الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السل غزا أجساد الأدباء والشعر واتخذ معهم صفة رومانسية

السل غزا أجساد الأدباء والشعر واتخذ معهم صفة رومانسية
24 سبتمبر 2008 23:35
لم يحظ مرض باهتمام الأدباء، بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر حتى أواسط القرن العشرين، بمثل ما حظي به السلّ· فلقد دار حوله لغط كبير، وأسهم غياب الدواء الناجع، والتشخيص الدقيق في سيادة أوهام وتصورات شعبية وأدبية عنه· ولم يتسنَّ للعلماء التيقن من أن مسببه عدوى بكتيرية حتى العام ،1882 غير أن ذلك الاكتشاف لم يضع حدّاً لمخاوف الناس، ولم يلجم جموح مخيلاتهم إزاء ما مثّله من رعب، فلقد ظل يحصد أرواح ضحاياه لفترة طويلة لاحقة· والمتأمل لرواية القرن التاسع عشر، مثلاً، سيقع على عدد هائل من النماذج التي جسدت الإصابة بالسل، وشكلت عبره خطابها الأدبي لارتباطه بأفكار كالعودة إلى الطفولة، والموت التدريجي، واستعارات على شاكلة ذبول الجسد، وانطفاء جذوة الحياة، والجسد الشفاف· وما يدهش حقاً إصابة عددٍ لا يستهان به من الأدباء بالسلّ، فلقد داهم -على سبيل المثال لا الحصر - شيلي وكيتس وتشيخوف وكافكا وجورج أورويل، فمنهم من وظّفه أدبياً، ومنهم من أسهب في الحديث عنه خارج الأدب ككافكا في يومياته· وما يميز السل عن غيره من الأمراض، أنه يكثف حياة المصابين به، بتقصيرها، وجعل ضحاياه يتأملون مصائرهم، وما انقضى من أعمارهم، دون أن يباغت بموت سريع كالسرطان، مما يتيح مجالاً لمعايشته والكتابة عنه، وهو يضفي نوعاً من الروحانية على المريض، ويتضافر ذلك مع تغيرات جسدية كالهزال والشحوب والإرهاق السريع· من الفقراء إلى الشعراء ولقد ارتبط السل عادة بالبيئات الفقيرة والعمالية المكتظة قليلة التهوية، والباردة، وكذا بسوء التغذية، لكن ذلك لم يمنع تسلله إلى البيئات الأخرى والفئات الأغنى· لاشك أن الرومانسيين هم من ربطوا السل بمشاعر الحب المكبوتة فـ''كيتس'' يكتب، بعد أن فارق محبوبته، وكان قد أصيب بالسل: ''لو أن لي فرصة في الشفاء (من السل)! إن هذا الهوى سيقتلني''، وشبيه بذلك ما توضحه إحدى شخصيات رواية ''الجبل السحري'' لتوماس مان عندما تقول: ''إن أعراض المرض (السل) ليست سوى مظاهر متخفية لسلطان الحب، وما المرض سوى تحول عنه''· ومن هنا تواءمت الإصابة بالسل أدبياً مع تشخيصات قائمة على رهافة الحس، وكبت المشاعر، والوداعة· لقد كان السل -بحق- المنصة الأمثل للتعبير عن العذابات النفسية لدى الأدباء الرومانسيين، ولعلّ ما أُسبغ عليه من جماليات جعله الأقرب إلى تمثيلات الشاعر جسدياً وروحياً، فـ''شيلي'' يعزي صديقه كيتس، قائلاً: ''إن هذا السل مرض مغرم، بصورة خاصة، بأولئك البشر الذين يكتبون شعراً جيداً مثلما فعلت أنت''· وإذا كان السل قد ضرب المجتمعات الغربية بقسوة فدفع أدباءه إلى التعبير عنه، فإن الأدباء العرب، الذين عاينوا المرض ورأوا وطأته الثقيلة على من ابتلي به، لم يكونوا بعيدين كثيراً عن أجواء نظرائهم، فـ''زينب'' هيكل، وهي تعد لدى نفر من النقاد فاتحة الجنس الروائي العربي، تموت بطلتها في النهاية بعد أن تصاب بالسلّ، وثمة من يربط ذلك بتأثير قراءات هيكل للرواية الغربية، ولاسيما تأثره بـ''غادة الكاميليا'' لدوماس، وما قد يعزز ذلك أن موت زينب مسلولة، وهي ابنة الريف والشمس والهواء النقي، يفتقد المسوغ باستثناء إشارته إلى تلاعب الأقدار بمصائر شخصيات الرواية عامة· ولبشارة الخوري قصيدة بعنوان ''المسلول'' يتحدث