الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المالد هوية احتفالية إماراتية

المالد هوية احتفالية إماراتية
24 سبتمبر 2008 23:29
قد يبدو للعيان أن ''فن المالد'' الذي يشتهر به مجتمع الإمارات هو فن أدائي بسيط، وربما يكون هذا الاعتقاد صحيحاً من جانب رسالته السطحية، ولكنه في الواقع فن عريض أصيل متكامل، وشكل فلكلوري يمازج بين عناصر الفرجة والدراما وبه إمكانات ومفردات عديدة من فنون القول والقص والأداء والسرد، والاهتمام بالمكان واستخدام عناصر ممتدة في المسرح مثل الراوية، والموسيقى وغيرها من العناصر التي جعلت منه فناً مختلفاً إن لم يكن استثنائياً، وربما يكون هو الفن الوحيد الأقرب الى الاحتفالية ومسرح الحلقه ومسرح السرادق حيث تشتهر الفرق الدينية في مصر في تقديم المدائح النبوية في تشكيل فني بديع، كونه يقدم للجمهور في مكان محدد معتمداً على الحركة الداخلية للمؤدين، فهو طقس ديني يحمل في ثناياه الشعر والإيقاع والترديد والتناغم والابتهالات وتنويعات من طبقات الصوت وحلاوته، بما يمتع المدرك البصري لدى السامع· محمود إسماعيل بدر ''فن المالد'' يشتهرعادة مع ليالي شهر رمضان، وهو أحد أهم أشكال الأغاني الدينية في مجتمع الإمارات، ومخصص للاحتفاء بالسيرة النبوية المحمدية العطرة والمدائح النبوية التي تتغنى بأخلاقيات الرسول العظيم، وهو فن متوارث تشتهر به فرقة السيد عبدالله الهاشمي للمالد في أبوظبي، وتعتز بأنها تحي ليالي الشهر الفضيل من خلال هذا الفن الممتد عبر مئات السنين باعتباره الحالة الدينية الروحانية الإنسانية المتعمقة في جذور الموروث الشعبي المحلي· ويشير الدكتور فاروق أوهان في كتابه ''من الاحتفال الشعبي الى المسرح'' إلا أن هناك نوعين من ''المالد'' أولهما يدعى ''المولد'' وهو الذي تقدم فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرؤها أعضاء المجموعة بالتسلسل، بينما تردد المجموعة بين فقرة وأخرى جملة ''الصلاة على النبي'' بما يمثل مظهر الراوية وترديدات الكورس كما هو معروف في المسرح منذ القدم ولا سيما لدى الإغريق، وبذلك يكون المولود معتمداً على المدح الجماعي أو الفردي ولكن بدون آلات موسيقية ومن أهمها ''الطار''· أما المالد الحقيقي فهو فن جماعي تضاف عليه ''شلات دينية'' بمصاحبة الطار في بعض الأحيان، وتكون مجموعة المنشدين مقسمة الى صفين متقابلين جلوساً، لكل صف قائد يجلس في الوسط وله ثلاثة مساعدين يتناوبون مع ترديد الأشعار المغناة· ويقدم ''المالد'' بفرش المكان للفرقة، ومن طقوسه تطييب المكان بعطور العود والبخور وماء الورد ونار الفحم، وهي عادات خليجية مشهورة، وقديما لم يخل عرس في الإمارات من إحياء ''المالد'' الذي يقام عادة بعد صلاة العشاء ممتدا حتى ''زفة المعرس'' وسط بعض المظاهر الاحتفالية التي يسبقها أداء عرضة ''العيالة'' من فترة العصر حتى صلاة المغرب، وهي مظهر احتفالي فلكلوري تمزج بين الشعر المغنى والحركات والغناء والموسيقى· الشيلة الأولى تبدأ مراسيم إقامة ''المالد'' بالردة التي ترد على لسان المجموعة ممن لا يحملون ''الطارات'' فيستهلونه بشيلة أولية يقودها المداح، في حين ترد عليه المجموعة بجملة ''صلى الله عليه'' فيقول مثلا: بكى الغريب لفقد الدار والجار، إن الغريب فجيع دمعه جاري، وتعود المجموعة للرد عليه بكلمة ''صلى الله عليه'' ويدخل ذلك في باب استخدام ظاهرة ''الراوية'' وتمازج الأداء الفردي والجماعي بما يعرف بالثنائيات الأدائية في المسرح، في حين تجد فن القصص القرآني بارزا في ''المالد'' مثل معجزة الإسراء والمعراج التي حدثت للرسول الكريم فيبدأ القص بالقول: ''صلي يا رب على أحمد، النبي المختار طه المؤيد الممجد، نوره لا يتناهى، الأمين أتاه ليلا بالبراق أسرع دناها، قال اركب يا محمد لتنل فخرا وجاها، قدر ما سبع الطباق في دجا الليل طواها''· ونلحظ هنا أهمية التركيز على المكان وروحانية الحدث على نحو هذه الأبيات التي تشير الى المدينة المنورة: ''يا رب صلي على محمد، يا رب سلم على محمد، نوره تشعشع على المدينة، يا برق شامي بلغ سلامي على التهامي سيد محمد''· كما يبدو استخدام الحالة الرمزية واضحاً في أبيات ''محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم'' ونعرف أن الكونين هما الدنيا والآخرة، والثقلين هما الإنس والجن· بينما نجد فن السرد والتضمينات في قيام قائد الفرقة بسرد ألوان من قصة مولد الرسول ورحلته مع الرسالة وسط حالة تناغمية من ترديد المجموعة في قالب فني متنوع في الشكل والمضمون، حيث نجد ظاهرة ''القصاص'' منسجمة تماما مع هذا اللون من الفن، فقد عرف العرب ''القصاص'' الذي يحكي لهم حكايات من الماضي وقصص الأولين، وبذلك يكون القصاص صورة من صور الحكي الذي يتناول تجسيد الأحداث والشخصيات· شيلة الحركات في ''المالد'' تبدأ في نهاية الأبيات العشرة ''شيلة الحركات'' وهي تقليد لحركات العمل البحرية غالبا، حيث يتكاتف أفراد كل صف من الفرقة فينحنون جلوساً الى الأرض ثم يستقيمون على قواعدهم، ويحركون أياديهم اليمنى باتجاه الأرض مع الانحناء باتجاهها، بينما تبقى الأيادي اليسرى لكل منهم مضمومة للتماسك· وتبدو لنا هنا المشهدية البصرية التي تصنعها تنويعات من الحركات بين الصفين المتقابلين، في حين يرتفع الحماس من خلال تنويعات الأداء الصوتي من الخفيض الى المتوسط الى العالي في ذروته بما يشبه ''الكريشندو'' في الأداء المسرحي· تجتذب بردة البوصيري وبخاصة قصيدة البريئة معظم الفرق التي تؤدي المالد ومطلعها ''أمن تذكر جيران بذي سلم، مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم، أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من اضم، محضتني النصح لكن لست اسمعه، إن المحب عن العذال في صمم'' حضور البوصيري إن دراسة الأشعار والقصائد التي تقدم في فن ''المالد'' تطلعنا على حقيقة مهمة، هي أن هذه الأشعار التي تأخذ الصفة الدينية والروحانية تتمتع بخاصية كبيرة هي ''النغمية'' التي تصب في قالب المدح أو المديح، وغالبا ما تتم الاستعانة بقصيدة البردة الأم للبوصيري وقصيدة نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقصائد بعض شعراء الصوفية، ولك أن تتخيل تلك الأجواء الشعرية والصور الفنية الرائعة التي تحتويها مثل هذه القصائد· ناهيك عن أن المالد هذا الفن الموروث منذ مئات السنين ما زال محافظاً على هيبته ومفرداته، كنموذج إنساني كان يقام في مناسبات الأفراح والمولد النبوي الشريف وفي حالات ختان الأطفال والإيفاء بالنذور، بما يدخل في منظومة الموروث الروحي للمجتمع، وعلاقة الفرد المباشرة مع الطقوس الدينية ضمن محتويات الموروث الشعبي وهو جزء من الحاضر الذي يشغله فن المالد بحضوره الأثير للمحافظة على الثقافة العربية الإسلامية في مجتمع الإمارات وتمثله بفنون الأشكال الشعبية العربية المتعددة· حكايات ومشاهدات من صالونات أهل الجزيرة مجالس للخاصة والعامة·· والرحالة يسجلون مظاهر الاحتفال بشهر رمضان محمّد رجب السامرّائي كان النبي الخاتم محمّد (صلى الله عليه وسلم) دائم الصلة بالمسلمين، ووظيفته تبليغ الناس الرسالة السمحاء، لهذا يكون بيته مجلساً صغيرا لهم، ومسجده هو مجلسه الكبير، وبين المجلسين كان عليه الصلاة والسلام يرافقهم ويلتقي بهم في الأسواق والمناسبات