الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جورج سيفيريس الصّيف الإغريقيّ السّاطع

جورج سيفيريس الصّيف الإغريقيّ السّاطع
17 يناير 2018 19:30
كتابة - ديمتريس كرانيوتيس ترجمة: أحمد حميدة جورج سيفيريس، واسمه الحقيقيّ جورجيوس سيفريادس، عاش في آن، مثل سان جون بيرس أو كلودال، عيشة دبلوماسيّ وشاعر، ولكن بإخلاص عميق، ودون أن تكون له رغبة ثابتة في أن يشيد أسطورته، أحياناً مقابل مراوغات زائفة. فسيفريس لم يكن بحاجة إلى التكهّن، ولا إلى ارتداء جبّة المتنبّئين، كيما يتحدّث وبكلّ بساطة عن الأبيض في رحم النّوارس، وعن القدر الإنسانيّ. كان يعيش في المنفى الذي يحمله في قلبه، مترحّلاً ومتأمّلاً في ذاته وفي ما يدور من حوله. لقد مدّت الأرض الإغريقيّة نحوه يديها لتفصح له عن أوهامها، وهو المنفيّ في قلب الضّياء. وإنّه ليتبدّى في الشّعر الإغريقيّ كانقلاب صيفيّ، إذ يعبر بصوته وجع وروعة وانبعاث التّاريخ اليونانيّ، القديم والحديث. كان صديقاً لإليوت وقسطنطين كفافي وإيف بونفوا وهنري ميلّر ولورنس دورال.. الذين جمعهم به، تراسل منتظم. أمّا لوران غسبار، فمضى لتعلّم اللّغة الإغريقيّة والعيش في أحضان طبيعة اليونان كي يترجم أعماله. وقد تحوّل هو بدوره إلى أسطورة، وشاعر رسميّ لأمّة بأكملها، ليتحصّل على جائزة نوبل للآداب سنة 1963 (وهو أوّل من حاز تلك الجائزة من اليونانيين)، ليظلّ وفيّاً لذاكرته الأصليّة ولقيمه الإنسانيّة. لقد أدّى دور الملاّح المهرّب ليقود البشريّة إلى مرفأ آمن. حصى أبيض على الطّريق ظلّ سفيراً لمدّة خمس وأربعين سنة، وملاحاً لا يني يتنقّل من مرفأ روحيّ إلى مرفأ روحيّ آخر، مثل بطله، البحّار ستراتيس، مبحراً، في أغوار المشاعر الإنسانيّة. درس الحقوق واللّغة الإنجليزيّة في أثينا، باريس ولندن، ولكنّه تشبّع خاصّة بشعر مالاّرميه، إليوت، فاليري، كفافي وعزرا باوند. ولد في سميرن، في 13 مارس سنة 1900، التي غادرها وهو في سنّ الرّابعة عشر، جرّاء تصاعد التوتّر بين اليونانيّين والأتراك. وسميرن- إزمير التي كانت من مدن الإمبراطوريّة العثمانيّة، كانت قد عرفت تاريخاً حافلاً بالمجازر، ومن ذلك أحداث 10 سبتمبر 1922 التي أحرق خلالها أتاتورك المدينة قبل أن يحوّلها إلى رماد. كآخرين إذن، سوف يؤلّف، وبشكل موازٍ لمسيرته الدّبلوماسيّة، رسائل ومقالات. ومن سفارة إلى أخرى، سيكون الشّعر دفتر يوميّاته. عاش في لندن وباريس وكريت خاصّة، وفي القاهرة وأفريقيا الجنوبيّة، وفي أنقرة وألبانيا والشّرق الأوسط، ليستقرّ أخيراً في أثينا، حيث سيمضي بقيّة حياته. وقد توطّن أثناء هذا التّرحال في اللّغة الإغريقيّة أكثر من توطّنه في بلاده، لذلك يقول: «أنّى توجّهت في ترحّلي، فإنّ اليونان كانت دوماً.. هي وجعي». وفي 1962، توقّف عن التّطواف، ليخلد إلى راحة التّقاعد بأثينا، التي عاد إليها أخيراً، عاد كما عاد أوليس إلى إيتاكِهِ، فقد توفّي فيها في 20 سبتمبر سنة 1971، بعد ترحّل استغرق العمر كلّه. وكانت مراسم دفنه فرصة لأعظم تظاهرة في وجه دكتاتوريّة العسكر. لقد نزلت حشود مهيبة من المشيّعين إلى الشّارع لمرافقة رفاته، رغماً عن الحضور المكثّف للجيش، وكانت تلك الحشود تردّد قصيد «براءة» الذي لحّنه منبوذ آخر، هو ميكيس تيودوراكيس. كان يونانيّاً حدّ الجذور، ولكن يونانيّ المنفى والشّتات، وبالتّالي يونانيّ أكثر من مرّة. ولسوف يكون دائماً منشد هذا «البلد الصّغير» المطوّق بالميثولوجيا وأشجار