فيها عن شاب قروي فتيٍّ تُصوِّحه المدينة الـمُعبر عنها بفتاة لعوب تستغله وتحطم قلبه، ويتواكب ذلك مع إصابته بالسل ثم موته، الذي يُبرَّر بصدقية حبه، أو أنه بتعبير الشاعر ''قضى هوى'' لا لإصابته بالمرض وحسب· أما محفوظ فإن شخصية رشدي عاكف، الشاب المستهتر، الذي يقع في غرام ابنة الجيران نوال، تلقى مصيراً مأسوياً بإصابتها بالسل· فرشدي يُعاقب بمرضه على تخبطه الأخلاقي وسلوكه غير السوي قبل أن يعثر على من يحب· وتأتي إصابته بالسل كرادع نهائي يكفر عبره عن أخطائه· بين الإسكندرية وبيروت أما رواية ''يا بنات إسكندرية'' لإدوار الخراط، فإننا نقف في فصلها الثامن المعنون بـ''غزال مضروب على الرمل'' على جانب من حياة ميخائيل؛ الشخصية الرئيسة في الرواية، المتعلق بصداقات شبابه المبكر· ويخبرنا الخراط على لسان ميخائيل السارد بأمر إصابة صديقه أنطوان بالسل بعد أن طالت كحته ذلك الشتاء، وعندما يقوم الطبيب بفحصه يجد نقطة صغيرة في رئته اليسرى· يُعالج أنطوان في مصر، ثم يذهب إلى لبنان للاستشفاء، ويبعث منه رسالة إلى ميخائيل يعلمه فيها بوضعه الصحي والنفسي، مشدداً على إحساسه بالكآبة التي يدفعه المرض إليها، فهي إحدى علامات الجاذبية الرومانسية، بإضفائها مشاعر رقة على الشخصية المصابة، وتكاد تكون المرادف للمرض· فينبغي أن تملك منذ البداية ذلك الحزن النبيل لتلتقط المرض، فضلاً عما تحمله الرسالة من إحساس بالعزلة، الذي يوفره السفر، فهو يخاطب صديقه عن بعد، محمِّلاً رسالته نغمة حب غلامية، ينزعج منها ميخائيل، لأنه عاين زيفها لدى صديق آخر عندما تعرض هو إلى محنة حقيقية· وإذا كانت تلك النغمة دالة من جانب على ''طرطشة'' عاطفية ومبالغة اتسم بهما التعبير الرومانسي عن الحب، فإنها تلمح كذلك إلى عجز أنطوان عن تفريغ عواطفه، أو كبته لها، وهو سبب من أسباب الإصابة بالسل في عرف الرومانسيين كما سبق وذكرنا· وحين يعود أنطوان إلى مصر، يقرر ميخائيل الالتحاق به على الرغم من محاولة أمه ثنيه عن عزمه· ويختار أنطوان نزلاً صحراوياً في منطقة العامرية ليكمل رحلة علاجه· ويأتي هواء الصحراء الجاف والغذاء الجيد، وهما شرطا تحسن حالته، مكملين لدور الصحراء الرمزي الذي يعيد الإنسان إلى ماض بدائي، لا يعبر عنه بحياة البداوة والشعر الجاهلي الذي يستذكره ميخائيل مدفوعاً بأجوائها فحسب، وإنما بمزجه التأمل بالغموض الذي يلف رحلة صيد يقوم بها أحد النزلاء ليصطاد غزالاً، وتتم المماهاة بين الغزال القتيل وأنطوان قتيل المرض الذي ''يبدو مهزوماً، ملقى به على الرمل، ولكنه عنيد شاحب الوجه كأنما نزفت عنه كل دمائه'' إنه ضحية ذلك الغموض الذي تخيره دون سواه، وغير حياته كما يليق بأي مرض عصي على الشفاء· وعندما تقع المفاجأة ويشفى منه، نبصر انبثاق شخصية أخرى تكاد تكون غريبة عن الأولى· ولعل وصف الخراط الجسدي لأنطوان، وهو في النزل الصحراوي يمهد للتحول في شخصيته، فهو يصف جلده بالشمعي الأبيض وكأنه تمثال من الشمع، وفي هذا معنى يتجاوز الأثر المرضي، مفسحاً المجال لفكرة الحيادية وانمحاق الذات أو انزوائها متقبلة التحول الذي سيسلخها عما كانته، فأنطوان يختار لبنان مكان إقامة دائماً، وحين يزوره ميخائيل بعدها بسنوات يكتشف أنه يجالس شخصاً لا يعرفه، فهو ليس الشخص الذي شاركه النضال، منتصف الأربعينات، في الحلقة الثورية التروتسكية، وهو بالكاد يتكلم اللهجة المصرية، وترتفع عقيرة ابنه بالنشيد الوطني اللبناني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©