في حين تظل سارة تقفز من وراء السور من حينٍ إلى آخر وفي عينيها نظرات الجزع فقد منعناها من دخول المقبرة خوفاً عليها من الموتى، كنتُ أعشق الطريق المحفوف بالأحلام إلى بيتنا وعشقتُ مدرستنا لأنه داخلَنِي شعور أن هؤلاء الموتى من عائلتنا يؤْنسون وحدتي إلى أن أصبحنا نذهب إليهم باستمرار ودونما سبب حتى جاء ذلك اليوم الشتوي البارد الطويل. كنتُ في الطريق إلى المدرسة بصحبة “سارة” و”معز” كالعادة عندما بدأتْ الغيوم تغمر السماء برداء حالك السواد وصاحبتْها في ذلك رياحٌ عاتية باردة يُحدث صوتها رهبة في داخلي ويَخِزُ أذنيَّ الصغيرتين المختبئتين تحت شعري الفاحم، الهواءُ البارد يلفح وجهي الثلجي اليابس، وينفذ متجوِّلاً على خطوط جلديَ المنكمش فيُحدثُ رعشة في كتفيَّ فأرفعهما لأحمي رأسي الصغير، يومَها لم نتكلم كثيراً أنا ومعز كنا نمسك بيدي سارة ملتصقين اتقاء للصقيع ولكن ما أن بدأ المطر ينزل رذاذاً خفيفاً حتى غمرتْنا سعادة الأطفال وأخذنا في الركض تُثقلنا محافظنا، وصلنا المدرسة ودخلنا الصف، كان التلاميذ فرحين بالمطر وأرضية الفصل تبدو متسخة بشيء من الوحل، في حين كان معلمنا ينتظرنا “ببلوزته” البيضاء مبتسماً، كانت عيوننا متجهة إلى الشبابيك والنوافذ لأن المطر ازداد قوة والغيوم السوداء غشيَتْ المدرسة بكاملها، حاول معلمنا أن ينيرَ القاعة لكن الكهرباء انقطعتْ، هطلتْ الأمطار بقوة شديدة تضرب بلَّوْر النوافذ، تسرَّبَ الماء مندفعاً بقوة أسفل الباب ومن الشبابيك، أصبحنا لا نكاد نسمع كلام المعلم، تحولتْ ساحة المدرسة إلى بِرْكَةٍ من الماء عظيمة، خرج المدير من مكتبه أخذ يطوف على المعلمين للاطمئنان، توقَّفَ المعلم عن إعطاء الدَّرْس، دخلَتْ سيارة الشرطة، كان مدير المركز يتكلم مع المدير بتوتُّر بعدها تماماً غادرتْ الشرطة المدرسة عندما كان المدير يطوف من جديد على الصفوف، في الأخير دخل علينا ليُعلمنا أن الطرقات مسدودة تقريباً وأن الأودية قد فاضتْ بالمياه الجارفة، ولذا كل طالب سيعود إلى منزله برفقة أبيه أو من ينوبه والشرطة ستتكفَّل بإخبار الأهالي حتى يأتوا إلى المدرسة، ساء الطقس واربدَّتْ السماء أكثر ورغم ذلك بدأ الأولياء يتوافدون على المدرسة ليرافقوا أبناءهم وأخذ عددنا يتضاءل في الصف، وبدأ الحزن يخترقني، عدد التلاميذ يتناقص شيئاً فشيئاً، والليل يقترب بسرعةٍ، الأمطار المصحوبةُ بالرياح تكاد تعصف بغرفة الدرس، معلمنا يذرع الصف جيئة وذهاباً وعددنا يقلُّ... عشرةٌ... ثمانية... خمسة... أحسسْتُ بالألم يعصف بقلبي الصغير، أعجبني صوتُ الرياح بدتْ لي كأنها تبكي، شعرتُ بالوحدة، انتبهتُ إلى أن صديقي معز الذي كان يجلس بجانب سارة، يطلب مني أن أرافقه، أبوه واقف بالباب، رفضتُ ذلك، قلتُ له بصوت مختنق خجول : “سيأتي أحدُ أقربائي ليرافقني إلى البيت”، اقتربَ المساء، حينَ نهضتْ سارة إلى أبيها الذي أتى كي يرافقها خُيِّل إليَّ أن دمعةً كانتْ غير بعيدة عن حبَّتِها السوداء، فقد كانتْ تنظر إليَّ بين الحين والآخر داخل القاعة، تجاهلتُ نظرتها المُشفقة، كاد السواد يعمُّ المدرسة والأمطار ما زالتْ تهطل بقوَّة، لم يبقَ أحد غيري في القاعة، وإلى الآن لم يأتِ أحدٌ ليأخذني، أصبحتُ وحدي، بدتْ لي غرفة الدَّرس كبيرة جدا، أحسستُ بانقباض مرير في صدري وكأنَّ شيئاً يمنعني من التنفس وضعتُ يديَّ بين ساقيَّ ودسسْتُ رأسي بين كتفيَّ مرتعداً حزيناً، اقتربَ معلِّمي من طاولتي لم أشأْ أن أنظر إليه أو أن أحرّك جفنيَّ، خفْتُ أن أبكيَ وفجأة ً وقبل أن يكلِّمني، وقفتُ، ابتعدتُ عنه قليلاً، تقدَّمْتُ نحو الباب بخطى مبتلَّةٍ خفيفة وقلتُ لمعلِّمي: “سيدي أبي ينتظرني هناك عند سور المقبرة ...”، وأشرتُ بيدي ناحية المقبرة، لمحتُ نظرات الاستغراب في عينيه خاصة بعد أن أطلَّ من النافذة ولكني لم أترك له مجالاً فقد اندفعتُ ومحفظتي على كتفي، أقفز بين البِرَكِ والمطر يغسلني، انفجر الانقباض في لحظة، سالتْ الدموع على خدِّي، غاب صفير الريح وأحسستُ المطر يعانق وجهي، اندفعتُ أبكي وأركض دون أن ألتفت إلى الوراء، دخلتُ إلى المقبرة وكأنَّ السيل دفعني إلى هناك، عندما سمعتُ معلمي يصيح من ورائي: “إلى أين تذهب؟ أين أبوك؟”، عند ذلك فقط توقفت رغم المطر والريح، التفتُّ إليه وأجبتُه باكياً وأنا أنتفض بعصبية وأصرخ: “لقد مات يا سيدي... مات... مات..” تركتُه واجماً تحت المطر واستدرتُ لأواصل الركض والقفز وقدماي تغرقان في الوحل تحت خيوط المطر الثقيلة متوَجِّهًا إلى البيت، كنتُ أرى السيول دموعي وكنتُ وحيداً مع الرياح، يومها كان الطريق إلى بيتنا طويلاً، كنتُ وحيداً من دون معز وحكاياته وسارة وملائكتها، كانتْ الطريق الخانقة الملتوية تبتلعني مثل فمٍ عملاقٍ لأفعى بسمٍّ زلِقٍ لاذعٍ تحت أقدامي الصغيرة المتجمدة، كنتُ بقدر ما أركض بقدر ما تزداد دموعي غزارةً... فلمْ أعدْ أسمع سوى صوت نشيجي يغطي صفير الرياح.... كانتْ آخر مرةٍ أحبُّ فيها المطر.. وآخر مرةٍ أزور فيها قبر أبي... * العين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©