الاجتماعية، علاوة على صحبته لهم في أثناء الغزوات وفي الأسفار كما حصل في حجة الوداع· وقد أشار ابن اسحق إلى أنّ المسجد النبوي قد بُنِيّ من حجارة منضودة، بعضها على بعض، وجعلت عُمده من جذوع النخيل، وسُقِّفَ بالجريد، وجعلت قبلته من اللّبِن أما بيوته (صلّى الله عليه وسلّم) فكانت تسعة، بعضها جريد وطين وسقفها جريد، وبعضها من حجارة مرضومة، بعضها فوق بعض، ومسقفة بالجريد أيضاً، وقال الحسن بن أبي الحسن: كنت أدخل بيوت النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا غلام·· فأنال السقف بيدي، وكانت حجرته (عليه الصلاة والسلام) أكسية من شعر مربوطة من خشب عرعر وكان بابه (صلى الله عليه وسلم) يقرع بالأظافر أي لا حلق له، ولما توفي أزواجه رضيّ الله عنهنّ، خلطت البيوت والحجر بالمسجد، وذلك في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان· كذلك اتسمت مجالس الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالبساطة والتواضع فقد روى البغوي عنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ''آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس''· وهذا التواضع النبويّ يجعل الأعرابي الذي يدخل مسجده حين يسأل: أيُّكم محمّد؟ فلم يكن النبي الكريم ليتميز من أصحابه بمقعد أو ملبس معين أو زيٍّ بل كان (عليه الصلاة والسلام) واحداً منهم· وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلتقي في البداية أصحابه في مجلس خاص بمكة يعرف بدار الأرقم يعلمهم الكتاب والحكمة، ولمّا ازداد عدد المؤمنين به وبدعوته صار يلتقي بهم في ساحة المسجد وفي كل مكان ومناسبة، ويتميز مجلسه بالجد وقت الجد، فكان المجلس النبويّ عند نزول القرآن المعجز خاشعاً جاداً، فروي عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم): ''أنّه كان إذا أُنْزِلَ عليه الوحيّ كرب لذلك وتربَّد في وجهه، فلما أتليَ عنه أي سُرِّيّ عنه وكشف رفع رأسه''· وكان رسول الله لا يسردّ الحديث في مجلسه كسردنا، فهو أبعد الناس عن التطويل والإطناب المُملّ· تقول السيدة عائشة أم المؤمنين (رضيّ الله عنها): ''كان يحدث حديثا لوعدّه العَّاد لأحصاه''· ومن ملامح المجلس الشريف أنّه (صلى الله عليه وسلم) كان يسقي ضيفه أولاً ثم يشرب بعده، وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة، لأنّ القلوب قد يصيبها الكلل والملل والسآمة من كثرة المواعظ فتفقد المواعظ قيمتها· مجالس الخاصة والعامة وجدت مجالس القصصّ في العهد النبوي الشريف حيث كان الناس يتداولون رواية أخبار الجاهلية وقصصها في المسجد، ثم تطورت تلك المجالس لتشمل قصص الأنبياء وحكايات الأمم السالفة، وكان عبد الله بن سلام (رضيّ الله عنه) من أبرز رواة القصص، ووهب بن منبه وطاووس بن كيسان وموسى بن سيار في عصر التابعين، وعبيد بن عمر الذي يعد أوّل من قَصَّ في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه· وحفلت الأمصار الإسلامية على مجالس خاصة وعامة إبان الخلافة الإسلامية المتعاقبة فيعني الجلوس في اللغة القعود، والجلسة هي الهيئة التي تجلس عليها، والمجلس موضع الجلوس· والتراث القصصي متصل الحلقات، وتتميز القصص العربية بفيض حكائي يشمل تركيب شكلها القصصي جميعه· وهناك مجلس للخاصة وآخر لمجالس القصّاص في أيام الدولة العباسية، واختصت المجالس الخاصة بالحكايات القصيرة، من نوع الحكايات المرحة والنوادر والأحاديث التي تكون سرعة البديهة حاضرة فيها عند المجيب مع الجواب المسكت، أما مجالس القصاص فتروى فيها الحكايات الطويلة· وكانت على سبيل الذكر طرقات بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية مليئة بالقصاصين، ويبدو لكثرتهم في هذا العصر أنْ أمر الخليفة العباسي المعتمد على الله في سنة 279هـ في عاصمة الخلافة ـ سُرّ مَنْ رَأى ـ سامرّاء الحالية، بالنداء بأن يقعد على الطريق ولا في المسجد قاصّ ولا صاحب نجوم ولا زاجر، وحلف الوراقين ألا يبيعوا كتب علم الكلام والجدل والفلسفة· أقدم المجالس؟ تحفل المصادر العربية الكثير من الكتب التي أفردت للمجالس صفحاتها، العديدة، فكتاب السّمر العربي ''ألف ليلة وليلة'' مجلس للقصّ والحكي بين السائل الملك شهريار والراوية شهرزاد التي تلهبه بحكاياتها الشائعة عن قتل بنات جنسها· وهناك مجالس للوعظ الديني مثل مجلس الإمام ابن الجوزي الذي كان مجلسه ببغداد يضم آلاف الناس حتى تسدّ بهم الشوارع، ومجلس الوزير أبو عبد الله العارض المعروف بابن سعدان وهو يستمع في مجلسه لأحاديث الأديب أبو حيّان التوحيدي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة( ت 414هـ)، حيث سامر التوحيدي ابن سعدان عبر أربعين ليلة بمواضيع فلسفية ومُثاقفة، ضمها كتابه الكبير ''الإمتاع المؤانسة''· وهناك في الأدب العربي أحاديث لابن دريد وهي أربعون حديثاً، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، أربعمائة مقامة، وهذه الأرقام تدل كلها على الكثرة· ويُرجح أن يكون أقدم مجلس ـ صالون أدبي ـ يعود تاريخه إلى النصف الأول من القرن الأول للهجرة على حدّ قول أبي الفرج الأصفهاني الذي يُنسب إلى وهب بن زمعة المُكنى بأبي دهبل· المُحاكي في العصر العباسي تطورت الحياة بمناحيها خلال العصر العباسي وما طرأ عليها من تلاقح حضاري في حركة إحياء العلوم، وبعد نضج العقول عاد القصاص إلى المسجد فوجد الواعظ قد سبقه فقد استغنى الخليفة العباسي عن القصاص، وانقلب الواعظ إلى العامة مجبرا يسامرهم في مجالسهم ويشاطرهم أفراحهم بمآثر من أيام العرب حتى صار ظاهرة من ظواهر المجتمع، بعد أن فقد القصاصون ثقة أهل التقى وبدأت الثقة تتحول عنهم إلى طائفة خلفتهم هي طائفة المذكرين، ويعرف مجلسهم بمجلس الذكر· وإن أفول نجم القاص قد أدى من ناحية إلى ظهور شخصية أخرى هي المُحاكي· وهناك نماذج أدبية عباسية تشبه المحاكاة، تبرز قدرة المحاكي على التأليف، لما يتميز به من قوة الملاحظة وقدرة على التقليد، فضلاً عن أنّ الواقع قد يتطلب بفعل الضرورة المحتمة وجود حكاية مبتكرة تلبي الحاجة الماسة· وقد اتسع نطاق المحاكاة ليشمل فن القصاصين وهم الذين تميزوا بقدرتهم على الملاحظة والتقليد، فمنهم المداح والمقلد والحكواتي العربي· ووجد عند المحاكي التسلية المحببة، يلتقي الفريقان في أزقة وحارات بغداد إذ يقص المحاكي على المستمعين نوادر الأخبار وغرائبها، ويتفنن في تقليد هازل للنازلين ببغداد من الأعراب وغيرهم وهنا يجد العامة عنده المتنفس لما يعانوه من ضيق وكرب، حيث كان المحاكي لسان العامة في الهزء من معايب الحياة الاجتماعية التي أثرت في انجذابهم إلى المحاكي الشعبي الذي يعد وسيلة ترفيه من جهة ووسيلة تعبير عن الواقع من جهة أخرى· ومن سمات المحاكي الممثل الشعبي ما يقوله الأديب العربيّ الجاحظ (ت 255هـ) في البيان والتبيين بأن: الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارجهم في النطق وكذا يفعل في تقليد الخراساني والسندي والحبشي وغيرهم حتى لتكاد تجده أطبع منهم، فإذا حكى ''الفأفأء'' فكأنما قد جمعت كل طرف في كل فأفأء في الأرض في لسان واحد، ويعطي الجاحظ أمثلة لفنانين موهوبين من فنانيّ الحكاية أمثال أبو دبدوبة مولى آل زياد الذي كان يقف بباب الكرخ ـ إحدى مناطق بغداد العباسية والحالية