الكروم والزّيتون والتّماثيل والأرواح الهشّة: «إنّي أنتمي إلى بلد صغير، إنّه لسان بريّ.. صخريّ، يمتدّ وسط البحر المتوسّط، ولا يملك غير جهد أبنائه، البحر وضياء الشّمس. هو بلد صغير، ولكنّ إرثه عظيم ومهيب، إرث ما انفكّ ينتقل إلينا ويغذّينا (...). وما يميّز هذا الإرث، هو تعلّقه بكلّ ما هو إنسانيّ، والعدل هو ميزانه. وفي العالم الذي لا ينفكّ يضيق من حولنا، كلّ منّا يجتاح لا محالة للآخر، فعلينا إذن أن نبحث عن الإنسان حيثما كان..» (مقتطف من خطاب ألقاه سيفيريس في ستوكهولم في نوفمبر 1963). غرّد بملء صوته لغته المدندنة، تحوّلت مراراً إلى تآليف موسيقيّة، وكان سيفيريس يكتب بالاقتدار نفسه، باللّغة اليونانيّة الكلاسيكيّة المعقّدة، وبلغة أقلّ «نقاوة»، كيما يكون شعره مقروءاً لدى عموم النّاس. كان يغنّي إذن، ولكنّه كان يحترس من الغنائيّة المنفلتة، محبّذاً بساطة الصّياغة: «لا أنشد شيئاً آخر غير استخدام لغة بسيطة، فلتُمنحْ لي هذه المنّة. فنحن نُثقل دائماً النّغم بقدر من الموسيقى يجعله يغرق على مهل». لذلك تأتي كتابة سيفيريس منضبطة، منسكبة أحياناً في الرّخام، في الكلام اليوميّ، لتكون شديدة الإلماح وبسيطة في آن. وزاد من شهرته العظيمة، أنّ كتابته باتت مفهومة من قبل الجميع، ويسيرة عند التّرجمة، هذا، فضلاً عن مواجهته الشّرسة للنظام المستبدّ «للكولونالات»، ودفاعه الحماسيّ من أجل الدّيمقراطيّة. شاعر ومُواطن، منشد للقدر البشري، كان يبدو محلّقاً فوق مياه بحر إيجه، وهو ليس بمأمن من القلق الوجودي، من الشكّ واليأس. ويظلّ سيفيريس ذلك الذي غيّر في العمق الشّعر اليوناني، مازجاً السّماد الأصيل للميثولوجيا.. بالرّمزيّة، لتبقى مواضيعه الأثيرة: الخبز المرّ للمنفى، البعد التراجيدي للحياة، الأصدقاء الذين قضوا، الموت الذي يتنفّس بجانبنا، الحرب التي تلوّح من بعيد، الاغتراب. لقد أقام سيفيريس جسراً بين الإنسان الميثولوجي والإنسان المعاصر، فعلى أنامله انبعث هوميروس من رميم، ليعيش من جديد بين الناس في حياتهم اليوميّة، ومراوحاً بيت الأساطير الإغريقيّة والحياة اليوميّة للنّاس، يظلّ سيفيريس وسيطاً مُصالحاً في التّاريخ الإغريقيّ: «نحن نسعى إلى إعادة اكتشاف بذرة البدايات في إرث العالم القديم، عسانا نجعل عالم اليوم أكثر إنسانيّة» (ميتيستوريما 1935). وها أنّ ظلّه قد غداً اليوم يفوق مهابة.. ظلال الحجارة والزّيتون. وسيفيريس هو صاحب الرّسالة. من كلماته، يتصاعد الضّياء، مجرّداً، عارياً، كضياء أكتوبر على البحر. الرّحلات البحريّة تمضي من ضفّة إلى أخرى، من سفينة إلى أخرى، من مرفأ إلى آخر.. بحثاً عن مكامن الحياة «في ما وراء التّماثيل». أفق كلماته ينفتح على بحار أخرى، تتنفّس فيها أمواج غريبة، ولكن أيضاً الأرض ونسغ الأشجار، وهو الذي يعلّم الأطفال كيف يتهجّون الأشجار، ولم ينس شيئاً من أحلام التّماثيل، فكان دوماً الصّوت المهيب الذي يدعو البشر إلى المزيد من التّآخي والتّوادد: «في عالمنا الذي يتصاغر يوماً بعد آخر، بات الجميع بحاجة إلى الجميع. ينبغي لنا، وحيثما كنّا، أن نلامس كلّ ما هو إنسانيّ، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً». ما بين بخار الذّاكرة ومطر العالم، يكون سيفيريس قد غرّد بملء صوته، ويمكن لقصائده أن تستقرّ في راحة أيدينا، وقد غدت قريبة جدّاً منّا. «شاعر المستقبل»، لم يكن بوسعه غير استشعار المستقبل، وهو يتأرجح بين الحرب والاستبداد، وسفارات