ـ فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم جسيد ولا متعب بهير إلا نهق''· وكانت بداية المرحلة الأخرى من مراحل تطور فنّ الحكواتي بالقرن الخامس الهجري (القرن الحادي عشر الميلادي) مجالس الحكايات الشعبية عرفت المدن العربية قبل عقود قصيرة تنظيم مجالس خاصة تعقد لرواية حكايات من التاريخ والتراث، أو الاستماع إلى الراوي وهو يقص على مُستمعيه بصوت مسموع وبحركات تمثيلية تلك الإخبار والحكايات، وبعض من السير الشعبية أمثال سيرة الشاعر عنترة بن شداد العبسي أو سيرة بني هلال، أو الزير سالم، أو حكايات ألف ليلة وليلة مثل سندباد البحري، أو علي الزيبق وغيرها· وانتشر هذا الراوي في العواصم العربية مثل بغداد ودمشق والقاهرة، حيث يحتشد حوله المستمعون ليروي لهم حكاياته· رمضان عند الرحالة حافظ العرب على رحلة التجارة ورحلة الجهاد والسفارة، ضمن ما وصلهم من التركة الحضارية التي وصلتهم وقد حرص المسلمون في طلب الرحلة، ولكنهم أضافوا ثلاث حاجات جديدة إليها حتى تلبي أو تجاوب متطلبات الحياة المتنوعة، والتي تمثلت وعبرّت عن مبلغ تنشيط تلك الرحلة في: رحلة الحجّ ورحلة طلب العلم ورحلة التجول والطواف· وبرز في التراث الجغرافي العربي وعبر القرون الإسلامية المتعاقبة رحالة مسلمون جابوا الآفاق ودوَّنوا بقلمهم ما وصلوا إليه من مدن وبلدان وأصقاع تجاوز بعضهم فيها رقعة الخلافة، وسجلوا لنا تفاصيل عديدة عن عادات وتقاليد الحياة الاجتماعية لتلك الأقوام والمِللَل والنِحَل التي قصدوها، فكانت بحق سجلاً لأولئك الناس احتفظ بها العرب في مُصنفاتهم الجغرافية ونهل منها الغربيون ما شاء أن ينهلوا وأعجبوا وأشادوا بكل فخر واعتزاز بتلك الرحلات العربية في مؤلفاتهم الصادرة لاحقاً· وقد دونّ الرحالة العرب الذين قصدوا جزيرة العرب ما شاهدوه من احتفالات تقام خاصة في استقبال الأشهر العربية، ورسموا في رحلاتهم صورة ناطقة حيّة عن احتفالات المسلمين بشهر رمضان المبارك في كلٍ من مكة المكرمة والمدينة المنورة، واخترنا رحالتين يُعدان من أشهر رحالة العرب هما: ابن جبير، وابن بطوطة· ليلة أَهَلَّ الهلال عرفنا ابن جبير في رحلته عن الاحتفاء بالأهِلَة في مكة، وما يجرى فيها من احتفالات وكيف دخل أمير مكة مكثر المذكور داخل الحرم الشريف مع طلوع الشمس، والاحتفال بشهر رمضان فيها، فسجل الاهتمام الكبير بزيادة أحجام وأعداد وسائل الإضاءة منذ صلاة المغرب ـ الفطور وحتى الفجر ـ السحور، وتجديد فُرُش الحرم الشريف من الحصير عند دخول غُرّة الشهر الكريم· وأشار الرحالة إلى إقامة صلاة التراويح في الحرم المكي في عدّة أماكن متفرقة· وذكر ابن جبير عن السحور في مكة، الذي كان يتم من المئذنة التي توجد في الركن الشرقي للمسجد الحرام، وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً ومُذكِراً ومُحرِّضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانهِ ويقاولانهِ· ونظراً لترامي الدُور بعيداً عن الحرم المكي حيث يصعب وصول صوت المؤذن كانت تنصب في أعلى المئذنة كما يقول ابن جبير: ''خشبة طويلة في رأسها عمود كالذراع وفي طرفيه بَكْرَتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يُوقِدان مُدّة التسحير فإذا قَرُبَ تبيّن خطى الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرّة بعد مرّة حطَّ المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ وثُوب المؤذنين من كل ناحية بالأذان· وعندما يرى أهل مكة من سطوح منازلهم العالية القنديلين قد أُطفئا علموا أنّ الوقت قد انقطع''· كذلك دوّن ابن جبير في أثناء إقامته في مكة لمظاهر ختم القرآن الكريم في كل وتر من الليالي العشر الأواخر في رمضان، حيث كان أبناء مكة من الصبية يتنافسون في ختمه والاحتفال بذلك بإيقاد الشموع والثريات وتقديم الطعام· وأشار الرحالة إلى ابن إمام الحرم الذي ختم القران في ليلة خمس وعشرين وأعقب ذلك بخطبة بليغة نالت استحسان الحضور على الرغم من صغر سن الخطيب· ونقل حكاية أخرى عن غلام مكيّ من ذوي اليَسار دون الخامس عشر احتفل أبوه به عند ختم للقران العظيم في ليلة ثلاث وعشرين، حيث أعدّ له ثريا صُنِعت من الشمع وذات غصون علقت فيها أنواع الفواكه اليابسة والرطبة، وأعدّ لها والده شمعاً كثيراً، ووضع وسط الحرام شبيه المحراب المربع أقيم على قوائم أربعة تدلت منه قناديل مُسرجة أحاط دائرة المحراب المربع بمسامير مدببة الأطراف غرز فيها الشمع وأوقدت الثريا المغصّنة ذات الفواكه، ووضع الأب بمقربة من المحراب مِنْبَرا مُجللاً بكسوة مجزعة مختلف الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم وقد ملىء المسجد بالرجال والنساء وهو في محرابه وحوله الشمع المضاء· عادات المكيين يُعدّ ابن بطوطة شاهد عيان على حلول غرّة شهر الصوم المبارك في مكة المكرمة، فذكر لنا في رحلته تفاصيل عديدة عن عادات أهلها استهلال الشهور، ومنها شهرا رمضان وشوال، فقال عن عادات المكيين في استهلال الشهور: ''وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقوّاده يحفلون به، وهو لابس البياض معمم، متقلدٌ سيفاً، وعليه السَكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر، ويشرع في طواف أسبوع، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم، فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر رافعاً بذلك صوته ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم ، ويفعل به هكذا في سبعة أشواط، فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ثم ركع خلف المقام أيضاً ركعتين ثم انصرف، ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفراً وإذا قدم من سفر أيضاً''· ثم عرض عادة أهل مكة في شهر رمضان المُعظّم فقال: ''وإذا أهلَّ هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نورا، ويسطع بهجة وإشراقا، وتتفرق الأئمة فرقاً من القُرّاء يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلاّ وفيها قارئ يصلي بجماعته، فيرتج المسجد لأصوات القُرّاء، وترقّ النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين· ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفردا، والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته، فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة وكان ذلك إعلاما بالعودة إلى الصلاة ، ثم يصلي ركعتين ثم يطوف أسبوعاً، هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى، ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون· وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً، وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، والمؤذنون في سائر الصوامع، فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يقدان، فإذا قرب الفجر، ووقع الأذان بالقطع مرة بعد مرة حطَّ القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان، وأجاب بعضهم بعضاً· ولديار مكة، شرّفها الله، سطوح فمن بَعُدَت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل· وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة، فإذا ختم نصب له منبر مزين بالحرير، وأُوقِدَ الشمع، وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©