متكلّسة وكئيبة. ولكنّه قد يكون أنضج خميرة الأمل في الإنسان وفي الحياة، وبوداعة وتواضع أمعن حتّى أنفاسه الأخيرة، في توقه الجامح للسّلام وإلى شجر اللّوز المزهر. مختارات شعريّة لسيفيريس انفلات.. هذا هو حبّنا الذي كان، كم كان ينفلت ثمّ يرتدّ، ليعود لنا بجفون منحسرة، متنائية بلا حدّ، و ابتسامة جامدة، شاردة في عشب الصّباح، صَدَفةٌ غريبة.. كانت الرّوح في كلّ لحظة تسعى إلى فكّ طلاسمها. هذا هو حبّنا.. الذي كان يمضي.. وئيدا على غير هدى، بين الأشياء المحيطة بنا، كيما يبرّر رفضنا للموت بمثل ذلك الاندفاع. وما أسعفنا التشبّث بخواصر أخرى، أو معانقة رقبات أخرى، و لا أن نسعى بكلّيتنا، كي نهرق أنفاسنا في أنفاس الآخرين، عبثاً كنّا نغلق أعيننا.. فكذلك كان حبّنا.. لا شيء آخر غير التّوق الجارف إلى التريّث والاسترخاء، ونحن نمضي منفلتين. الشّاعر.. فراغ (...) و يتوانى الشّاعر في تأمّل الحجارة.. وهو يتساءل: هل ثمّة بين هذه الخطوط المقطّعة، تلك الذّرى، تلك القمم، تلك الانحناءات والأغوار، هل ثمّة في ذلك المكان حيث تتقاطع دروب الأمطار، عواصف وهلاك، هل ثمّة حركة للوجه، ملمح لـ اللّطافة، لأولئك الذين تضاءلوا بغرابة في حياتنا، أولئك الذين ظلّوا، ظلال أمواج، خواطر في محيط الأبديّة؟ أو لعلّه لم يتبقّ شيء غير الحمل الثّقيل، الحنين إلى العبء المرهق لكائن حيّ هناك، حيث نظلّ الآن بلا جوهر، منطوين مثل أغصان صفصافة مُفجِعَة، مرصوصة في قنوط مديد، فيما يحمل الماء الأصفر، المتدفّق عل مهل مع وحله، ما اجتثه من خيزران، صورة وجه مجمّد في ثبات مرارة أبديّة، الشّاعر.. فراغ. عمّ تراها تبحث أرواحنا؟ عمّ تراها تبحث أرواحنا، وهي تسافر هكذا على سطوح مراكب خربة مكدّسة بين نساء باهتات وأطفال متباكين لا تسلّيهم لا الأسماك الرّشيقة و لا النّجوم التي تومئ إليها قمم الأشرعة، منهكة من الأسطوانات الفونوغرافيّة، موثقة دونما إرادة منها لحجّ عقيم، متمتمة بلغات غريبة فتاتاً من الخواطر و لكن ما الّذي يحمل أرواحنا على السّفر هكذا من مرفأ إلى مرفأ على سفن متفسّخة تنقل الصّخر المتشظّي، متنفّسة كلّ يوم بمشقّة طراوة الصّنوبر سابحة أحياناً في خضمّ بحر، عديم التّماس، خالٍ من البشر، في وطن لم يعد هو وطننا، و لا وطنكم أنتم أيضاً. كنّا نعلم أنّها رائعة.. تلك الجزر الرّابضة هناك، قرب المكان الذي كنّا نمضي إليه على غير هدى، قليلاً في الأسفل أو قليلاً في الأعلى على مسافة طفيفة من ههنا.. هب لنا.. السّكينة (...) أصابعي، فوق العشب الطريّ، التقت أصابعك، لبرهة منخطفة، أحسست بدمك وهو يخفق، و في مكان آخر، استشعرت قلبك الدّامي. في ظلّ شجر الجمّيز، قرب الماء، ووسط نبات الغار كان السّكون يرفعك ويشتّتك من حولي، قريباً منّي، دون أن أن أفلح في ملامستك بأجمعك وأنت مندمجة بصمتك، كنت أرى خيالك يكبر ويتضاءل، يتبدّد في أخيلة أخرى، في العالم الآخر الذي كان يهجرك ويتشبّث بك. الحياة التي وهبت لنا كي نعيشها، ها أنّنا قد عشناها. رفقاً بأولئك الذين ينتظرون بمثل هذا الصّبر وهم شاردون بين الغار الأسود، رازحون تحت شجر الجمّيز، وأولئك الذين يتحدّثون إلى الخزّانات والآبار ثمّ يغرقون في تموّجات أصواتهم. رفقاً بالصّاحب الذي يشاركنا فاقتنا والوجع، ثمّ غرق في الشّمس كالغراب، في الجانب الآخر من الخراب، دون أن يأمل في مكافأة منّا. هب لنا، بعيداً عن السّكون.. السّكينة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©